22 ديسمبر، 2024 10:23 ص

زها حديد.. أسطورة عراقية غيرت وجه العالم

زها حديد.. أسطورة عراقية غيرت وجه العالم

اسمها مرادفٌ للنجاحات المتتالية والبصمات الإستثنائية في عالم الهندسة المعمارية، فلفتت الأنظار وحفرت اسمها من خلال أعمالها على امتداد العالم، ليشهد لها ويذكر بجذورها العراقية وحضارة بلدها الضاربة في عمق التاريخ، ويؤرخ لمسيرةٍ من الكفاح والإصرار على المضي قدماً رغم الصعوبات، من الشرق الغارق في الويلات إلى كل أرجاء الأرض..زها حديد..

ابنة بغداد التي ظلت تدرس في مدارسها حتى انتهائها من دراستها الثانوية، وكان لنشئتها ودعم والديها لها دورٌ كبير في تعزيز ثقتها بنفسها، وأثّر اصطحاب والدها لها لزيارة الآثار السومرية بشكل ٍ خاص عدا عن زيارة العديد من المعارض والأنشطة الثقافية على شخصيتها، وتجدر الإشارة إلى أن والدها محمد حديد كان أحد قادة الحزب الوطني الديمقراطي العراقي والوزير الأسبق للمالية العراقية بين عامي ١٩٥٨-١٩٦٠، إضافةً إلى أن والدتها كانت فنانةً تشكيلية مما ساعد على بروز ميولها نحو الرسم والمعمار، فصممت أثاث غرفتها وبدأت تهتم بأشكال وأنماط البناء المختلفة، وقالت حديد في إحدى مقابلاتها أنه لا زال لديهم بيتٌ قائم ببغداد، يعود إلى الثلاثينات بقطع أثاثٍ من الخمسينات، ولكن كل ذلك كان مجرد أساس لتجربتها التي أخذت أبعاداً مختلفة من خلال تأثرها بالمعماري البرازيلي أوسكار نيماير وهو أحد أهم المعماريين في القرن العشرين، فأحبت موهبته الفذة وإحساسه بالمساحة وبحثه عن الإنسيابية في كل الأشكال والتصاميم..

وتابعت لتحصل على شهادة الليسانس في الرياضيات من الجامعة الأميركية في بيروت عام ١٩٧١، ثم درست في مدرسة الجمعية المعمارية للهندسة المعمارية في لندن خلال الفترة بين (١٩٧٢–١٩٧٧)، وحتى في ذلك الوقت قال عنها أستاذها المشرف ايليا زينغليس: إنها أفضل الطلاب الذين تتلمذوا على يدي وهي كوكبٌ يدور في فلكه الخاص، فكنا نسميها مخترعة ال ٨٩ درجة لقناعتها بأنه لا مكان للزاوية القائمة في المعمار ، فبدأت حياتها العملية بعد تخرجها في مكتب المعمار المديني في روتردام في هولندا، كما افتتحت “مكتب زها حديد المعماري” الذي يعمل به أكثر من ٣٥٠ مهندساً في لندن عام ١٩٧٩، وبدأت قبلها بعام نشاطاتها عبر إقامة معرضٍ فني يشمل التصاميم المعمارية في متحف جوجنهايم في نيويورك، لتنطلق بعدها في بناء حلمها المترامي الأطراف والفريد من نوعه، وتتوالى مشاركتها في العديد من المعارض والمناسبات الكبرى غير آبهةٍ بكل المعوقات، ليس فقط في هندسة المعمار بل في تصاميم الأثاث والمجوهرات والموضة من خلال تصاميم للأحذية والحقائب مع شركاتٍ عالمية كبرى صممت شكل متاجرها ومعارضها أيضاً..

وبدأ صيتها بالإنتشار بشكلٍ كبير وثابت ومستمر منذ عام ١٩٨٣ من خلال مشروع نادي الذروة في هونغ كونغ، والذي امتد ليشمل مشاريع عالمية عديدة مثل مشروع دار كارديف باي للأوبرا في ويلز في بريطانيا عام ١٩٩٤، كما شكلت أعمالها الفنية وتصاميمها المعمارية جزءاً من المعارض الدائمة في متحف الفن الحديث بنيويورك ومتحف العمارة الألمانية في فرانكفورت، بالإضافة إلى عددٍ كبير من المعارض الدولية طوال مسيرتها، وكجزءٍ من سلسلة نجاحاتها كانت زها حديد صاحبة نشاطٍ أكاديمي مكثف أيضاً، فكانت معيدةً في كلية العمارة منذ عام ١٩٨٧، وأستاذاً زائراً في عددٍ من الجامعات الأوروبية والأمريكية مثل هارفارد وشيكاغو وكولومبيا والينوي وجامعة الفنون التطبيقية في ڨيينا وغيرها الكثير، كما كانت عضواً شرفياً في الأكاديمية الأمريكية للفنون والآداب والجمعية الأمريكية للمعمارييين..

