في حديقتي الصغيرة تتباهي الزهور، وببينهم هي الاجمل و الأعبق عطرا، ندى يبلل الوجوه ولون يتوسط البياض والسواد وكأن السماء تميل بلونها قليلا وتتجه نحو شعر حكيم حسير الراس ، نسمة باردة تحيي انفي وتلقي تعويذة سحر، وتظل هي المدللة بين الزهور ، شكل بري غريب لم اعهده من قبل ، حمراء يوشحها السواد ، انظر اليها كل يوم واعيش في سحرها من بعيد ، اكتفي برمي نظراتي من وراء السحاب ، تتجاذب مع كلماتها الصامتة في حيز نفسي وخيالي ارقاما و حروفا ونقط ، ومن لغة التجاذب والاحترام تبقي زهرتي المدللة شامخة بين الزهور ….
رعد خفيف يغطي الافق فهو موسم المطر يوحي لك بالفرح والامتلاك ، قطرات تبلل الوجوه وتعزف سمفونية الخير فوق الشبابيك والابواب وكأن السماء توزع هديا الله الموسمي، وحديقتي الصغيرة جدا تحتفل بغيث الله وموعد النماء وسنوات العمر الهاربة تهرول باتجاه معاكس ، عقارب ساعتي تئن من الم الفرقة والرحيل ، كثر الوداع فينا وقلت العودة…. نفارق من نحب ونستقبل من لا نهوى ، هي عود من شكوى ازرعه ذكرى في حقل يفتح جروحا و يتفرع الما ويورق موتا يدمي الذكريات….
انا لا اقطف زهرة من زهور حديقتي مطلقا ، واظن الزهرة مخلوقا انثويا عجيبا فهي عندي تلد وترضع وتحيض ، اعد قطافها جرما يحاسب عليه القانون مادام انا وحدي اقر ذلك…في حديقتي على الاقل ….هي ملكي و هو حلم يسكن ذهني حقيقة وهل يحاسبني احد ، اشتد صوت المطر في الارتفاع كثيرا وفي العزف على اوتار الشبابيك والابواب ، غرقت الوجوه والاوراق بالبلل اللطيف هو سحر المطر الرقيق حتى ضاع صوتي في تلك الهفهفة واستحال سماع صوت نفسي وهي تخاطبني……
.بلل لطيف يجعلك تشتهي الاكل و كوبا كاملا من الشاي وتعد رشفاته عدا وكأنك لم تشرب شايا من قبل ، تتمنى ان لا ينتهي هذا الكوب ، اجتاحتني سعادة غامرة وسحر غريب وكأن المطر القى تعويذته السحرية في حضني ومرج حديقتي ذاك اليوم الموعود لأفعل ، امرا لا ارتضيه حين تفعل تلك التعويذة فعلها عندي، ويصرخ المطر في وجهي عاليا وكأنه يقول :
“لا تفعل….لا تفعل…..!”
نظرت لزهور حديقتي ، وكأني اراها لأول مرة ، تقدمت نحو مدللتي الحمراء بتوق وحذر ، مسحتها ، مسكتها من رقبتها الرقيقة ، قطفتها ، شممتها وغاب كل شيء….وحتى صوت المطر الغاضب الرقيق….وترحل الغيوم هاربة من المشهد مهرولة نحو الجنوب وهي تلوح بيدها مودعة وصوتها الراعد المبتعد ينبأ بصحو وشيك وتستعيد السماء زرقتها الاسيرة……وتهب نسمات رفيعة رشيقة من جهة الشمال تغسل الوجوه ببرد لذيذ يجعل الجلد يزحف قليلا ……في هذا احسست بحرارة شديدة تجتاح جسدي وعرق شديد يغمر كل اوعيتي ، هادنني وعيي تماما وانا اتلفت حولي تائها كالمخبول، لا ادرك ما يحدث …. قلت بصوت مسموع:
“اين انا …. اين انا…!؟”
كل شيء غريب حولي ، عالم مجهول منقوع بالدخان لم االفه من قبل…اثثه الله بقطع غريبة من تلال وجبال واشجار لا مألوف فيها ولم تطأ اقدام نواظري شبرا منها من قبل حتى في الاحلام ، قرصت نفسي مرارا لكي اتأكد اني حاضر ، وفشلت ، حي فعلا ام ميت ، حالم ام مستيقظ…..؟ ذابت نفسي في نفسي وطفت فوق بحار الاشياء ، اختلطت الاسئلة بالأجوبة ، انحسر واقعي في حلمي تماما وهو يبحث عن آثار واختلطت الاشياء في مخيلتي ، افكار صلبة مختومة باقفال فولاذية تشير باصبعها لارض غريبة تفوح منها روائح الاختراق واصوات النار وصراخ المجهول والغموض المطبق ، استخدمت الاف المفاتيح لم يألفها احد….ترنحت اعضائي تعبا….سحبت كل المسافات وتبعثرت كل الآمال ، ضاع الامل في مفتاح يفتح بابا من ابواب جنتها…..صوت رن بأذني:
قطفتها….!
ارعبني الصوت القادم من ارض الغرابة ، اتلفت في كل الانحاء ، لم اجد مخلوقا يتحرك عدت لنفسي وجلست القرفصاء وافحص ذاك الهم المخبوء في عقلي:
“هل شممتها…!؟” : قلت:
“من انت…..اظهر نفسك….!؟”
عاد الصوت من جديد يرعد في اذني :
“تبقى مسجونا في ميسنها دهرا حتى تذبل…!”
غلبني النوم ونمت عميقا ولا ازال نائما ولا ادري هل عدت……… !؟