23 ديسمبر، 2024 9:17 ص

زيارة البابا فرنسيس!

زيارة البابا فرنسيس!

زيارة البابا فرنسيس إلى القاهرة هى زيارة تاريخية بكل المقاييس، وربما كان الأهم من تاريخيتها أنها جاءت فى وقتها تماما بالنسبة لمصر والمنطقة. بالنسبة لمصر، لأنها تتعرض لأخطر الاختبارات التى عاشتها فى تاريخها الطويل، عندما وقع الأقباط المسيحيون تحت وطأة الاستهداف على أساس الدين من قبل الإرهاب؛ فأصبجت الدولة المصرية القائمة على الوطنية والتجانس السكانى موضع شك لا يتحمله المصريون.

وبالنسبة للمنطقة، فإنها باتت تعيش فى اختبار أكثر قسوة حينما باتت دول عديدة فى المنطقة تواجه أزمة وجودها كدول فى المقام الأول، سواء بسبب ديكتاتورية بغيضة، أو حركات انفصالية غاضبة، أو توغل إرهابى بشع، أو تدخلات أجنبية من كل حدب وصوب فى الإقليم أو فى العالم. وبعيدا عن الدخان المتصاعد، والحرائق المستعرة، والمدن المدمرة، والموتى والقتلى والجرحى واللاجئين والنازحين، فإن مشهدا فى العالم العربى يبدو ممثلا للمأساة والمآسى القائمة على نفى «التنوع» السكانى، يظهر فى عملية اتفاق أطراف متنازعة فى سوريا الحبيبة على التبادل السكانى بين المناطق، فيذهب الشيعة إلى حيث يوجد الشيعة، والسنة إلى حيث يوجد السنة، فنصل إلى حالة نقية من التطهير العرقى. ولم يجد الإرهاب مشكلة أخلاقية فى تفجير حافلة وسطها ساعة التبادل البشرى فتختلط الدماء والجثامين فى لحظة درامية بشعة لا تعرف سنة ولا شيعة. ومع تكرر المشهد لأكثر من مرة، فإن النهاية لا تحتاج الكثير من التنبؤ بما سوف يكون عليه الحال فى مستقبل ليس ببعيد.

ولا يعرف أحد متى وصلت المأساة إلى هذا الحد، ولكن المؤكد أنه كانت هناك دوما مقاومة لوقف الاندفاع نحوها، حينما شهد العام ١٩٩٤ حدثا مهما، وهو صدور كتاب «الملل والنحل والأعراق»، ومعه حدثت الدعوة إلى عقد مؤتمر «حقوق الأقليات فى الوطن العربى»، خلال الفترة من ١٢ إلى ١٤ مايو ١٩٩٤ فى القاهرة.

لم يقدر للمؤتمر الانعقاد فى العاصمة المصرية، وإنما كان على الداعين له الذهاب إلى دولة أخرى- قبرص- لعقد المؤتمر. كانت العاصفة قد قامت، وانقلبت الدنيا رأسا على عقب، فاستنكرت طوائف أن توصف بالأقلية، وصدرت بيانات وزارات خارجية تشكو من مؤامرات أجنبية، وإعلام باتت مشكلته ليس الموضوع وإنما التمويل الأجنبى. والسبب أن «زرقاء اليمامة» كانت قد وضعت أصابعها على واحدة من أخطر القضايا العربية المنذرة بالكوارث فى قادم الأيام؛ ورغم استخدامها تعبير «الوطن العربى» الأثير لدى القوميين العرب، فإن «الزرقاء» كانت شديدة البصر والبصيرة، ترى ما لا يراه آخرون، وتسمع ما لا يسمعونه؛ وشهدت اليمامة إنكارا شديدا مضافا إلى الاستهجان المدوى.

الدكتور سعد الدين إبراهيم، عالم الاجتماع الكبيرـ أطال الله عمره، وأعطاه الصحة والعافيةـ كان زرقاء اليمامة، حيث كان من أوائل من تعرضوا لمسألة الأقليات فى الوطن العربى العرقية أو الدينية، مؤكدا أنها سمة أساسية من سمات الوطن العربى. وقدر أن 15% من سكان المنطقة العربية هم من الأقليات. وأن كل ما شهده العالم العربى من حروب وفتن داخلية ومن إراقة دماء والحروب الأهلية كان سببه تجاهل حقوق الأقليات وقمعهم بما وصل إلى استخدام الأسلحة الكيماوية.

