23 ديسمبر، 2024 10:59 ص

زرادشتيو ايران ..ثلاثة آلاف عام من الايمان

زرادشتيو ايران ..ثلاثة آلاف عام من الايمان

الدراسة في الاساس محاضرة القيت في الاجتماع السنوي للجمعية الملكية الاسيوية في 13 حزيران 1985، من قبل ماري بويس، ودرست بويس الانكليزية وعلم الآثار في جامعة كامبرج، وقضت بعد ذلك سنتين في جامعة لندن كمدرسة مساعدة في موضوع الادب الانكلوساكسوني وعلم الآثار.
لقد كانت بطبيعة الحال مهتمة بتاريخ الفايكنغ ومن خلال دراستها لروسيا جذب اهتمامها الحيثيون، ومن خلالهم اهتمت بتاريخ ايران القديم. عملت عام 1947 كمحاضرة في قسم الدراسات الايرانية في معهد الدراسات الاسيوية وقد اصبحت مدرسة عام 1958، ونالت لقب الاستاذية عام 1963. وعند تقاعدها عام 1981 منحت لقب الاستاذية الفخري.
ان اعظم ما ابدعته براعتها هو تاريخ شامل للزرادشتية في اربعة مجلدات(1). لقد نشرت كتبا عديدة اخرى والعديد من الدراسات التي تهتم بالزرادشتية والمانوية الايرانية وبصورة خاصة البارسية(2). كما عملت سكرتيرة ومديرة ارشيف في الاكاديمية البريطانية لمدة خمسة عشر عاما في قسم المخطوطات الايرانية.
انني اشعر بعميق الشكر لتشريف جمعيتكم لي بمنحي الميدالية التذكارية للسير بيرسي سايكس، وانها لمتعة بالاضافة الى كونها امتيازا ان ادعى لالقاء محاضرة في ذكرى احد الذين كانت كتاباته تمنحنا المتعة والمعرفة.
لقد كانت كتب السير بيرسي سايكس بالنسبة لي ذات اهمية خاصة ، اذ انه بعد تعيينه بصفة كابتن سايكس لفتح قنصلية بريطانية في كرمان وبلوشتان عام 1894، اصبح يعيش في احد معقلي الزرادشتية الباقية في ايران، بينما اتاحت له رحلاته المستمرة بالاضافة الى قوة ملاحظته وعطشه الدائم للمعرفة الى تثبيت ملاحظات مهمة حول الزرادشتية في مركزها يزد(3).
ان ملاحظاته الرئيسية حول هؤلاء الناس الذين كانوا محتقرين ومن عباد النار قد دونت بطبيعة الحال في كرمان نفسها.كانت شقيقته الشجاعة والمقتدرة ايلا سايكس هي التي تعتني به خلال السنين التي عمل فيها قنصلا، وقد صادف ان استخدمت كوصيفة لها ارملة زرادشتية تعرف بـ(باجي) وكتبت عنها ما يلي:
” لم اكن لاجد وصيفة اكثر ذكاءاً واخلاصاً منها. لقد كانت مخلصة بحيث انني بعد فترة قصيرة امنتها على ممتلكاتي ولم اجد مبرراً ابداً للشعور بالندم على هذه الثقة…” لقد رسمت الانسة سايكس صورة حية ومؤثرة للباجي في كتابها “عبر بلاد فارس على ظهر حصان” “Thrugh Persia on a side- saddle, London, 1901” الكتاب الذي يضاهي بملاحظاته الحية والمميزة حول حياة المدن والقرى اعمال السير بيرسي نفسه.
لقد كانت اعمالها وملاحظاتها حول زرادشتي ايران مكملة لاعمال سلسلة طويلة من الرحالة الغربيين تعود في القدم الى هيرودتس في القرن الخامس قبل الميلاد(4). ولكن بينما عرف الاخ وشقيقته الزرادشتيين كمجموعة صغيرة واقلية مضطهدة، فان هيرودتس عرفهم كعنصر استعماري قوي- العنصر الذي كان هو نفسه تحت سيطرته منذ زمن (هاليكارناسوس) وفي (كاريا) حيث كان جزءاً من الامبراطورية الفارسية الاولى المعروفة بالاخمينية، ومن بين الاجيال المتقدمة للاغريق، كان افلاطون مدينا لتعاليم زرادشت.