أسلوبها الفريد والذي يتمتع بالديناميكية والخروج عن المألوف مع فكرٍ خلاق ومتقد يتواصل مع روح المدينة ونسيم الشوارع وهمس الطرقات، لتخرج أعمالاً فنية غيرت وجه العالم بجرأتها وتجددها وجمعها بين جمال الفكرة وجنون التنفيذ، فقدمت تصاميماً في الاتجاه المعروف بالتفكيكية أو التهديمية، وهو نظام بالغ التعقيد مع هندسة غير منتظمة تجنح نحو التخيل والتجريد، وتقوم أبنيتها على دعامات عجيبة ومائلة،فكانت تخرج بأشكالٍ مبهرة للعين والعقل لا تخرج إلا من مخيلة خصبة تغص بالصور والأفكار ومحملةً بالحكايات الخيالية، ومن يملك حكاياتٍ مذهلة كتلك الحكايات التي كبرنا معها من بغداد وحضارات العراق المتعاقبة، ويشهد بها كبار المعماريين كحالةٍ استثنائية تمثل صرخةً مدوية في مجالي الرسم والعمارة..

وقد زخرت مسيرتها بين تصاميم لأماكن وأنماط وبلدان وثقافات وأفكار مختلفة حول العالم، بلغ عددها ٩٥٠ مشروعاً في ٤٤ دولة نذكر منها..
محطة إطفاء الحريق في ألمانيا عام ١٩٩٣، مبنى متحف الفن الإيطالي في روما عام ٢٠٠٩، ومتحف إيلي وإديث للفنون المعاصرة في جامعة ميشيغان الأمريكية، مركز لندن للرياضات البحرية والذي تم تخصصيه للألعاب الأولمبية التي أقيمت عام ٢٠١٢، ومركز حيدر علييف الثقافي في باكو عام ٢٠١٣ والذي نالت عن تصميمه جائزة متحف لندن للتصميم عام ٢٠١٤، ومبنى “بي إم دبليو” الإداري، المسرح الكبير في مدينة الرباط المغربية، دار الملك عبدالله للثقافة والفنون في الأردن، القاهرة اكسبو سيتي، وكل هذا مجرد جزءٍ بسيط من المشاريع التي أوصلت حديد بجدارة لتصبح أعلى المعماريين أجرًا على مستوى العالم…

كما صممت عدداً آخر من المشاريع المعمارية الضخمة التي بدأ العمل فيها، لكن المنيّة لم تمهلها لرؤيتها مكتملة، ومنها محطة ساليرنو البحرية في ايطاليا، ومطار دازينغ الدولي في الصين، وأهمها لقيمتها المعنوية تصميم البنك المركزي العراقي كتأكيدٍ على تواصلها مع جذورها وحضارتها، عدا عن نصبٍ تذكاري ضخم كانت تعد تصميمه ليكون في بغداد التي لم تغب عن بالها، وكانت تفضل النصب التذكاري البغدادي ل”كهرمانة” كرمزٍ إعلامي لها، لأنه يرمز لعصر الرشيد الذهبي فيها ولقصص ألف لية وليلة، وهذا مرتبط أساساً بالمخيلة الجمعية العالمية لبغداد..

ولأنها كانت شخصية ً استثنائية كانت مسيرتها حافلةً بالتكريمات التي سنكتفي بذكر بعضها، فمنذ عام ٢٠٠٠ أصبحت تحصل على جائزةٍ واحدة على الأقل كل سنة، وحدث أنها نالت ١٢ جائزة في عامٍ واحد، وهذا كمّ من التكريم لم يبلغه أي معماري آخر في العالم رجلاً كان أو امرأة، وحصدت أرفع جائزة نمساوية عام ٢٠٠٢ حيث حصلت على جائزة الدولة النمساوية للسياحة، وكانت من أوائل النساء اللواتي حصلن على جائزة (بريتزكر) في الهندسة المعمارية عام ٢٠٠٤، وتعادل في قيمتها جائزة نوبل في الهندسة وتبلغ جائزتها المادية ١٠٠,٠٠٠ دولار مقرونةً بميدالية برونزية، وهي أصغر من فاز بها سنًا حينها،
وفي ٢٠٠٦ منحتها الجامعة الأمريكية في بيروت درجة الدكتوراه الفخرية تقديرًا لمجهوداتها، كما تم تكريمها بعد وفاتها من خلال تنظيم معرض لأهم أعمالها في الفترة من ٩-١٣ مايو ٢٠١٦ بمعهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية، والتي قامت حديد بتصميمه وتم افتتاحه عام ٢٠١٤، إضافةً إلى حصولها على وسام الإمبراطورية من رتبة (كوماندور) من فرنسا
في ٢٠٠٧، كما مُنحت جائزة توماس جيفرسون للهندسة المعمارية تقديرًا لمساهمتها الجدية والمتفردة في الهندسة المعمارية وهي جائزة تُمنح للمعماريين منذ عام ١٩٦٦ بشكل سنوي،
كما حازت على جائزة (ستيرلينج) البريطانية في مناسبتين، وحازت وسام الإمبراطورية البريطانية والوسام الإمبراطوري الياباني عام ٢٠١٢، وفي ٢٠١٦ فازت بجائزة ريبا (الميدالية الذهبية الملكية للعمارة) وأصبحت أول امرأة تحصل على هذه الجائزة التي هي أعلى تكريم يقدمه المعهد الملكي البريطاني اعترافًا بالإنجاز التاريخي في مجال الهندسة المعمارية..

وتُوفيت في ٣١ مارس عام ٢٠١٦، إثر إصابتها بأزمةٍ قلبية تاركةً خلفها إرثاً إنسانياً عظيماً ومسيرة ً حافلة تخلد ذكراها، ومثالاً يحتذى به في القوة والمثابرة والإجتهاد والصبر لتنثر بعضاً من جمال العراق وعطره الفواح في مختلف أنحاء العالم ببصمتها الفريدة التي لن ينساها التاريخ..