22 نوفمبر، 2024 11:31 ص
Search
Close this search box.

زمن الشرجي… اخر ايام الربيع

زمن الشرجي… اخر ايام الربيع

المدينة وشوارع المنطقة خالية من حركة المارة،الازدحام في بلادنا مواسم،لاتعرف متى تمتلأ الشوارع بالبشر،كل شيء هنا مرتبط بالسياسة والاستعمار،تبدوا لي الصور والازمنة المتداخلة والذكريات المظلمة تتزاحم في الذاكرة عندما تشتد الازمات…
لازلت اذكر الزمن الجميل بالرغم من انه يجمع نهايات قصص الطفولة، وبداية عهد المراهقة،كانت المدينة(الولاية) بيت واحد ،وعائلة واحدة،لايوجد فيها غرباء،الناس كلها من اهل الولاية(المدينة)،لم تكن هناك علامات حضارية تجعل من محافظتنا مدينة كبقية مدن العالم،فيمكن ان يقطعها الشخص طولا وعرضا بساعة او ساعتين، مع ان مساحتها كبيرة واقضيتها وقراها ونواحيها كثيرة ايضا،في اخر ايام الربيع يصبح زمن الشرجي جميلا ،رغم رطوبة الاجواء ،وقلة نسمات الهواء،حيث كانت تنظم حفلات غنائية عديدة لمناسبات مختلفة بعضها او اغلبها رسمية،معظم تلك الحفلات تقام في الجانب الثاني من (صوب الولاية)مركز المدينة،ولكن تسمع مايجلبه الهواء القادم من جهة الشرق، بيعض الموسيقى وانغام اللحن السبعيني الجميل(سبعينيات القرن الماضي)،وحسين نعمة يغني ياحريمة… بوية يانعيمة يانعيمة…ومالي شغل بالسوق مريت اشوفه …الخ.
كان اغلبية افندية المدينة المتعلمين يحملون الفكر والثقافة الشيوعية، التي اكتسحت المدن الفقيرة والمحرومة بقوة،وكأن الشارع شيوعيا بالكامل، مليء بالشعر والفن والادب والصراع،نرى الصدامات بينهم وبين القوميين،ونرى كذلك المساجد فيها شباب يرفض الافكار المسماة حينها بالدخيلة،انتشر الخمر(العرق)بكثرة بين مختلف طبقات المجتمع،من البائع المتجول، والعربنجي ،وصولا الى المعلم والموظف والمثقف،كنت اراقب هؤلاء الفقراء المسحوقين،الذين يخفون قناني الشرب تحت العربانة، او تارة تظهرملفوفة بجريدة او اكياس الكاغد الورقية، وكيف يعانقون هذا المشروب ويحضنوه كالام التي تحتضن طفلها (وليدها)،يبدون بهيئة الاطفال ،يسرقون الامل والفرح من ركام المدينة البائسة،ولكن سرعان ماتجدهم يحلقون بعيدا عن الواقع..
بعض احياء المدينة تتحول الى ساحات حرب بين مجاميع السكارى، تستخدم فيها احيانا كل انواع الاسلحة البيضاء، بما فيها التواثي(لوح خشبي)،ولكن سكر الافندية يختلف تماما عن بقية الطبقات المنسية،بعضهاجلسات سمر شعرية او غنائية او حتى سياسية،حلاوتها وجماليتها في الممنوع ،الذي يمس دولة البعث ايام البكر،كل شيء بالنسبة للاجيال المراهقة كان ضبابيا،فهم لايحبون شرب الخمر، ولا التزمت الديني، ولاحتى السياسة،فقد تصاعدت وتيرة التطور والنهضة التكنولوجية في العالم سريعا،وبدء يدخل منها شيئا بسيطا لتلك المدن المهملة البعيدة جدا عن تلك الحضارات العالمية العالية،دخل التلفاز واصبحت هناك اخبار وبرامج مختلفة ومسلسلات وافلام ،وحفلات غنائية وفلكور وتراث ،الخ.
كان منظر الافندي المثقف السكران لاتفارق مخيلتي، لماذا يفعل هؤلاء هذا الشيء المحرم،مع انهم لايؤذون احد ،ولديهم اخلاق رفيعة وعالية،على عكس العربنجية والشقاوات، الذين اذكر دائما نهاياتهم الدموية، فعندما يسكرون تتحول الشوارع الى ساحة حرب دموية.
