يقول هايدغر “ان الموت ليس نهاية الكائن” فالموت في نظره ليس أنقطاعا بيولوجيا , بل لحظة يتكشف فيها هذا الوجود بأشد صورة صدقا وتجليا, فعندما يموت الأنسان , لايعود متاحا للتفاعل اليومي ولكنه يترك خلفة فراغا وجوديا, ذلك الفراغ يظهر قيمة حضوره السابق وأثره في المحيط الذي يعيش فيه, كأن الموت يرفع الستار عن أهمية هذا الأنسان. لذلك شكل غياب زياد الرحباني اشبه بفقدان نقطة أرتكاز جمالية في وجداننا الجمعي, فكانت لحظة أعلان وفاته, هو اشبه بأعلان ولادتهُ من جديد, وفق اشتراطات جمالية وفلسفية تم تشكيلها بشكل مباشر وبشكل تلقائي في نفوس الجماهير, يا لها من عبقرية جمالية وثقافية تُعاد التشكيل من جديد ليعود المبدع لدورة ثانية في الحياة, ولكن هذه المرة قد تمتد لمئات والاف السنين. لذلك يدرس النقد مثل هكذا ظواهر وسبب تشكيلها وتكوينها ولماذا حدثت هذه الصدمة لحظة الأحساس بالفقدان النهائي للمبدع!!
زياد الرحباني كان مقدر لهُ, أن يسير وفق المسار الذي رسم لهُ من قبل والدهُ السيد عاصي الرحباني ووالدته السيدة فيروز أن يصبح موسيقار متميز ويسلك نفس مسار والدهُ وعمه, ليكتب ويلحن الأغاني والمسرحيات الرومانسية عن قصص الحب في الضيعة أو فلة من فلل الباشاوات والأغنياء ويبقى ضمن مسار رومانسي كلاسيكي حالم, ولكن تركيبتهُ الشخصية والثقافية التي تعمقت منذ بدايات قراءاتهُ في الأطلاع على الفكر الفلسفي وعلم الأجتماع والتاريخ جعلتهُ يرى الواقع والحياة في لبنان والعالم العربي بشكل مختلف. فهو رأى الواقع اللبناني مليئاً بالمفارقات: الطبقية, والطائفية, والنفاق السياسي, وتحولات المجتمع, خصوصا حين بدأت الأزمة اللبنانية تتفاقم منذ أندلاع الحرب الأهلية. كل هذه التحديات جعلت زياد الرحباني يختط لهُ مسار مختلف في تناول الحياة أبداعيا, أي أبتعد عن المسار التقليدي الذي كان يقدمهُ آل الرحباني خصوصا مع والدته التي كانت المحرك الملهم بصوتها لهُ ولآل الرحباني, فهو شعر من الصعب الأنسجام بين ما يملك من دوافع أبداعية ومحركات نفسية وثقافية والواقع الذي يحيط به اذا ما مضى في المسار الموسيقي الرومانسي الكلاسيكي.فزياد لم يسخر ليُضحك فقط, بل كان يعمل على تفكيك الواقع أمام أعين الجمهور ليجعلهم يفكروا في خطايا وذنوب هذا الواقع وكيفية أعادة أصلاحه, ففي مسرحية ” لبكرا شو” كان يطرح سؤلاً بسيطا ظاهرياً لكنهُ يحمل قلقاً وجودياً عميقاً. والذي ميز مسرح زياد الرحباني وهو مسرح موسيقي وساخر أنهُ قدم أبطال من هامش الحياة ليقذف بهم الى مواجهة جمهور لم يكن يتوقع أن يقدم هولاء المنسيون في الحياة والمهمشين تلك الأسئلة التي قد تبدو عبثية ولكن حقيقية الى حد المرارة واللوعة, أنهم يتحدثون بلهجة الشارع لكنهم يطرحون أسئلة تشبه أسئلة نيتشة وسارتر ليسألوا أسئلة “من نحن؟” وهل نحن أحرار؟ ولماذا ممزقين الى حد اللعنة!! وهذا ما نراه في مسرحية “فلم أمريكي طويل”. و”وكيفك أنت”
كان زياد الرحباني لا يحاكي الذوق العام ولا يطلب رضاه هو يريد أن يحدث ضجة في المجتمع وفضح تناقضاته, كان يبث أفكاره عبر الجمل والنغمات وخصوصا في المسرح فيعلوا هوس الجمهور فيه وفي أبطاله, حيث لم يعتد الجمهور من قبل بمثل هكذا جرأة سياسية وثقافية وأجتماعية, فزياد فهم الفن عبارة عن ممر للوجع الجماعي, لم يكن يكتب لأنهُ يعرف الجواب, بل لأنهُ يشتبه بالأسئلة؟ كان فنه أشبه بمرآة مشروخة تعكس هشاشة الوجود اللبناني والعربي. ومع التحولات العربية للمجتمع في السياسة والفن والتطور, كان زياد يطور أساليب أبداعهُ وطرق الوصول الى الجمهور, فهو يكاد الفنان والموسيقار الوحيد الذي يدور ويتألقم مع كل تحول يحدث في الواقع اللبناني والعربي, فساعة تراه يتحدث الى الجمهور وخصوصا الشباب عبر المذياع وأخرى عبر المسرح ويغيب فترة من الزمن وكأنهُ أختفى الى الأبد ليعود من جديد بلحن كبير وكلمات نابعة من أزقة وحارات بيروت والبقاع والجنوب اللبناني فيلهم الجمهور ويسحرهم الى حد الجنون!! كما في “كيفك أنت” حيث قدم أغنية في غاية الروعة من الكلمات والتلحين, حيث تلاعب في خلق توتر من خلال التلاعب بين الجاز والمقامات الشرقية فهي ليست أغنية للحب فقط بل تأمل في تغير الزمن والهوية العاطفية, وهذا ما لم يعتاد عليه الجمهور اللبناني والعربي من وجود مبدع يغامر ويختفي ليعود ويتكلم بنفس لغتهم اليومية ويحولها الى المسرح والغناء. وأدى وجود والدتهُ السيدة فيروز بكبريائها الجميل وصوتها الساحر ورزانتها المتقدة الى وجود ذلك المعادل الموضوعي لصورة زياد التي فيها كل هذا التناقض, أدى ذلك الى حالة من تبادل الأنبهار ما بين هاتين الشخصيتين من قبل الجمهور وأستمر ذلك حتى ظهر جلي في مراسيم العزاء لزياد فكان الجمهور يترقب كيف ستظهر السيدة فيروز في وفاة أبنها الكاتب والموسيقار الملهم, هل ستحتفظ بنفس الوقار أم أنها ستنهار وتكون باكية منكسرة كما نرى ذلك في أغلب الفواجع, فكان ظهورها يناسب وقار أبداعها وقوة كبريائها, فبينما كان زياد يرقد رقدتهُ الأخيرة ويدور حوله الصخب, كان كبرياء حزن فيروز يرتل حوله أناشيد الفقد الأخير. مع رحيل زياد الرحباني نفقد أيقاعا داخليا كان يعيد تشكيل الفوضى بصوت ساخر وحنين متوحش لا يكون الغياب مجرد نهاية,بل بداية جديدة لأسئلة لم تطرح بعد, زياد الرحباني كان عدة أشخاص مبدعين في مجموعين في شخص واحد, لذلك كانت هناك صدمة لدى جمهوره بهذا الفقد الكبير.
الكاتب