لقد تغيّر كل شيء من حولنا. اليوم أصبح كل شيء متوفّرًا وموجودًا، بينما كنّا في زمن مضى نعيش الحرمان بكل تفاصيله، نحمل معه أحلام المستضعفين والبائسين.
أبناء هذا الجيل يعيشون حياة مرفّهة إذا ما قورنت بما عاشه آباؤهم وأجدادهم. ذهب زمن البحث عن رغيف الخبز، وزمن خصافة التمر و”تنكة” الدبس التي كانت نادرة الوجود في أغلب بيوت القرية. لقد أصبحنا اليوم نعيش في زمن المعجّنات والحلويات التي لا نحفظ حتى أسماءها، لأنها تحمل مسميات دخيلة على لغتنا العربية.
ذلك الحرمان الذي عشناه يومًا ما أنجب رجالًا قادرين على تحمّل الشدائد. رجال كانت ملامح الحياة تُقرأ في وجوههم، يخجلون من أنفسهم أحيانًا أمام الكبار، ويفرحون إذا كُلّفوا بإنجاز مهمة، فيسارعون إليها برحابة صدر. إنهم رجال الحرمان الذين أنجبتهم أمهاتهم في بيئة لا تعرف سوى الفقر والبساطة. في تلك البيوت الطينية، وعلى تلك الدروب الطينية التي كانت أقدامنا تغوص فيها في فصل الشتاء، لم نكن نعرف شيئًا عن الطرق المعبّدة ولا عن العالم الخارجي. أقرب قرية إلينا ربما تبعد كيلومترين أو ثلاثة، ومع ذلك لم نعرف تفاصيل حياة أهلها، وما كان يجمعنا جميعًا هو “الحرمان”.
أي زمنٍ كان ذاك، وأي زمنٍ نعيشه اليوم؟! لقد تحوّلت القرى إلى مدن تعيش حياة شبيهة بحياة المدينة. مررتُ مؤخرًا في الساعة الثامنة صباحًا بأحد القرى، فلم أجد شخصًا واحدًا في طرقاتها، الجميع نيام، ولا يُسمع سوى صوت المكيّفات. حتى الطرق على الأبواب بات محرجًا، إذ يُقال: “من هذا الذي جاء باكرًا؟”.
في ذلك الزمن كانت الشمس هي من توقظنا صباحًا، وهي من تحدّد مواعيد نومنا مع غروبها. أما اليوم، فقد اختلف كل شيء. ذهب زمن الحرمان الذي ما زال عالقًا في ذاكرتنا رغم قسوته، وجاء زمن الرفاهية لأبناء هذا الجيل، الذين رغم كثرة النعم التي يعيشونها، تراهم يتذمّرون ويقولون: “لم نرَ من حياتنا شيئًا”. وربما هو أمر طبيعي، لأن حياتهم كلها تبدأ وتنتهي بين النوم والراحة.
إن الحرمان لم يكن مجرّد معاناة، بل كان مدرسة تُعلّم الصبر والاعتماد على النفس، وتُخرّج رجالًا صلْبِي العود، قادرين على مواجهة قسوة الحياة. أما الرفاهية المفرطة فهي سيف ذو حدّين؛ قد تُسعد الجيل وتوفّر له الراحة، لكنها في الوقت نفسه قد تُضعف روح المثابرة لديه، وتُطفئ جذوة التحدي والإصرار. وبين الحرمان والرفاهية تقف مسؤولية الأجيال: هل نُنشئ أبناءنا على القوة والصبر كما عاش آباؤنا، أم نتركهم أسرى النعمة حتى تفاجئهم الحياة بما لم يتعوّدوا عليه؟