من يتأمل المشهد العالمي اليوم، أنظمةً وشعوبًا، يلحظ بوضوح أن العالم يسير بخطى حثيثة نحو التماهي مع الباطل والانفصال عن المعقول. فلم تعد القيم العليا والمُثل النبيلة سوى شعارات براقة تُرفع لاجتذاب الناس، ثم تُداس تحت أقدام المصالح والنفوذ والاستغلال. فما أكثر ما يُقال عن الحرية والعدالة، وما أندر ما يُطبّق منها على أرض الواقع.
هذا الزمن يُدان فيه الصادق ويُكرَّم فيه المخادع، فقط لأنه نجح في التسلل إلى قمم السياسة والاقتصاد وحتى زعامة القبيلة والعشيرة عبر أبواب الكذب والاحتيال وشراء الذمم والاصوات.
في هذا العالم، لا يُكافأ النبيل بعلو المكانة، بل غالبًا ما يُقصى ويُهمّش، بينما يُفتح الطريق أمام من تجرد من الفضيلة وتسلّح بالمكر. ومَن يملك زمام الأمور اليوم ليس الأكثر حكمة أو عدالة، بل الأكثر قدرة على الالتفاف والمراوغة.
وهنا يتجلى قول الشاعر الإنجليزي جون ميلتون في الفردوس المفقود: “من الأفضل أن تَملك في الجحيم على أن تخدم في الفردوس”، وهو تعبير صادق عن الذهنية التي تحكم العالم اليوم: ذهنية تُفضل السيطرة ولو على حساب الخراب.
ومع غياب البوصلة الأخلاقية، تتغير المقاييس، وينقلب الميزان، فيصبح الكاذب فطنًا، والجاهل ملهمًا، والمنافق قائدًا. وهكذا وصف إيليا أبو ماضي هذا الواقع بقوله: ذهب الصدق وجاء الكذب، وتولى الناسُ التهريجا، صار الكاذبُ يُدعى فطناً، وأُطلقَ للجاهلِ تأليها.
لقد وقع العالم اليوم أسيرًا في قبضة أبناء الشيطان، وهذا الانحدار في المعايير لا يمر من دون أثر، بل يترك الناس في اضطراب، والمثقفين في غضب، والشرفاء في عزلة. وكأن الشاعر الروماني جوفينال حين قال: “من الصعب ألا تكتب هجاءً في زمن كهذا”، كان يتحدث عن عصرنا بكل مرارته وسخريته.
ومع كل هذا الظلام، لا بد أن يبقى في النفس شيء من الأمل. فحتى في عالم مقلوب كهذا، تظل الحقيقة قائمة في جوهرها، بانتظار من يعيد لها صوتها ومكانها. وربما كان الرهان الأكبر اليوم هو على وعي الشعوب، وعلى يقظة الضمير، وعلى أولئك القادرين على التمسك بالقيم، لا لأنهم ينتظرون جزاءً، بل لأنهم يعرفون أن بقاء الإنسان نفسه مرهون بصدق القيم، لا بزيف الشعارات.

أحدث المقالات

أحدث المقالات