واعتبر ارسطو وهو احد تلاميذ افلاطون، الرسول الشرقي خليفة روحياً لمعلمه، معتبرا بانه (وفقا لنظرية قديمة لتعاقب دورات السنوات الارضية) قد عاش منذ 6000 عام قبل افلاطون. لا يمكن لاحد الآن الادعاء بجدية بان زرادشت قديم الى هذا الحد، ولكن الدلائل المتجمعة تشير الى انه قد عاش في الالف الثاني قبل الميلاد ربما بين 1400 و 1200. ان هذا يجعله معاصرا لموسى. وبهذا يكون الدين الذي جاء به اقدم من زمن قيام الامبراطورية الاخمينية، ولكنه في الزمن الذي كان يبشر فيه بتعاليمه، كان يبشر بديانة عالمية، لقد كان مقتنعا بانه قد تلقى الهاما من الله لتنوير البشرية، وان كلماته موجهة الى عموم الرجال والنساء ذوي النوايا الحسنة ولكنه كان متقدما عن وقته في دعوته تلك. كانت الديانات السائدة في تلك الحقبة وثنية. كان الناس يعيشون ويموتون وهم يدينون بديانات اجدادهم. لقد عمل اتباع زرادشت على جمع الانصار للدين الجديد بدون كلل بين الايرانيين. ان زرادشت نفسه قد جاء من احدى القبائل الساكنة في شرق ايران، ولكن تعاليمه استمرت بالانتشار حتى وصلت في القرن الثامن قبل الميلاد الى الايرانيين في الغرب. ولقى هذا الدين اتباعا بين الميديين والفرس .
ان هذه الفترة من الزرادشتية التي دامت الف عام تعود الى ما قبل تاريخ ايران. لقد دخل هذا الدين التاريخ المسجل مع الاخمينيين وتحت امرتهم، واصبحت بعد ذلك “معتقداً ايرانياً “. يبدو بان الملوك الاخمينيين قد طلبوا من رعيتهم اتباع هذا الدين ولكنهم لم يحاولوا فرضه على غير الايرانيين الذين كانوا تحت سيطرتهم،خلال هذه الحقبة اي من القرن السادس الى القرن الرابع قبل الميلاد، انتشر الايرانيون في طول وعرض اراضي امبراطوريتهم، كان بعضهم ينتقل كموظف او جندي. البعض الاخر استولى على الاراضي واستقر فيها. لقد كان هناك العديد من المستعمرات الفارسية، مثلا، الاقاليم الغنية والجميلة للاناضول ومستعمرات اخرى في سوريا وبابل ومصر والحدود بين الهند وايران . وبالرغم من عدم فرض هذا الدين، فان تعاليم الزرادشتية كدين للمستعمر، اصبحت واسعة الانتشار واصبحت الاعياد الزرادشتية بكل ما تتميز بها من مظاهر الفرح والالوان، يحتفل بها من قبل غير الايرانيين ايضاً كما اصبح الحال باحتفالات اعياد الميلاد في اراضي الامبراطورية البريطانية بعد ذلك بحقب عديدة.
لقد كان احتلال الاسكندر للامبراطورية الفارسية في نهاية القرن الرابع ضربة هائلة للزرادشتية وذلك بسبب موت العديد من رجال الدين في المذابح الجماعية التي كانت تمارس من حملات هذا القائد، ويبدو بان رجال الدين الزرادشتيين – الذين كانوا يعرفون بالنسبة للاغريق بالمجوس- كانوا اهدافاً خاصة للقتل ربما بسبب
رفضهم للاتفاق المقدوني الذي كان بالنسبة لهم كافرا نجسا وربما بسبب مساعدتهم لبث روح المقاومة بين الناس ضده ودفعوا ثمن ذلك ارواحهم والى يومنا هذا تعرف التقاليد الزرادشتية الاسكندر بـ “الملعون” “قاتل المجوس”.
