23 ديسمبر، 2024 6:36 ص

زيارة الرئيس بارزاني … فرصة أخرى لإعادة تقويم المسار

زيارة الرئيس بارزاني … فرصة أخرى لإعادة تقويم المسار

زار الرئيس مسعود بارزاني رئيس اقليم كوردستان العاصمة الاتحادية بغداد قبل ايام قلائل بصحبة وفد سياسي رفيع المستوى من القوى الكوردستانية، والتقى السيد رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس كتلة التحالف الوطني، ووفداً من الكتل السياسية في مجلس النواب الاتحادي للتباحث معهم حول مختلف القضايا ، التي تحاصر البلاد وهي تخوض حربها الضروس ضد الارهاب الداعشي واذنابه ، ما يحتم بضرورة حقائق الواقع التصدي لها بروح المسؤولية وتبعاتها والوفاء لالتزاماتها ، بما تخلقه من تصورات مشتركة وعمل مشترك كفيل بتعزيز سبل المواجهة والنجاح ، التي تصب في مجرى ديمومة التجربة الجديدة واعادة الحيوية الى مفاصلها بقوة دفع مشتركة ، فضلا عن التفاهم بصدد عدد من القضايا المصيرية والجوهرية والامور العالقة مع الاقليم ، جراء عدم تنفيذ المواد الدستورية المتعلقة بالشعب الكوردي ، الذي قدم تضحيات جسيمة لتحقيق الحرية والنظام الديمقراطي في البلاد ، بسبب التعامل الانتقائي مع الدستور طوال المراحل السابقة ، ومحاولات فرض التضييق الاقتصادي على الكورد ، وهم يخوضون حربا شرسة ضد الارهاب الذي يستهدف الجميع مثلما يستهدف الأمن والاستقرار وبناء البلاد لأنه يستنزف ويهدر الفرص الآنية والمستقبلية ، وفي هذا الاطار، لا بد من وضع آلية تفاهمات بما تتطلبه من رؤى وافكار ووجهات نظر مشتركة وحوار متواصل ناجز ، لتجاوز الأوضاع الحالية ومحاولة خلق الظروف المناسبة لتجاوز الواقع الحالي بمشكلاته وأزماته ، فليس هناك من مبرر لديمومتها تحت مختلف التبريرات أذ لا طائل من ورائها يرتجى أو نفع ، سوى تعكير صفو الاجواء وتلبيدها بغيوم الخلافات المحتدمة ، التي تبعد مسافات التقارب التي تحتاجها البلاد الآن وفي المستقبل.
ان تعزيز العلائق الاخوية ومحاولة بناء جسور من التواصل والتنسيق المشترك ، يخلق ارضية مناسبة لتصورات مشتركة تسهم في حلحلة الكثير من القضايا والامور المهمة للطرفين ، كما تؤدي الى أحداث نقلة نوعية تخدم البلاد على مختلف الأصعدة محليا واقليميا ودوليا ، تعود بمنافع تخدم مسيرة البناء السياسي والتنموي.
الزيارة تأكيد حيوي آخر على حرص الاقليم على ديمومة العلائق مع الحكومة الاتحادية والقوى السياسية الوطنية ، التي ترى إن تقدم وتطور البلاد أنما يأتي متضافرا مع تطور أوجه العلائق مع الاقليم ، وهو ما يسهم في توفير أسباب القوة الذاتية لتوفير مناخ سياسي سليم معافى من أمراض الفتن والاحتراب ، التي ليس من ورائها سوى تفويت الفرص التاريخية للبناء والنهوض .
وقد جاءت هذه الزيارة بعد وقت قصير من زيارة مماثلة ، قام بها السيد رئيس حكومة اقليم كوردستان وهي ما تحتاج المراجعة والمساءلة والحوار الأخوي الجدي مع الحكومة الاتحادية وضرورة تبني منهج الحوار البنّاء الهادف والالتزام ، بما تسفر عنه هذه الحوارات من اتفاقيات تصب في مصلحة البلاد وتعزز موقعها دولياً ، مثلما تعطي فرصة تاريخية للشروع بإعادة البناء بما يعيد المسار الحضاري وتواصلاته ، التي انقطعت منذ أزمان ليست بالقصيرة جراء مختلف السياسات الطائشة ابان العهد البائد ، فضلا عن المشكلات المستحدثة بفعل حداثة التجربة الجديدة من مخاضاتها العديدة ، التي يأمل الجميع ان تنتهي عند مسافة يقف عليها الجميع للانطلاق.
من الضروري ان تنطلق الحوارات من ارضية واقعية وشفافة في عرض مختلف وجهات النظر بهدف الوصول الى منطق الوضوح الكامل ، تفضي الى بناء خطوة صحيحة تمتلك ارادة المضي قدماً بما يفتح آفاق العمل المشترك في شتى المجالات ، وهو ما يعطي فرصة تاريخية من اجل محاولة ترميم الواقع العراقي واعادة النبض الدافق الى عروق التجربة السياسية التي يبسّها الجفاء والعزف على أوتار افكار
الفرقة والاختلاف ، التي تحقق لبعضهم اغراضاً غير مشروعة يسعى اليها ويريد لها الاستمرار ، وتلك مهمة عسيرة امام الارادة الخيرة التي تبغي الشروع في البناء ورصد كل الامكانات وعلى اكثر من صعيد من اجل احلال تحول نوعي تحتاجه المرحلة ، ويرتقي بالحاضر الكسول الى مستوى التحديات المحدقة التي تتربص وتتحين فرص الفرقة والاختلاف من اجل تسخير تناقضاتها في اتجاهات تخدم مصالحها ، وهي جزء من استراتيجيتها القريبة والبعيدة من اجل اغتيال فرص النصر المتحققة.
على الدوام ، كان الكورد يسعون الى اقامة علاقات متوازنة مع الحكومة الاتحادية قائمة على الشراكة الحقيقية والتفاعل الايجابي ، وسعوا الى تحقيق ذلك بإرادة حرة ونوايا صادقة دللّت عليها مرونة وطنية محسوبة ومحتسبة ، كما هو عهدهم أبان مسارهم النضالي في مجرى الحركة التحررية الكوردية ، اذ كانوا يمدّون ايدي السلام لكل من يمدّها من مختلف الحكومات ، برغم أدراكهم ان غالبيتها لم تتعد ان تكون اجراء تكتيكياً تعبر من خلاله الحكومات أزماتها ومصائر أيامها ، بانتظار فرص معاودة العدوان على الكورد .
وقدّم الكورد مساعدات سخيّة لكل اطراف المعارضة العراقية وتعاملت معهم من منطلقات جبهوية رصينة عززت القناعة بها على مر مختلف العهود ، وكانوا يشعرون بالطمأنينة والرضا في كوردستان التي حضنت مؤتمراتهم وبذلت المساعي لجمع جهودهم ، بدءاً من مؤتمر صلاح الدين ومرورا بمؤتمر لندن وغيرها ، التي رسمت خطوط المشتركات التي كان يمكن لها ان تثمر بشكل ناضح وفعّال بعد سقوط النظام ، لو بقيت محافظة على دفئها الثوري وقوة اندفاعاتها ، التي كانت ترمي الى بناء وطن ديمقراطي يشارك فيه الجميع على قدم المساواة ، بعيدا عن موروثات ومؤثرات السلطة.

