قصة قصيرة
مرّت أيام قليلة قبل أن يُفاجأ الزقاق بخبر غريب: الكاتب، الذي نادرًا ما غادر عتبة بيته، وجد عملاً في مكتبة قديمة على أطراف السوق. كان يتردد عليها خلسة، يشتري كتبًا مترجمة لنيتشه ودوستويفسكي وكامو، وأخرى لكتّاب عرب. لأول مرة، بدا وجهه أقل شحوبًا، كأنه خرج من دفاتره إلى العالم.
بينما كان يضع كتابًا بعنوان “أسطورة سيزيف” على الرف، اقترب منه بائع متجوّل يحمل جرائد بالية ومجلدات أدب باهظة الثمن. دار بينهما حوار:
ــ تحب الفلسفة؟
ــ أقرأها، وأحاول أن أكتب عنها…
ــ إذًا، أنت مثقّف؟
ضحك الكاتب:
ــ لا… المثقّف يعرف الكثير، لكن المفكّر يشكّ في كل شيء.
ــ وأنت؟
ــ أعيش بينهما، في الزقاق.
في تلك الليلة، عاد إلى بيته مبتسمًا. كتب على ورقة علّقها قرب المصباح: “المعرفة ليست خلاصًا دائمًا، لكنها قد تؤدي إلى الضياع.”
فجأة، زُيِّن الزقاق. النسوة خرجن بزغاريد ناعمة كندف قطن في مهبّ الريح، يحملن أقمشة ملوّنة، ينظفن العتبات، ويغسلن الفرش السميكة. رائحة عرسٍ فاحت من آخر الزقاق، حيث يسكن جار جديد، لم يعرفه أحد، لكنه دعا الجميع لحضور زفاف ابنه.
خرج الرجال بملابس نظيفة. بعضهم حلق ذقنه، وآخرون اكتفوا بمسحة ماء ورد خلف الأذنين. في ساحة الزقاق، نُصبت طاولات خشبية قصيرة. وُزّعت العصائر والكيك في صحون زجاجية قديمة، وعلت الموسيقى من مذياع متهالك لا يُصدر إلا نصف لحن، بترددات مشوشة.
السيد خرج مبكرًا، يرتدي عباءته الواسعة، وبيده مسبحة خضراء. وقف مبتسمًا، يصافح الرجال، ويهز رأسه للنساء من بعيد. لم يقل شيئًا، لكن وجوده جعل الفرح يبدو رسميًا وآمنًا.
في لحظة غافلة، انبعثت رائحة دخان من بيت أم ناصر. صرخة خافتة شقّت الزقاق، تبعها لهاث نساء يركضن بالماء، وصبية يحملون بطّانيات مبللة. كانت النار قد اشتعلت في ركن المطبخ، بفعل تسرب الزيت من قدر قديم.
لكن النار لم تنتشر، كأنها هي الأخرى تخشى على المكان. تمت السيطرة عليها، وظلّت آثارها شاخصة: جدار مسوّد، بعض الأواني المحترقة، وابتسامة متعبة على وجه أم ناصر وهي تقول: ــ “الحمد لله، حتى النيران تعرف أنّ الزقاق لا يتحمل فاجعتين.”
في اليوم التالي، وُضعت وردة بلاستيكية على حافة الباب المحترق، كأنها شاهدة على ما لم يكن. ومن نافذة الكاتب، عُلّقت ورقة جديدة تقول: “كل بيت في هذا الزقاق يكتب شيئًا… حتى النار حين تزور، تترك سطرًا على الجدار.”
زقاق السيد (4)
صباحٌ ملطّخٌ بالأخبار، لم يعرف الزقاق مثله. الريح كانت تجرّ صفحة الجريدة لتتوقف عند الحائط الأيسر من بيت السيد. هناك خبر غير متوقّع… جملة خُطّت بالطبشور الغليظ: “الدار معروضة للبيع.”
الجدار تراجع خطوة إلى الوراء، والنوافذ أطبقت جفونها، وكأنّ البيت خجلٌ من الإعلان. مرّت نسوة من أمامه وكأن كل خطوة لهن تنقُر على قلب الزقاق: “البناء يصلح للسكن لعامين فقط. الطابق الثاني: غرفة ومخزن. الأول: غرفة استقبال ونوم، وحديقة.” أسباب البيع… خاصة.
كانت التفاصيل كافية لتُشعل الصمت وتتركه موقدًا. في بيت النجار، تسربت الكلمات مثل لهاث خافت. اجتماع سريّ بدا كأنّهم يكتبون وصيّة الزقاق. السيد يريد أن يغادر، أن يبيع، أن ينسحب كظلّ طويل عند الغروب.
أم ناصر، بثوبها المشقوق عند الحاشية، لا تزال تملك صوتًا: ــ “ادفعوا رجالكم قبل أن يُسحب الزقاق من تحت أقدامنا.”
