( ولماذا استرجعوا مني القمر والتعاويذ وقطرات المطر عندما قلبي على ارصفة الليل انكسر ) عبد الوهاب البياتي .
ان بنية الأدب القصصي في العراق ،إنما هي في حقيقتها نهضة في الأساليب التقنية والفنية والفكرية، ترجع اسبابها ، الى التحول الفكري والثقافي لدى الكثير من القصصاصين وتأثرهم بالتطورات العالمية مما ساعد ذلك على جعل النص القصصي ينفتح على الكثير من الأسئلة و التجارب والمضامين والاتجاهات الفكريةالحديثة المهمة في العالم . وكان من نتائج ذلك كله ،ظهور جيل جديد يسعى وبرغبة صادقة لإنتاج شيء جديد في الأدب بشكل عام والقصة بشكل خاص ، من خلال محاولة إعطاء نتاجاتهم طابع البحث عن مناطق لم تأخذ حصتها الكافية من الاهتمام الأدبي مثل المهمش والمسحوق والغريب واللامنتمي والمثير ، والتي تبحث في مجملها عن سؤال مركزي هو. الهوية ، في محاولة منهم لكسر بعض الجمود الذي خيم على واقع القصة وأشكالها في العراق ومن هؤلاء، القاص احمد طابور الذي يسعى عبر نصوصه القصصية سحب المتلقي الى عوالم طالما غيبت وهمشت اما لسبب سياسي او ثقافي او اجتماعي حتى فقدت هويتها الوطنية والإنسانية وغيبت من الكثير من النصوص الأدبية وبالتالي وضعت في خانت المسكوت عنه في النص . لذلك نجد ان احمد طابور في الكثير من قصصه يسعى عبر مواضيعها كشف حجم المعاناة والفشل الذي تعاني منه الشخصية العراقية من خلال حجم الإحباطات التي ظلت لفترة طويلة ترزح تحت سطوت السياسي والاجتماعي ، في زمن يحمل الكثير من المفاجآت الغير سارة . ففي قصة الصدفة والصدمة التي ستكون محور موضوعنا النقدي . نجد ان احمد طابور قد اختار عنوان يعكس هم الكاتب فيما يود قوله فما بين الصدفة والصدمة يتجه الواقع العراقي الى واقع يحتمل الكثير من الفوضى والتحولات الغير مرضية للطبقات الاجتماعية المهمشة التي تحاول التمرد على الواقع اما بالتشبث بأحلام الماضي الجميل اوبتجاهل واقع لا يعنيها ولا يمثلها بشيء وبالتالي تتجاهله عبر استخدام أساليب الصعلكة والعنف لكسب بعض المكتسبات المادية البسيطة (( كم كان حزينا ومغموما وهو مستلقٍ على عشب بارد فرشا الارض الندية بوصلات شعره الفاحم الطويل بعد اندحاره الأخير في الليلة الماضية حين كان يقلب حظوظه في مساءه المخمور معتزلا منصات الوقت المنهمر في لياليه الكئيبة ))
فتتحول هذه الأحلام وللامبالات الى دافع رفض وكره لكل شيء حوله (( ذات مساء وهو عائد من العاصمة المسلوبة بعصاباتها الرعوية والمخفية بين تلافيف فراغاتها بِسْمة هنا او ضحكة من هناك ، العاصمة المثقلة بالضجيج والرغبة والنقود والقرارات العفنة )) حيث يساهم هذا الاحباط الاجتماعي والوجودي المتكرر على لسان الراوي الذي هو لسان حال الكاتب نفسه الى ان يكون بطل القصة اكثر وحشية وعنف كي يكون اكثر تأثيرا في واقعه (( كان متوحشا غير مباليا بعدد الخسارات العضوية التي انهالت علية بالركل والتمزيق وشتائم العرض ، فكان يمارس سطوته الجبارة على الضعفاءحين يتأكد بانه لايمكن لجلاديه ان يمزقوا زحمة المكان ويطاردو الحافلات الهاربة )) ليتجه سير الأحداث بعد