فمن المؤسف ان تنجرّ سلطة ناشئة الى ضفاف الأنانية الضيقة والمصالح الذاتية وهي في مهدها الأول لم تحقق شيئا .

لعب الكورد دوراً كبيراً في اسقاط النظام وقدموا تضحيات جساماً من اجل تشييد الصرح الديمقراطي التشاركي ، وحضروا الى العاصمة الاتحادية بإرادتهم برغم وجود كيانهم ليؤسسوا مع الآخرين التجربة الجديدة ، كما أسسوا الجيش العراقي الجديد بطلائع من البيشمركة وليحموا العاصمة ، وكان لدورهم التاريخي اكثر من استقراء الأوضاع وسيرها باتجاه حكم وطني كان موئل جميع اطياف المجتمع وتعددياته. وحرص الكورد على ان تكون حقوقهم مدرجة ضمن دستور يضمن حقوق الجميع ويمنع تكرار المآسي السابقة ، التي كلفت أنهارا من الدماء الزكية في البلاد ، وان تتم رعاية هذا الدستور بعدّه مرتكزاً لتحولات البلاد الديمقراطية ، لكن مع السير الحثيث للشدّ الحكومي الجديد ، ظهرت مع الاسف نزعات وتوجهات فكرية وسياسية شوفينية تريد جر البلد الى اجواء الماضي وجراحاته وآلامه.
وهي نزعات لا مكان لها في العقول الواعية، فضلا عن ان الشعب العراقي قد شبع من مغامرات هذه السياسات وأمثالها ، وهو كان يتطلع خاصة بعد سقوط النظام البائد الى وضع خطط لرفع مستواه المادي ، وتنظيم البلاد اقتصاديا من خلال تطور موارده الزراعية والصناعية ، ورفع مستواه الثقافي ، وتنظيم علاقاته الاجتماعية بما يحقق راحته واستقراره .
وكل ذلك يتطلب سياسة صائبة في توجيه الأمور والمجتمع ، لرفع مدارك وثقافة المجتمع على نحو لائق ، يستجيب لراحتهم ولتحقيق التحولات الديمقراطية ومبدأ قبول الآخرين والتعايش معهم . وظل الكورد حريصين على التجربة والمواصلة والمشاركة والتأكيد على الحوار الجاد ، لإيجاد المخارج لمختلف مشكلات البلاد.

وليس للكورد وحدهم ، عبر اختيار البدائل الأفضل استنادا الى معطيات واقعية وحقائق موضوعية .
وجود الرئيس بارزاني في بغداد فرصة تاريخية لفهم أعمق ، لمختلف جوانب المشكلات والتحديات وأشكال التعاون والتنسيق لتجاوز هذه المشكلات ، خاصة الحرب على الإرهاب وتحرير مدينة الموصل الذي يجعل البلاد في أعتاب مرحلة تاريخية أخرى ، تتطلب الاستفادة من مختلف الدروس الماضية وتفهم حقائق الواقع من أجل تحقيق الحصانة الذاتية التي جوهرها المواطن نفسه.
كانت زيارة الرئيس بارزاني وقعا ايجابيا ومؤثرا على مختلف المستويات ، وستسهم بلا شك في حلحلة الأمور الراكدة وشدّها لما هو أفضل ، بما يعود بالخير على الجميع ، وتتطلع الجماهير أن تسهم هذه الزيارة بفتح صفحة جديدة في العلاقة مع الحكومة الاتحادية ، التي عليها أن تستثمر هذه الزيارة ، لإرساء أساس جديد قوامه الحرص والالتزام الذي لم يكن باديا في الأفق طوال المدة الماضية.