23 ديسمبر، 2024 11:34 ص

زمن الرجل غير المناسب

زمن الرجل غير المناسب

ـ منذ قيام الدولة العراقية الحديثة العام 1921 وشعار (الرجل المناسب في المكان المناسب) يتردد على لسان كل مسؤول.. صحيح إن عدد غير الكفوئين في العهد الملكي كان متواضعاً.. لكن هذا لا يعني إن تحقيق هذا المبدأ كان قائماً تماماً ..
ـ وفي العهد الجمهوري الأول تم اختيار حكومة ثورة 14 تموز 1958 الأولى على أساس الكفاءة والمهنية.. إلا إن الحالة لم تدم أكثر من عام.. وفي العام 1963 أصبحت الوظيفة واحتلال المناصب قائماً على أساس سياسي.. لكن لم يكن شاملاً.. ، فكانت القرابة والصداقة والعشيرة ومن يملك القوة العسكرية ..
ـ وبعد انقلاب تموز 1968 أعلنت وزارة الخارجية عن نيتها تعين المتفوقين العشرة الاوائل في فروع العلوم السياسية والقانون واللغة الإنكليزية.. لكن لم يعين أي منا.. بل عينً الحزبيون والقرابة.. وحتى من غير الفروع المطلوبة ..
ـ قيس جمال الدين أحد المتفوقين الذين لم يعين حزم حقائبه إلى فرنسا وحصل على شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية.. عاد للعراق وقدم ثانية للخارجية للتعين.. فوجئ إن من يقابله ويختبره كان أفشل الطلبة معنا.. وأقسم قيس ليً انه لم يجري اختباره.. بل سلم عليه ذلك الشخص ببرود.. وانتهت المقابلة والاختبار الوهمي بالفشل.. وأخيراً عين تدريسياً في جامعة بغداد.. ولم يستطع رغم المحاولات العديدة الانتقال إلى وزارة الخارجية.. بالرغم من انه يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية.. ويتقن ثلاث لغات ..
ـ وزير الثقافة والإعلام في الثمانينيات كان يردد دائماً في اجتماعاته مع المسؤولين انه أصبح وزيراً للثقافة والإعلام وهو لا يعرف من الثقافة والإعلام سوى (ألاريل) المنصوب فوق بناية الإذاعة والتلفزيون في منطقة الصالحية…. (يا للمهزلة) ..
ـ جار لنا لا يعرف من السياسة حتى أحاديث (القائد) رجاني بإلحاح مساعدته في كتابة تقرير عن حركة عدم الانحياز باعتباري كنتُ مديراً لعدم الانحياز.. وأمام الحاهه أشرتُ له على فقرات من بعض المصادر.. وسجلتُ له بعض الملاحظات ليستعين بها عند كتابته تقريره.. لكنه نقل نص الفقرات فقط.. ولم يأخذ بملاحظاتي.. فكان تقريره مشوهاً ..
المهزلة انه كُرمً عليه ساعة فيها صورة صدام.. وتمً ترقيته الى مدير عام.. بعد أشهر عين وزيراً لوزارة مهمة.. كزميله الأول الذي لا يعرف من وزارته سوى (ألاريل) ..
ـ في ألعام 1983 شعرتُ أنا بغبن كبير واقع عليً.. فقدمتُ طلباً لنقلي إلى أية دائرة أو أية وزارة.. قابلني الوزير ليقول ليً : أنت أذكى موظف في الوزارة.. وتعادل عشرين مديراً عاماً.. بل أنت أفضل من وكلائي.. لكنك غير محظوظ !!…. بربكم هذا كلام مقبول؟؟ .. وبقيت الحال على ما كانت عليه.. ولم تمضي سنة ليحيلني نفس الوزير على التقاعد.. وأنا كنتُ في عنفوان نضجي الفكري والجسدي والصحي.. وفي الأربعينيات من عمري ..
ـ بعد العام 2003 لم أعاد الى الوظيفة.. ولم أعين من جديد .. أحد المسؤولين المهنيين الكبار قال ليً: (أنت عالم.. وخبرة مهنية وقيادية نادرة.. لكن الزمان غير زمانك).. قلتُ له: (هذا الزمان غيرُ زماني.. وزمن البعث غير زماني.. فمتى أجد زماني؟).. نظرً إليً وابتسمً.. وأخفض رأسهُ).. لم تمض أشهر حتى أقيل من منصبه.. فردً عليهم بشكل علمي وموضوعي.. فأحالوه الى القضاء ليس بدعوى واحدة.. بل بعشرة دعاوى كيدية.. فلم يجد خياراً سوى مغادرة بغداد ..
واليوم ومنذ العام 2003 هناك مئات المستشارين.. جيوش من المدراء ورؤساء دوائر وأقسام لا يفقهون شيئاً.. كذلك مئات من أعضاء مجالس المحافظات.. شهاداتهم مزورة .. وجاء لهم الفرج بقانون العفو العام الأخير .. حيث يشملهم العفو ويبقون في وظائفهم وبشهاداتهم المزورة.. عاش العراق .. بلد الشهادات المزورة والمزورين ..
الأنكى من ذلك هناك وزراء قضوا أربع سنوات أو أكثر في وزاراتهم.. لا يعرفون حتى الآن ماذا تعمل وزاراتهم.. ومازال هؤلاء جميعاً لم يتعلموا ألف باء أعمالهم ..
الجريمة الكبرى بحق العراق إن (142) نائباً في مجلس النواب الحالي يقيلون وزير الدفاع الحالي الذي يحمل شهادة الدكتوراه في العلوم العسكرية بامتياز.. وله خدمة وخبرة عسكرية وقيادية ناجحة أكثر من ثلاثين سنة.. ولا يمكن إنكار دوره في إعادة بناء الجيش العراقي على أسس مهنية.. والمساهمة في طرد داعش من 40 % من الأرضي التي احتلها العام 2014 ..
يا ناس أقيل هذا الوزير (ليس لأنه فاسد.. أو خائن.. أو كشف أسرار الدولة.. أو قاتل.. أو مزور..) بل أقيل لكشفه أسماء نواب فاسدين علانية !!!
والمصيبة مازلنا نؤكد على مبدأ (الرجل المناسب في المكان المناسب)..