هذا المشهد الصادم الى اُسلوب السرد الذاتي لأحداث الماضي بطريقة الفلاش بك في نوع من التعبير عن مسلسل الخيبات التي تلقاها بطل القصة وضياع طموحاته(كنت اذا اتوارى عن الناس فتشوا عني في احلامهم وفي يقظتهم كنت صندوق أسرارهم المنيع )) ولكي يجعل النص مفتوحا على عدة دلالات فكرية ونفسية يتم استدعاء الرمز الديني كحل تعويضي عن الفشل في الحاضر ، في محاولة من القاص على اعادة صورة المخلص او المضحي لتحمل اخطاء الاخرين و تدارك حجم الاحباط او التداعي النفسي الذي يعيشه البطل ( كنت أنا المسيح للخطايا)
وفي فقرة اخرى يشبه نفسه برموز ضحت لنصرة المظلومين ( أنا علي للحق والحسين للفداء ، اذا اجتمع الشر افرقة وإذا اجتمع الخير اخيمه) ان هذا الاستدعاء للرموز يكشف عن مدى حجم المأساة التي يعيشها الانسان المعاصر ومدى الفشل الذي يحيط بعوالمه اليوم ، لتنتهي الاحداث بعد هذا ألكم الكبير من الانكسارات الى ضياع او خسارة كل شيء جميل في حياتنا، (في تلك الليلة الصدفة جمع حاجياته بحقيبة وسخة ولم ينم غادر منزلهم المضاء بألوان الذكريات المذابة بتأوهات الآلام ) فحين نفقد المكان والامل وحين تتحول الذكريات الى بديل للواقع لا يبقى ما نخاف علية فالرحيل هو خير وسيلة الاعلان الاغتراب وضياع الهوية و الصدمة ، (الحافلة الراحلة في مدار عمله لم يستقلها ذلك الصباح لانه كان موهوما بان هناك إعصارا يمتد بإشعاعات مؤلمة في جوف تاريخة المهزوم ) .
ان عتماد احمد طابور على البعد الإنساني للموضوع والبساطة في الطرح مكنه من جعل المتلقي يشعر بصدق بطله وصدق مشاعره الجياشة تجاه الواقع الغريب الذي شعر به كل العراقيين فقد استطاع طابور من التغلغل عميقا في كشف الاشكالات الفكرية والنفسية في حياتنا من خلال كشف عوامل الاحباط الموزع على حياة العراقيين بالتساوي مستعينا بلغة فنية بلاغية جميلة ، اذ اعتمد في سرد احداث القصة على اُسلوب حلاقات القص وهذا ما ساعد الكاتب على التلاعب بتحولات السرد . لكن ما يؤخذ على القاص هو عدم إعطاء بطله حرية التحرك والاختيار حتى انك لا تجد شخصية البطل حاضرة دون سطوة الكاتب عليها، فتداعيات البطل كانت تداعيات في الكثير منها تثقل القصة و تفقد البطل خصوصيته ( نهض يخطو متثاقلا فوق العشب محدثا حشرجة أشبه بموت المساكين ضاغطا بقوة يستحث الأمان في جزيرته الغاربة ) ،وكذلك عدم توضيح ابعاد المكان الذي يتحرك فيه بطله اي لم نجد في المكان الذي هو المدينة غير بعض أوصاف عامة لو اجرة القصة في مكان محدد او شارع محدد كان اكثر تأثيرا في ذهن القارءوهذه تحسب على المؤلف. ان ما أشرنا اليه ما هو الى محاولة لفهم النص وإعادة ترتيبه وفق رؤية نقدية تسعى لكشف القوة والضعف في النص وفق تصورنا . اما مايميز القصة هو قدرة الكاتب على جعل النص ينفتح على عدت تساؤلات فكرية وجتماعية ونفسية ترتبط جميعها بسؤال مركزي واحد يبحث في عمق مفهوم الهوية الوطنية والإنسانية التي خسرناها بفعل الفشل السياسي والاجتماعي الذي استطاع من ازاحة سؤال الهوية الوطنية عن المركز وستبداله بهويات فرعية طائفية وعرقية .