الامر المحير في منظر هذا الافندي السكران كان بالنسبة لي محزنا تبعا لقناعاتي المستقاة من الواقع الاجتماعي ائنذاك،فقد كانت ثقافة ومعيار الحلال والحرام هو الغطاء واللغة والغذاء والحياة اليومية البسيطة للمجتمع،فأنا لا ارى سببا لهذا الهروب من الواقع،والغريب ما ان تسأل عن مثقف معين او اي متعلم تجد في بداية التعريف الشخصي ان توجهه اما ماركسي او شيوعي،هل يعقل ان جميع مثقفي المحافظة ينتمون للحزب الشيوعي،في المقابل كانت هناك حملات اعتقالات ومضايقات للاسلاميين،اي لم يكن الشارع بالكامل موحدا ،بل كان الانقسام واضحا حتى داخل البيت الواحد،لكن كشباب في اول اعمار المراهقة بدأت تصبح السماء فوق رؤوسنا غائمة وكئيبة ومخيفة،بدأت تتصاعد وتيرة العنف الرسمي للدولة بشكل متسارع،فصار تداول اخبار الاعدام هي الابرز في المدينة،واذكر مع مجيء صدام للسلطة ، انتشر في المدينة ان الرفاق البعثيين كانوا مدعويين في قاعة سينما المدينة الرئيسية(بهو الادارة المحلية)لرؤية فلم محاكمة صدام لرفاقه بتهمة المؤامرة،حيث شاهدنا كيف انصت الجميع في المساء لنشرة الاخبار وهم مندهشين امام مايتلوه المذيع من بيان البعث الصدامي القاضي باعدام وسجن البعثيين المتهمين بالتعاون مع سوريا١٩٧٩ في المؤامرة المزعومة،ازدادت بعدها مناظر ومشاهد لبس الخاكي ،بعد اعلان تشكيل الجيش الشعبي،واندلاع الحرب العبثية مع ايران١٩٨٠، صار لباس الحرب هو اللون المفضل للدولة ،في وسيلة تحول اجبارية لطبيعة الدولة ،لفرض ثقافة نظام عسكرة المجتمع،طلبة وموظفين الكل عليه ان ينتظم في معسكرات التدريب العسكري،
كانت الحياة مملة بطيئة واحيانا متسارعة منهكة ،ثلاثة اشياء كانت متعبة للذهن،الحرب، ولقمة العيش، والمستقبل،لايرى الناس ولاحتى انا شخصيا نهاية لهذه المأساة،ففي الاسواق والشوارع والاماكن العامة تجد بساطة الناس وطيبتهم ومعاناتهم في السير جانب الحائط كما يقولون،تجنبا للمشاكل وعيون الجواسيس ووكلاء الامن والمتطفلين،ومن جهة اخرى ترى الوجوه الشريرة مزروعة وموزعة في كل ارجاء المدينة وحتى في الاحياء الصغيرة،صورة متناقضة عن مجتمع متناقض،اكثر الاشياء مرارة هي اللامبالاة،
كل الشعب يمارس بل متشبع حد التخمة بثقافة اللامبالاة،منهم من يعتقد ان الابتعاد عن الشر وقاية من التهلكة،واخرين يعتبرون ان الاهتمام والاقتراب من خطوط النار جنون وانتحار غير مبرر،الا القلة الذين يؤمنون بأن الحياة لابد ان تتغير وتتقدم وتزدهر بعيدا عن الاستبداد والظلم والفساد،ولكنها الحواجز وسواتر التخلف العالية التي حاصرتهم ولازالت،هي التي جلبت الويلات والكوارث على هذا المجتمع،الا ان الحياة تسير دون توقف والامل كذلك،تذهب وتأتي الرياح بكل تفاصيلها وغبارها ونسماتها،والاحلام والطموحات معطلة،لاشيء في الافق ،لقد اغلق السجان بأوامر