18 ديسمبر، 2024 7:35 م

ساحة التحرير وهموم ما بعد عبد المهدي

ساحة التحرير وهموم ما بعد عبد المهدي

بعد غياب ايام كنت فيها خارج التغطية قررت ان اكون هناك لا ارى عن قرب ماذا احدث رحيل صاحب العدس تلك المكرمة التي قورنت كثيرا مع مكرمة سلفه السابق يوم منح ( المحاصرين ) دجاجة بعد انتظار طويل على ايام الحصار فما كان من المحاصرين المكرمين الا رفع تلك الدجاجة على رمح والدوران بها بين الاحياء السكنية في سيارة مكشوفة ( بيك آب ) وترديد اهزوجة مؤثرة ومكثفة تقول : ( يطوير الجنه اشهلغيبه ) وكان دخولي للساحة من جهة ساحة النصر حيث حدد مكان التظاهر ببعض الصبات التي رفعها ابو العدس في اول عهده واعتبرها اهم من انجازات بونابرت وكان هناك وجود امني خفيف عند المدخل وعلى بعد خطوات وجدت احد الزملاء الساخرين رغم نقمتهم على الوضع فسألته لماذا تاخرت استقالة رئيس الحكومة ؟ ابتسم ثم تحولت الابتسامة الى قهقهة عالية لفتت نظر البعض ثم قال :

. اظن ان نظارة القراءة الخاصة بالسيد رئيس الحكومة كانت منتهية الصلاحية يعني ( اكسباير ) ولم تسنح له الفرصة لاستبدالها في بداية التظاهرات .

. طيب وما علاقة التظاهرات بنظارات حضرته ؟

. سؤال مهم جدا .. ياصديقي بما ان النظارات اكسباير كان الرجل يقرأ ( اريد وطن ) على انها ( اريد عدس ) وفسرها ان المتظاهرين متمسكين به دون غيره من فرقاء السياسة لذا ( لطش ) كل هذه المدة .

. وماذا عن شعار ( ارحل .. ارحل ) الذي رفع في كل ساحات التظاهر الم يكن معنيا به ؟

. سأله احد الزملاء عن رده على شعار (ارحل ) فأبتسم قال هذا ليس لي انما كان لسيد مقتدى وهادي العامري وعمار والحكومة العميقة وتعرف كما يعرف الاخرون انا ابو العدس وليس الحكومة العميقة حسب تسميات ساحات التظاهر . ثم ضاع في الزحام فتقدمت باتجاه ساحة التظاهر وجبلها العتيد وهناك وقفت كما يقف العرب امام اطلال الماضين امام جمهورية مرجان تلك البناية التي تجاور الساحة وتتخذ منها الصحافة مقرات لها .. مرجان التي انفرط عقدها واغلق بابها وتفرقت حسناواتها وجفت اقلامها وافتقدت المطابع صحفها .. وقفت مستذكرا بيت المتنبي :

(الا اثلث ايها الطلل

فأننا نبكي وترزم تحتنا الابل )

واذا كان المتنبي به رغبة للبكاء فلا رغبة لي ولا يعنيني الطلل الحالي بشيء او ذكرى .. شعرت بيد توضع فوق كتفي ، التفت بهدوء فباغتتني صاحبة اليد بطبع قبلة على خدي بعيدا عن الكمامة وكانت زميلة رئيسة تحرير من جمهورية مرجان ودار سلام وكلام ثم ختمت هي الحديث بـ ( طالت غيبتك ياسمر علينا ) ولم اسالها عن الغائب المقصود وانا اعلم بأن لا انا ولا المنتظر مقصودان بهذا الغياب .. تركت مرجان ووقفت قبالة النصب محاولا التقاط صورة تذكارية لي مع رائعة جواد سليم لكن يدا ربتت فوق كتفي فالتفت واذا به شاب يطلب بكل ادب تلبية نداء السيدة في الخيمة فسلام وقبل وجلوس في الخيمة وحديث عن التظاهر وطلبات المتظاهرين وعند المدخل الشرقي للنفق كانت رائحة دخان الحكومة اقوى من الاماكن الاخرى فتراجعت قليلا فضحك رجل مسن وقال بلهجة محببة :

. ها فوت بيها ليش خايف هو دخان

. ما خايف لكنني في زمن فرح ووجود وطن ولا احب البكاء

. فضحك الرجل حتى اهتز كل جسمه وقال انت مثلي بياع كلام

. سالت لمائا بياع كلام ؟

. سعل الرجل وقال كل الاجيال العراقية التي سبقت هذا الجيل بياعين كلام وكان الوطن موجود امامهم ولم يكلفوا انفسهم بايجاده وكل الاجيال الماضية نزفت دماؤها في المكان الخطأ اذا ماتوا في السواتر والمدن البعيدة لا لشي الا ارضاء لنزوة الحاكم وكان بمقدورهم نزف تلك الدماء على مذبح الوطن وتخليصه من المستحوذين عليه لكنهم كانت تنقصهم شجاعة هذا الجيل الذي اطلقت عليه قبل انتفاضة تشرين المباركة تسميات ما انزل الله بها من سلطان .. سجل على مسؤوليتي انا الرجل المولود في خمسينات القرن الماضي : ان جيل انتفاضة تشرين المباركة ( جيل الالفينات ) لم يرى العراق جيل بشجاعته منذ ان فتح العرب العراق وحولوه الى بستان لقريش واستولوا على كل خيراته ونقلوها الى عاصمة ملكهم في الجزيرة وعلينا جميعا ان ننحني احتراما وتقديرا لشجاعة شباب لم يكملوا العشرين وقبلوا بالجوع والبرد والسهر والتعب والبقاء بعيدا عن احضان امهاتهم من اجل استعادة وطن اضاعته اجيالنا بجبنها وترددها .

وقفت مشدوها امام منطق الرجل الذي قوبل بتصفيق حاد من قبل من تجمعوا حوله والانعطافة من التخوف من الغاز المسيل للدموع الى شجاعة جيل لم ولن يسبقه بها جيل غيره، بعدها دار بيني وبين الشباب حديث حول الوضع الراهن بعد استقالة الحكومة فكان ماخرجت به .. اننا لم يكن هدفنا عبد المهدي واستقالة حكومته اننا انتفضنا نريد وطن وهذا الوطن لايكون الا بطرد كل فاسد ولص ومتسلط وطائفي على اي مقدر فيه مهما كان بسيطا ولسنا سذجا كي يخدعونا بتبادل الادوار اذ يذهب عادل وياتي اسم اخر ولكننا استعرنا من احدهم مبدا ( شلع قلع ) وسنطبقه عليهم بالكامل .

. خرجت من الساحة وانا على يقين ان في العراق ولد جيل من رحم المعاناة تكمن قدرته في شجاعته وتتلخص شجاعته في مبدئيته وتظهر مبدئيته في صدقه وصراحته .. اذا العراق مقبل على خير ومرحلة جديدة ربما لم يمر بها من قبل دولة المناذرة وحتى اليوم.