17 نوفمبر، 2024 10:25 م
Search
Close this search box.

” زوربا” العراق “

” زوربا” العراق “

 يوسف العاني
سعادات  وهفوات ..  
الذاكرة  شهادة  خصبة بشرط  عافية  التذكّر  ، وأجمل قيم الإنسان أن يحمل  الآخر آثرا ودالة  وشعاعا  ..، يُيشر به  مختلفا أم مؤتلفا ..
اليوم أريد إستدعاءَرجلجاء  من أقصى  الحلم   الى بغداد يسعى ، فكان له ما أراد …  لم يكن طريقه بلا شوك ، لكنه صار   زهرة حمراء للإيقاع  بمكائد القصد ..،رجل ملتبس تماما  في معايير الحياة  ، لايمكن  الركون  الى وقائعه إلا  بوقائع  مكانية وزمانية .. لذا سأذهب بشهادتي الى سعادات وهفوات على مائدة ” العاني ” ..ولعل من غريب شهادتي عن الرجل إنها ليست مجروحة  إطلاقا ،  لأنني لم أعرفه  إجتماعيا .
…………………………………
كلما  حضرت  عملا للكبير ” يوسف العاني ” أو شاهدته شخصيا ، أو  من خلال مقابلة تلفزيونية ، أيقنت أن  هذا الرجل خُلِق ليكون ممثلا  حقيقيا.
مع  هذه  الشخصيات الاستثنائية في الحياة ، تستطيع التوقف  والتمعن في سر  الحقل الذي ينتمون اليه ، وسر الموهبة التي يتمتعون بها ، والسر الاخير الكامن في بقاء هؤلاء في واجهة المشهد  دائما ،  سر الحيوية ، الديناميكية ، الحضور الدائم ، المقبولية ، القدرة  على البقاء في القمة  دائما .
لم يكن يوسف العاني  أكاديميا  في المسرح  ولا يحمل شهادة  عالية  في هذا الاختصاص،  إذ انه اكمل  دراسته  في كلية الحقوق   بعد أن فشل في تحقيق حلمه أن يكون طبيبا  لاسباب  صحية تتعلق  بنظره .. وهذا هو سر ظريف في حياة العاني ، فهو لم يصبح طبيبا  ولم يستمر في مهنة المحاماة التي احترفها قليلا  . وأظن أن انعطافته الكبرى  حين دخوله  ” معهد الفنون الجميلة ”   ووقوفه على المسرح لأول مرة ، وهذا كان  تاريخا لميلاد ه الشخصي  ، والذي خلّده العاني بوصفه عيدَ ميلاد ٍ شخصي  يحتفل به بدلا من ميلاده  المثبت في البطاقة الشخصية .
هذا درس أول يعطينا عصارة  أخلاقية  لوفاء الفلاح الى حقله ، لتكامل الموهبة مع  مناخها ، للتضحية  بالميزات المادية  المحتملة في حقل  القضاء وما تجلبه من مكانة إجتماعية مرموقة  في  المجتمع العراقي  آبان خمسينيات القرن العشرين .
لقد زهد الرجل بكنزه  ـ وتحول الى  حقل لا يحظى كثيرا  بإمتيازات  حقول الحياة الأخرى  آنذاك 
……………………………………………………………….
في  نهاية   ثمانينات  القرن العشرين   ” على حد  ذاكرتي”  سافرت الى بغداد   لكي أنعش روحي بجمال بغداد  والتزود من   فيض مكتباتها في شارع السعدون وسوق المتنبي.
وأنا  أتمرأى بغداد ” الزاهية ”  صادفت  شابا قريبا لي يتسكع هو الآخر مثلي ، إنه ابن عمي ” الصغير أحمد” .. أدهشني بصعلكته المبكرة  وعافيته  الفكرية المتمردة على الحياة  وقراءة السطور وما بينها ، حتى حلّ بنا المطاف الى أحد   المطاعم  ، فقال لي ضاحكا  بعد تناولنا وجبة دسمة :   إنك سوف  تزعل معدتي عليّ  لأني لم أعتد هذا الدلال .
وبينما نحن في  الشارع  وجدت اعلانا يشير الى مسرحية  لفرقة ” مسرح الفن الحديث”  وعلى مسرح بغداد ، فقلت لصاحبي : لنكمل يومنا بوجبة   روحية جمالية ،  وهكذا ذهبنا لمشاهدة نجوم المسرح العراقي ..