الطاغوت وجلاوزته كل الحدود،واصبحت المنافذ كالفخ او لعبة حظ دموية،اما ان تفلت من مصيدة نقاط التفتيش ودوريات الحدود واما ان تغيب في اقبية الامن العام،فيكون مصيرك اسود في كلا الحالات الموت بعد التعذيب او السجن وظروفه المؤلمة القذرة، ،كل منافذ الامل كانت تبعث كالاشارات او الذبذبات من البيت الابيض، فهي تأتي احيانا مع الليالي الشرجية الرطبة بصعوبة،حيث كانت تصل موجات بث القنوات التلفزيونية الايرانية والكويتية ،فضلا عن اذاعة البي بي سي العربي،كانت اخبار الرسائل المتبادلة بين الحكومة العراقية وايران شحيحة،حتى استمعنا لخطاب الخميني بأنه يتجرع السم بأتخاذ قرار ايقاف الحرب مع العراق،بعد ان كان شعار الحرب واهدافه الوصول الى كربلاء ،وهذا يعني ان عليهم ابادة جميع سكان المحافظات الجنوبية الواقعة بين البصرة وكربلاء،وهذا امر غير واقعي واقرب للخيال وبحاجة الى المعجزة،اخيرا انتهت الحرب، وخرج الناس كالمجانين يرقصون في الشوارع فرحا بنهاية الكابوس الجاثم على صدر الشعبين والمنطقة منذ بداية الثورة الاسلامية في ايران، ووصول صدام للسلطة في العراق ١٩٧٩/١٩٨٠،وكأن وصول الاثنين للحكم محظ صدفة او هي معجزة ،او لعل الشيطان الاكبر احاك اللعبة واتقنها، ونسج عليها اوامره وخططه واملاءاته وتوقعاته،المهم ان الحرب انتهت لاغالب ولامغلوب كما ارادت الامبريالية العالمية،رقص الناس رجالا ونساءا واطفال،فرح الجميع الا المضطهدين،فهؤلاء يعرفون ان الحاكم الغبي الارعن لاتنتهي حماقاته ،لانها جزء من شخصيته وتفكيره،عاد جريان الدم في العروق الى طبيعته ،وكان غطاءا كبيرا او سحابة سوداء مرفوعة فوق رؤوس الناس والوطن قد اختفت،الكل سارع لاستحضار الاحلام والطموحات والامال المؤجلة،هذا الذي يفكر بالسفر ،وذاك في الزواج ، والجندي في التسرح، والخريج بالوظيفة،انطباع رهيب ،كل شيء بدى جميلا ،التفاؤل في كل مكان،ونسيان الماضي الكئيب اصبح اسرع من شرب الماء،الايام تمرسريعا،ونسائم الهواء تغيرت،لم يأتي الشرجي مرة اخرى،وان جاء يحسبه الناس ربيعيا من شدة الفرح،كل الوجوه تغيرت الوانها،والحذر الزائد عن الحد من المستقبل خفت وطأته، ولكن الغريب في الامر ان النظام لم تتغير سياساته او اساليبه او نهجه في الحكم العسكري للدولة والشعب،استمرت معسكرات تدريب طلبة المعاهد والكليات في العطلة الصيفية،لم تدم الفرحة طويلا،لاشيء في الشارع يبدوا عليه التغير،فالحاكم لازال مهووسا بالبزة العسكرية،والتسريح من الجيش بقي بطيئا،
ومن يخرج خارج البلاد لاكثر من سنتين يضع النظام عليه علامة استفهام امنية،ورفاق الحزب الشؤوم استمرت بمضايقاتها، تجوب الشوارع والاحياء الفقيرة وكل ارجاء المدينة حاملة بيدها قائمة طويلة من الاسئلة…. هل لديك هارب؟..وهل لديك معدوم او سجين بحزب الدعوة؟..وهل ….وهل……؟؟؟..