و«الإنكار Denial» أولى المراحل المؤدية إلى الموت، وربما أنواع أخرى من كوارث الفقدان التراجيدية. وفى عام ١٩٦٩ أصدرت عالمة النفس السويسرية إليزابيث كوبلر روس كتابها «عن الموت» الذى كان خلاصة أبحاثها من معايشة الذين يخوضون تجربة الوفاة المؤكدة، وكيف يتعاملون معها. فى هذا الكتاب رأت أن من يمرون بالتجربة يعيشون خمس مراحل:

أولاها الإنكار، بمعنى رفض التشخيص القائل إن ما لديهم من مرض قد وصل إلى المرحلة التى تصبح فيها النهاية واردة. هنا، فإن المريض ينكر وجود المرض، وغالبا ما يعزوه إلى خطأ فى التشخيص أو ربما مؤامرة جعلت نتيجة التحليلات الطبية غير سليمة.

وثانيها الغضب، فبعد أن يصبح الإنكار بلا فائدة يعترى الشخص حالة من الرفض الشديد، ويعتبر أن إصابته بالذات فيها نوع من التعنت، وأنه ربما كان يصح أن يصاب آخرون بما أصيب به.

وثالثتها المساومة فبعد الرفض العنيد، فإن بعضا من اللين يأتى فى صورة التساؤل، وأحيانا المطالبة بكسب المزيد من الوقت، والتساؤل عما إذا كان ممكنا تجريب أدوية جديدة يعلم تماما أحيانا أنها غير موجودة.

ورابعتها الاكتئاب، وهى حالة من الاستسلام الغاضب والكاره الذى قد يتضمن الانسحاب عن المجتمع والآخرين فى العموم مع حالة عميقة من الحزن. والأخيرة القبول والتسليم بالقدر المحتوم والقضاء النافذ، وفيها بعض من الرضا وانتظار ما هو آت.

هذا النموذج الصالح لتحليل علاقة الإنسان بالموت يصلح تماما لفهم علاقة الأمم بالحياة، وعما إذا كانت ذات معنى مثل التقدم؛ أو أنها ليست ذات معنى فتفضى إلى الانهيار.

وقد عاش العرب «الإنكار» حتى الثمالة، وهم الآن يعيشون مراحل متداخلة من الغضب والمساومة والاكتئاب والانتظار.

وأيا كانت الحالة، فإن الثمن فادح ولا يمكن تقديره أكثر من أن هناك أكثر من مليون من القتلى، وثلاثة ملايين من الجرحى، و١٤ مليونا من اللاجئين والنازحين، وما لا يعد ولا يحصى من الخسائر المادية فى المدن والقرى والتراث، والمعنوية فى العلاقات الإنسانية، وما تبقى من وشائج وقربى.

زيارة البابا فرنسيس ومقابلته لقادة الكنائس المصرية، وخطابه أمام المؤتمر الذى عقده الأزهر لأتباع جميع الديانات، يعيد من ناحية مكانة الأزهر التى يستحقها إلى بؤرة الاهتمام العالمى، باعتباره ليس فقط منارة المعرفة فى العالم الإسلامى السنى، وإنما أيضا مكان التقاء بين البشر أيا كانت دياناتهم ومعتقداتهم.

وربما تساعد هذه الزيارة كثيرين على مراجعة موقفهم من الأزهر الشريف، ليس من مواقع «الأصولية العلمانية»، وإنما من موقع التفهم لواقع معقد، ربما يحتاج إلى تطوير وتغيير، ولكنه فى الأول والآخر واحد من أصول الدولة المصرية التى لا يجوز التنازل عنها أو التفريط فيها.

ومن ناحية أخرى، فإن الزيارة تعطى لموقع مصر من مقاومة الإرهاب مكانة إضافية، باعتبارها الجسر الطبيعى ما بين الشرق والغرب، والإسلام والمسيحية، والحضارة العربية الإسلامية وتلك الغربية.

ولا يغيب عن أحد أن كثيرين فى المنطقة يتطلعون إلى هذه المكانة، ولكنهم فى تطلعهم يفتقدون إلى واحدة أو أكثر من مقوماتها الجغرافية والتاريخية والفكرية.

الزيارة فى النهاية دليل على أن مصر يمكنها أن تخرج من الاختبار ورأسها مرفوع بما لديها من تاريخ وسوابق، تعايشت على أرضها ملل ونحل وأعراق كلها تسامحت مع بعضها، وعرفت كيف تعيش وتتعايش.

مصر هذه المركبة من حضارات العالم القديم والعالم المعاصر عبر آلاف السنين- محملة برسالة التسامح والتفاهم والسلام، التى ربما تكون عصية على البعض منا فى الفهم والتقدير، أو لأنهم يحلمون بمصر أخرى تتعصب وتتطرف يسارا أو يمينا، وعلى الأرجح هى التى سوف تنقذها مما تمر به من مصاعب وأزمات.
نقلا عن المصري اليوم