في زمنٍ كان المواطن العراقي فيه يخشى أن يُنطق اسمه في دائرة حكومية ، عاش رجل بسيط اسمه زعتر ، شايب طيب يملك محل أعشاب ، حظه العاثر أنه فتح دكانه مقابل مديرية الأمن العامة ، حيث لا تُباع الثقة ولا تُستورد الكفاءة .
كان بالقرب منه شايب آخر ، كل صباح يفتح محله ويرفع يديه إلى السماء قائلًا :
“اللهم اكفينا شر التايهات!”
زعتر كان يضحك ، ويستهزئ بهذا الدعاء الغريب …
لكن يا ويلاه ، ما درى أن هذا الدعاء نفسه راح يصير نعشه الأخير .
في يومٍ تعيس من أيام جمهورية الرعب ، استيقظ مدير احدى المديريات في الأمن العامة يتلوّى من ألم في بطنه وصفحته ، فقال لسائقه :
“يابه بطني توجعني، روح بيا عالطبيب!”
لكن السائق العبقري رد :
“سيدي شنو الطبيب؟ جيب شوية زعتر ، دُكّه واسحنه زين ، وحطه بكلاص مي واشربه عالريگ.”
وصل المدير للدائرة ، والألم يقطع أحشائه ، فأرسل المراسل يصيح :
“جيبوا زعتر!”
وما يعرفون زعتر إلّا هذا الشايب الطيب اللي مقابل الدائرة
ركضوا عليه ، جابوه غصب ، قالوا للمدير :
“سيدي جبنالك زعتر!”
رد :
“دُكّوه!”
قالوا:
“دكيناه!”
قال :
“اسحنوه!”
سحنوه
بعدها ، المدير قال :
“حطوه بكلاص مي وجيبولي إياه!”
هنا وقف المراسل محتار
قال له المدير :
“ليش واقف ؟”
قال :
“سيدي… شلون أحط بني آدم بكلاص؟ هاي ما مرت علية!”
المدير انفجر :
“شنو بني آدم ؟”
رد المراسل :
“سيدي انته گلت جيبوا زعتر ، رحنا للمحل جبناه ، وگلت دكّوه وسحنّو … وسحنّاه!”
المدير ركض يشوف الشايب زعتر لگاه طايح ، يلفظ آخر أنفاسه ، من الدكّ والسحن وسوء الفهم .
مديرية الأمن حطته بالسيارة ، رجّعوه لبيته شبه ميت الناس تجمّعت ، الكل يسأل :
“شنو السالفة ؟”
إجى صاحبه الشايب ، سأل زعتر :
“شنو صار؟”
رد زعتر وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة
“تتذكر لمن گلت اللهم اكفينا شر التايهات ؟ هاي وحدة منهن.”
وضع رأسه … ومات
زعتر لم يكن أول ضحية في نظام حول الجهل إلى منهج ، والغباء الإداري إلى عقيدة أمنية في زمن النظام البعثي ، لم يكن المواطن يُعامل كإنسان ، بل كأداة ، أو حتى أقل يُؤخذ اسمه حرفيًا ، يُسحل في دوائر الأمن ، ويُسحن حرفيًا إذا لزم الأمر .
زعتر مات لأنه اسمه صار “علاج”، ومات لأن أحدًا لم يجرؤ أن يسأل: هل نقصد الإنسان … أم النبتة ؟
في بلادٍ تُدار بالشك لا بالعلم، وبالخوف لا بالعقل ، يتحول الخطأ إلى مقبرة ، والمواطن إلى نكتة مأساوية .
رحم الله زعتر … كان عشابًا ، فصار شهيدًا .
همسة …
رسالة إلى من لا يزال يحنّ إلى أيام الظلام :
لكل من يروّج لزمن الطغيان، ويحنّ لعهد المقابر الجماعية والقرارات الفوقية، نقول له:
تذكّر زعتر
تذكّر أن في ظل أنظمة القمع ، لا قيمة للاسم ، ولا كرامة للإنسان ، ولا وزن للعقل، وأن “الخطأ الإداري” قد يعني نهاية حياة .
تذكّر أن مديرًا أمنيًا كان يداوي ألم أحشائه بزجّ مواطن في الخلاط ، لأن السلطة حين تجهل ، لا تكتفي بإفساد المؤسسات … بل تسحن البشر .
تذكّر أن زعتر لم يكن وحده ، بل رمز لكل من طحنهم جهل الدولة ، ودُكّوا تحت عجلة الحماقة .
فلا تقولوا “أيام زمان كانت أحسن”، بل قولوا: اللهم اكفينا شر التايهات، وشر من يحنّ إليها .