،الصدمة جاءت سريعة فالبطالة انتشرت بكثرة،والوظائف شبه معطلة وعسكرة المجتمع مستمرة،عاد التفكير الينا مجددا بضرورة الهرب من قبضة هذا النظام الدموي،مرت الايام والاشهر بسرعة،ومابين الدراسة والعمل وصعوبات الحياة،وكارثة التصريح الحكومي المخيب للامال من ان قيمة العملة العراقية لن تعود الى سابق عهدها قبل تسديد ديون الحرب المتراكمة،وبما ان اقرب دولة للعراق كانت الكويت،كان الشعب دائما ما يقارن قيمة العملة المحلية بعملة الجار القريب،ثم بدء النظام يلمح ان بعض دول الخليج تتأمر عليه،وانها تعمدت ضخ النفط بكثرة في الاسواق خارج الحصة وبعيدا عن منظمة الاوبك لتدمير العراق،فجاءة قمة الجامعة العربية في بغداد١٩٩٠ ،وبدأت الامور تتعقد اكثر،والمواجهات والحرب الاعلامية تتصاعد مع الكويت ودول الخليج،مرت الاحداث واشتبكت النوايا والمقاصد والاهداف اسرع من المتوقع،وهذه واحدة من اكثر اللعنات التي جلبها نظام البعث للشعب،كل شيء في هذا النظام يمر بطريقة مفاجئة وكارثية،لانعرف في هذا البلظ غير عبارات ومصطلحات شيطانية. واتهامات مستمرة وتلفيقات جاهزة…..خوانة..متأمرين..حروب..مؤامرات..اعدامات…سجون.. …جواسيس..حصار اقتصادي..فقر..دمار للمجتمع ومؤسسات الدولة. وانتشار للرشوة والجريمة والفساد والتحرش..انحطاط سياسي واجتماعي واخلاقي…الخ.
،حتى ختم هذا النظام المتخلف عنترياته بدخول الجيش العراقي الدولة الجارة الكويت، معلنا انها المحافظة التاسعة عشر،دخل الجيش الكويت بساعات،وفتح ابواب البلد للسلب والنهب والفرهود،جلس مجلس الامن وفرض الحصار الاقتصادي،وقرر بوش الاب تجييش الجيوش وتحشيد دول العالم بما فيها الدول العربية لمحاربة الشعب العراقي،كل هذه الاحداث والمأسي والكوارث والحروب مرت خلال عقد من الزمن لكن كل سنة منها بعقد،الحياة والموت فيها اسرع من كل الاشياء،بعض من يمقت الدكتاتورية وانظمة الحكم الفاسدة والظالمة يعتبر ان مايحدث هو جزء من العقوبة والبلاء الالهي للشعوب والمجتمعات المنحرفة عن خط ونهج الايمان الحقيقي….
كانت ليلة مظلمة ،ويوم طويل،مر احتلال الكويت والانسحاب واندلاع انتفاضة ١٥شعبان وجرائم الابادة التي حصلت بعد فشلها في اسقاط نظام صدام كشريط فلم وثائقي طويل،لعبة من العاب التكنولوجيا الحديثة، او هي اقرب لمايحصل احيانا في الاحياء الشعبية،اشبه بعراك الخضارين او الجزارين او مجموعة مراهقين،تبدأ بالصراخ والعويل والتهديد والعراك وتمزيق الملابس،ثم سرعان مايعود كل شيء الى طبيعته الاولى مع الخسائر،الا ان الفرق في هذه الحرب ان العراقيين تناثروا اشلاءا واجسادا بين معسكرات الابادة الجماعية ومعسكرات ومخيمات اللجوء في الدول المجاورة …
ماذا تصنع وقد اصبحت فجأة بلا وطن،وبلا بيت،وبلا هوية تعريف دولية او جواز سفر،احساس رهيب في الغربة، ففي بداياتها تشعر ان الشهر فيها يعادل سنة او اكثر،ثم تأخذك بعيدا عن الجذور،لتبدأ بصناعة جذور وطنية جديدة،لكنها تفلح احيانا ولاتفلح غالبا،سرعان ماتجد ان قطار العمر سار بك سريعا بعيدا عن ارضك واهلك وبيئتك،فيصبح الامر معكوسا بعد حين،يكون السنة فيها كالشهر،معادلة واحساس غريب لانعرف له تفسيرا،الا مايسمع من بعض المهتمين بأخبار الفلك والابراج والتنجيم،فهؤلاء يقولون ان هناك روايات تذكر ان سرعة دوران السنين تعني انها من علامات الساعة،اي ان يوم القيامة بات قريبا،ولعل التاريخ يعيد نفسه هنا،فكلما تشتد الازمات،ويكثر الظلم،وتزداد الحروب والكوارث،يصعد سوق التنجيم والترويج للروايات الموضوعة والاساطير القديمة…