لكن الرجال صمتوا. بعضهم شمّ في الإعلان رائحة نهاية، والبعض خاف أن يُقال عنه كثير الحشر. أحدهم قال: ــ “قد تكون مجرد مناورة.” وآخر همس: ــ “الحديقة وحدها تساوي الذكريات…”
الوقت يمرّ، مبللٌ بالترقب. الزقاق ساكنٌ حدّ الألم. أبواب أُغلقت قبل المغيب، نساء يتبادلن السؤال الشك بنظراتٍ جانبية. أم ناصر لم تمارس طقسها اليومي، لم تخرج “اللبلبي”، لم ترفع الملعقة نحو أحد. جلست على الأرض تراقب ظلّها يتقلص: “كل شيء يتقلص…” همست، ربما لنفسها، وربما للحديقة أيضًا.
البعض قال إنّ ابن البناء خرج في توقيت خاطئ. الزقاق لم يكن مستعدًا لرحيل ثانٍ. من يرحل يفتح بابًا، والسيد ربما قرأ في الغياب تصريحًا للمغادرة.
ثم، دون سابق إنذار، زغاريد اخترقت سقف السكون. لم يكن فرحًا، بل احتفالاً بالبقاء، أو إنكارًا للرحيل. النسوة رفعن الأيادي، طقسن بالأكفّ، بعضهنّ بكى بين التصفيق.
“لنتبارك… حتى إن لم نؤمن بما يحدث.” قالتها عجوز وهي تخلط الدموع بالحناء.
كل شيء يختلط في الزقاق: الحقيقة بالتمني، الغياب بالصدى، والصوت بالصمت. وفي مساء رمادي، عُلّقت ورقة صغيرة على باب بيت السيد، دون اسم أو توقيع: “البيوت لا تُباع يا سيد، بل تُرمم… لا تتركنا في المنتصف. وجودك ليس فقط للذكرى، بل لضمان التوازن.”
زقاق السيد (5)
في الليلة التالية، لم يُشعل بيت السيد ضوءه. ظلّ معتمًا، كأن البيت قرّر أن يغمض عينيه هو الآخر. الرسالة ما تزال على الباب، مثبتة بدبوس صدئ، لكن السيد لم يُجب. لم يرفعها، لم يمزقها، فقط… تركها تواجه الريح.
في الداخل، قيل إن السيد جلس ساعات على كرسيّه الخشبي، لا يتحرك، لا يأكل، لا يتنفس بصوت. أحدهم رآه من فتحة النافذة، يحدق في القفص المعلق. العصفور ما زال لا يغرّد. والسيد، كأنه ينتظر أن يعلّمه شيئًا.
جلس الكاتب تلك الليلة في الفناء المقابل لبيت النجار، دفتره على ركبته، ويده ترتجف قليلًا: “لو كان للزقاق لسان، لقال للسيد: لا تكتب النهاية بمفردك.”
كتب هذه الجملة، ثم مزقها، وكتب غيرها. كل الكلمات بدت خائنة. ربما لأن الزقاق نفسه صار يخاف من الحروف… لأن أول من غادر، غادر بصمت. والثاني، ها هو يعلنها كتابة.
أم ناصر… لم تخرج منذ يومين. لا رائحة كمون من بيتها، لا صوت أدوات المطبخ، لا لعق للملعقة. حتى النسوة بدأن يتهامسن: ــ “ربما مرضت؟” ــ “بل انكسر شيء فيها…” ــ “أم ناصر لا تسكت إلا إذا كان الصمت أنفع من الكلام.”
الزقاق دونها بدا كعجينة بلا ملح. الأطفال صاروا يمرّون أمام بيتها ببطء، كأنّهم يسألون الهواء عنها. أحدهم وضع قطعة حلوى أمام الباب، وغادر دون أن يُرى.
أما الرسالة، فقد صارت مزارًا صامتًا. الناس تمرّ بها وتُبطئ. بعضهم يقرأها، وبعضهم يتمتم.
فجأة، جاءت أصوات من خارج الزقاق. رجال غرباء بقمصان رسمية، يحملون خرائط ودفاتر وكاميرات. وقف أحدهم وقال: ــ “نعمل لصالح مكتب التخطيط العمراني، نريد معلومات عن عقار السيد.”
النجار السيد لن يبيع قال هذه الكلمة من رفض داخله. لكنهم لم يغادروا. السيد لم يخرج.
لكن في تلك الليلة، سُمع صوت القفص يُفتح. وصمت ثقيل أعقب الطنين.
وفي صباح ثالث، وُجدت يافطة صغيرة معلقة كتب فيها: “لن يُباع البيت… البيت باقٍ. الطيور فقط تغيّر أعشاشها.”
______________________
( *) تكملة قصة زقاق السيد.