ورأيت العاني وسامي عبد الحميد وكلهم .. فكان يوما نوعيا في حياتي شارك في صناعته  يوسف العاني  وأصحابه الإجلاء في فرقة المسرح الفني الحديث .
………………………………….
 على مشارف نهاية القرن العشرين  ، في إحتضار تسعينياته   ، غادرت البصرة نهائيا للسكن في  بغداد وبناء عش الحياة الجديدة ،  وكنت من رواد  إتحاد الأدباء  في ساحة الأندلس  وكان لي شرف الصداقة مع المبدعين ،  ومنهم الراحل سامي محمد  ، الذي أجاز مجموعتي الشعرية الثانية ”  دفتر الماء” دون حذف حرف واحد.
صادف أن  المنيّة عاجلت ”  سامي محمد”  فذهب  بقامته  الطويلة  البيضاء  الى العالم الآخر ، فرثيته  في نص قصير نشر في  أحد الصحف الإسبوعية  في بغداد ،   وحين مرور اربعين يوما  على  مغادرته ، أقيمت له  أمسية  ، دعاني  المرحوم  الناقد سليم السامرائي الى  إلقاء القصيدة  بهذه المناسبة .. وحين  تمّ  الحفل   واحتشدت القاعة  رأيت يوسف العاني  وجها لوجه ، بلحيته  المخضبة بالشيب  وقامته  القصيرة .. يعتلي صهوة الحزن . ليُدلي  بشهادة  ممسرحة  وكأنه يتماهى  مع ” سامي محمد ” ويحضّر روحه بيننا .. فلم تكن لدي  الشجاعة الكافية  للصعود  على  المنصة   وقراءة  ”  مرثيتي “
آثرت الإعتذار  من المشاركة .. وبقيت  صامتا،   أتأمل العاني  وهو  يمنح بركة الحياة  لمن حضر من عائلة ” سامي محمد “
…………………………………
  في روايتي  ”  العودة الى البيت ”  كان يوسف العاني غير غائب  عن ذاكرتي النصيّة  أيضا  فقد كتبت عنه  بلسان الدكتور الراحل  علي جواد الطاهر الذي  كان  يثني على براعة ”  يوسف العاني ”  في المسرح ..
لقد أخذ العاني  حيزا مهما  من حلمي ” حيث كنت في الرواية وفي الواقع ” أحلم أن أصبح ممثلا  ولم أكن .. أحلم أن  أبقى في  القمة مسرحيا  ولم أوفق .
بدأت حياتي ممثلا في  المدرسة الابتدائية وحتى وصولي الى الاعدادية  ، ولكنني كنت ممثلا ، رقما فقط .. ولكن العاني صار   نجما وحقيقية .
 لذا أريد إستعادة العاني ” قامة ”  وهوية    ومثلا ..
…………………………………
 في  بقايا الأيام وحين  لا يكون  للنسر أن يحلق عاليا  ، وجدت العاني يوسف  يتوكأ على ألمه   نزيلا  للمشافي ومصحات  التعلل من داء ” العقوق”..
يوسف الذي  أرخ  لتقويمهعلى خشبه المسرح وهو يتحرر  من   سجون   وبراقع الحياة  وواجهاتها البراقة ، ليذهب بالحلم الى أقصاه  ، يوسف البار الى المسرح  .. رأيته وشممت عطر أعماله  ، يترك عصاه  ليرقص ”  رقصته الزوربويه ”   على مسرح  في  بغداد ، ولكن ” زوربا العراق ”  لم يكمل  وصيته ..
………………………………………..
” أنتوني كوين ” وفي حفل مهيب  ، أدى رقصة  ” زوربا ” بمهارة عالية رغم  مراراة  السنين  على جسده الابيض.
متى ينهض “زوربا العراق ”  لنرقص معه
رقصة  الفرح العراقي  الذي تأجل عرضه كثيرا
متى يا صاحب الجلالة   تأذن لستارة  الحياة أن  تبدأ  ثانية دون  فواصل  طارئة ؟؟
محبة لك صديقي  ” يوسف العاني ”
أتمنى أن أراك   ثانية ..

أحدث المقالات