ومع كل تلك التفاصيل والسنين التي تركض بالبشر نحو عالم السرعة الالكترونية،تحرر العراق من قبضة النظام الدموي عام٢٠٠٣،فحصل مالم يكن بالحسبان،تكالبت اغلب دول المنطقة على بلاد الرافدين،انتشر الارهاب والقتل الطائفي،وازداد الانقسام الاجتماعي والفساد السياسي والمالي بشكل فظيع،ولم يعد بمقدورنا تحمل حياة الغربة المملة الباردة،ولكن كلما يرجع احدنا الى بلاده،سرعان مايعود مرة اخرى محملا بالهموم والحسرة والالم على مايجري هناك،قاوم البعض وصمد في البقاء لفترة تجاوزت السنتين والثلاث احيانا،لكنه ايضا تراه في نهاية الامر يستسلم لخدمات وحاجات وضروريات الحضارة ،يصفي اموره ويلغي استقراره ويرجع الى بلاد الغربة مرة ثانية،انه النظام والادارة والخدمات والعدالة والانسانية والديمقراطية الحقيقية ،
واشياء كثيرة غائبة عن اوطاننا ..البعض منا اتجه للصحافة الالكترونية للتثقيف والتفريغ النفسي..اخرين اصبحوا شعراء المحنة والمنافي…اخرين بدؤا بالنسيان التدريجي للوطن الام،فهم يعتقدون ان الوطن الاصلي هي الام ،وعندما يرحل الوالدين وبالاخص الام الى دار حقهم، فلم يعد لهم شيىا في ارض الوطن، بعد ان وزع الميراث وتفككت الاواصر والروابط العائلية والاسرية،فكل الناس في الداخل والخارج مشغولة بهموها،شعور واحساس بائس،ذهبت ايام السمر والسهر والبساطة،هذه حياة عصر السرعة،انه جشع الراسمالية المتوحشة،التي تنزع من الانسان انسانيته ومشاعره واحاسيسه وعواطفه، وتجعله اقرب الى الالة منه الى الادمية..انا ايضا بدات اكتب شعرا وقصة ومسرحيات،لا اعرف اعتقد ان مايمر بنا جعل في جعبة الكثيرين خزين هائل من القصص والاحداث القريبة من احداث المسرحيات والروايات الخيالية..ولهذا اصبحت بلادنا بلاد الشعر والاهزوجة …
اعتقد ان الانسان الحساس صاحب العواطف والمشاعر الجياشة اذا عاش وسط تلك الظروف العصيبة،التي تشبه امواج المحيطات المتلاطمة، اما ان ينتهي به المطاف الى ان يصبح شاعرا او يفقد عقله،
يصبح اسير الماضي وقيوده الصلبة،بدأت اكتب هلوسات شعرية..ومسرحات ملحمية وشعبية… كي لا نفقد عقولنا بعد دوامة الحروب والكوارث والازمات السياسية ،وطغيان الحاكم وجلاوزته وفساده،
وجهل المجتمع الفاشل ومعاناة الغربة والمنفى،وتكرار حروب الامبريالية الرأسمالية العالمية الجديدة،صراع الحضارات والاقتصاديات الراسمالية العظمى…
صار الامر معتادا عندي،كلما تخلوا اجواء المنفى من نسائم هواء الربيع،وتظلم الدنيا بوجوهنا جميعا،نشعر حينها ان الغربة صحراء قاحلة
،نمشي بجيوب خالية وبطون خاوية الى المجهول…تخرج الروح بعدها كالكلمات المنتشرة على شوارع المدن البعيدة..
اذكر اننا جلسنا يومنا نتحدى بعضنا البعض الاخر حول من يستطيع ان يكتب شعرا…كانت مهزلة ادبية فقيرة كحال اصحابها المنسيين..
الذين تخلى عنهم العالم كله…
واذكر ايضا انني كتبت عن
كابوس الامهات في خرائب المدن …
قلت فيها…
وقفت على ضفاف النهر.
اخر ايام الفرح الطفولي
كانت مدينتي خاوية خالية فارغة
اشباح والوان متداخلة عكست ركام المحرقة
وصياد مشغول بشباكه..
مدينة لايوجد فيها غير السواد
واوراق الاشجار اليابسة المتساقطة على ارصفة الشوارع..
وغبار العواصف العالية
اسوار شوارع المدينة مغلقة …
مظهرها يبدو كمقبرة…
مليئة بالمتاريس وسواتر الحروب
اينما يدار الوجه لايرى سوى صور الامهات..
كأنهن واقفات ينتظرن قوائم المفقودين…
احياء واسواق معتمة..
لايوجد فيها غير ضوء خافت
يشق طريقه بين ضباب الاتربة..
الناس يركضون في مختلف الاتجاهات
لا احد يتكلم بهدوء ..
الكل يصرخ كالعويل
واصوات القنابل تسمع من بعيد
لازال قرار الهجرة في عقلي

احمله كالكابوس فوق ظهري
…..
……من دولة ومن مدينة الى اخرى
ثم ابتعدت..وابتعدت..وابتعدت
وعبرت حدودا وجبالا وسهول..
ابتعدت مرغما عن ارض الجحيم
امشي لوحدي قاطعا اميالا واميالا..وحدود..
اصعب مافي هذا العالم
ان تسلم روحك للمجهول
لاتعرف متى ينتهي الامر..
وتصبح رقما فوق الارقام المهمشة
تبحث عن مدفأة الخلود..
في ارض غير الارض
وعند شعب غير الشعب المعهود
غرباء تحتضن الغرباء
لا اللغة تشبه لغتي..
ولا الوجوه اعرفها..
ولا الخبز يشبه ارغفتنا السمراء
الا اني اشعر بنوع من هدوء الاعصاب
ورغبة جامحة بالاسترخاء…
واذكر انني في اوج الحالات الشعرية ترجعني الذكريات نحو بلادنا العبثية…
سيذبح كبش او كبشان
بل سيذبح اكثر من هذين الرقمان
قطعان تتبع قطعان
فالاحتفال الدموي الكبير
سيحضره الحمقى وجميع القادة الشجعان
وسيجلس خلف موائد فتنتهم جمع غفير من العميان
لهم عينان واسعتان تبصران ولاتريان
………………..
فرق شاسع بين الامس واليوم
ابتعدت عنا الحياة
بعد السماء(السما) عن(على الكاع) القاع…
بين من يسرق (اليبوك)قوت الشعب…
(وبين اليخضر زرع من دمه يروي النعناع)
وبين الذاهب نحو الموت
كي يحرس ارض الاحياء..
ذاك نجس
سيغرس جذره وسط الوحل…
وسيبقى شاهد عصر البصق
تتوارثه اجيال الاجيال
وهذا نبع يتفجر نهرا كالبركان
احصد شوكا
واتحمل طعم الماء المر
ولا اخضع لنسمة صفراء اخيرة
تخيرني وتجبرني بين الموت شريفا
او ان اخون الوطن والناس جميعا
حتى يصعد حفنة اوغاد فوق اكتاف المعتر
هو ضمير اكبر شرايين الانسان
منه النفس والروح والدم
ونبض الاحرار
تقبل او لاتقبل
ترضى او لاترضى
تلك هي حقائق فعل الميدان
اني اعرف ان بيوت مدينتنا
لاتتحمل هزات الوجدان
الا اني اشعر دوما بسعادة فضح جنود الشيطان
هذا احمر ذاك ازرق وهناك مجموعة الوان
ليس الموقف شارع يحمل جملة بيع الاوطان
ان الارض مقدسة
لاتقبل مشروع القسمة
مهما حاول جيش الجرذان
…..هكذا يقضي اغلب المهاجرين اوقاتهم شاعرية فوق ذكريات غابرة لن تعود،كلما مر بنا هواء الشرجي مرت احداث الماضي امامنا كشريط سريع للتعذيب،كل ماتحمله ذاكرتنا مؤلم ،فالاشياء الجميلة فيها قليلة وباتت شحيحة،الكل يصرخ من الظلم في بلادنا ،حتى بعد وصول الديمقراطية،كأنه قدر احمق كما بقول عبد الحليم،ولانعرف هل ان تلك العبارة حلال ام حرام،فالقدر لايرد ولايرفض، بل كل الكلمات لابد ان تحسب وفق هذا المعيار،ولكن هل صحيح ان نبقى اسرى تلك المقاييس المتعبة…
ستبقى سلسلة الذكريات تمر داخل وفوق ومن حول رأسي كل يوم…وسنلهوا كما يلهوا الاطفال في مدينة الالعاب..
لن نبحث عن الجد بعد اليوم..فالحياة لاتستحق كل هذا الجهد والعذاب والالم..اسهل مافيها نعمة النسيان…وسنبقى عند الحدود دائما ننتظر نقطة انطلاق اخرى..تبدأ عند ساعة الصفر الكونية…

أحدث المقالات