لقد كانت لهذه المذابح تأثيرها السيء على الدين الزرادشتي وذلك لان رجال الدين كانوا ما يزالون يرفضون كتابة النصوص المقدسة، لذلك يبدو بان عدداً من هذه النصوص قد فقدت مع مقتل هؤلاء الذين كانوا يحفظون النصوص المقدسة هو ان الحروف التي تعرفوا عليها في الشرق الاوسط- الاشورية، البابلية، العلامية، والارامية – لم تكن مناسبة لنقل اصوات اللغة الايرانية، وتخوفوا من يؤدي استخدامها الى افساد تعاليمهم المقدسة الافيستا (Aresta) ولم تكتب هذه التعاليم حتى القرن الخامس بعد الميلاد ربما بعد 2000 عام من حياة زرادشت – من قبل عبقري غير معروف، عمل على تشكيل حروف دقيقة مناسبة للغة التي نطقت بها. عند ذلك فقط عمل رجال الدين على كتابة كل التعاليم وقد حدث هذا لحسن الحظ قبل الفتح الاسلامي اذ ان هذا جعلهم من اهل الكتاب الذين كان النبي محمد (ص) متسامحا معهم.
نعود الى الاسكندر المقدوني، فبالرغم من ان سيطرته عملت على تثبيت الطائفة الزرادتشية، الا ان معاناتهم كانت آنية ومرتبطة بظروف الحرب والسياسة. لم يكونوا مهددين بالقضاء على دينهم، ان المحتلين الهيلينين لم يدخلوا في دين الايرانيين واديان رعيتهم الاخرين، وبقيت العديد من المستعمرات الايرانية تتبع هذا الدين حتى بعد انفصالها عنها، لذلك كان هناك العديد من الزرادشتيين في العديد من المناطق غير الايرانية والتي كانت غالبا مناطق غنية وثرية بالرغم من خروجهم من سيطرة الدولة المستعمرة.
استمر هذا الدين قويا لعدة مئات من السنين بالرغم من وقوع الامبراطورية تحت سيطرة الكفار، بعد ذلك، وبدأ من منتصف القرن الثاني قبل الميلاد، كون الفاراثيون الاقوياء الامبراطورية الايرانية الثانية، والتي يقال بانها كانت تقسم العالم مع روما، وتبعها في القرن الثالث بعد الميلاد، الامبراطورية الفارسية الثانية الساسانية ، وقد انتشر الدين بصورة جيدة في هذه الحقبة. لقد كان المعبد الزرادشتي غنيا جدا، وكان يصرف بسخاء على الاماكن المقدسة، وازدهرت المؤسسات الدينية.
ان العديد من الممارسات الدينية التي ارتبطت في ايران بالاسلام، مثل المؤسسات الدينية والوقف، والمدرسة، والكلية التابعة للجامع، يعود اصلها الى المؤسسات الزرادشتية، مثل العديد من الممارسات التي كانت تتبع في مقر الخلافة في بغداد والتي يمكن ارجاع اثرها الى تقاليد البلاط الساساني.
الا انه بالرغم من التواصل في العديد من النواحي بين الزرادشتية والاسلام في ايران، فان الفتح العربي في القرن السابع بعد الميلاد كان كاسحا وعلى المدى الطويل مأساة بالنسبة للدين القديم، فبينما كان الاحتلال الاجنبي الاول، قبل الف عام، احتلال المقدوني لا يشكل تهديداً للدين، اصبحت هناك الآن دعوة طوعية لدين آخر، وفي بعض الاحيان قسرية، كانت الزرادشتية قد امتلأت بالكثير من المعتقدات والشعائر القديمة، وكان رجال الدين قد هيمنوا على هذا الدين وبدأوا باستيفاء الاموال من اتباع الزرادشتية لادامة معابد النار، كان للديانة السامية الجديدة كل قوة وعنفوان الاعتقاد الجديد، وكان عليها ان تكون انظمتها واسسها وتعاليمها الخاصة بها
بالاضافة الى ذلك فانها في اصلها قد استخدمت عددا من تعاليم الزرادشتية، التي وصلت اليها مباشرة، او من خلال اليهودية، لهذا فانها لم تكن غريبة عن الفرس بالاضافة الى ذلك، فانه كان لها الامتياز كونها دين المحتلين، وبالنسبة للبعض كان الله منحازاً بصورة واضحة الى جانب العرب. لهذا السبب لم يكن غريبا ان يتحول الكثيرون الى الاسلام، الا انه بالرغم من كل هذه الاعتبارات، فقد بقي هناك ولاء واسع للديانة القومية.
بالنسبة للخلفاء الامويين المتطرفين بقيت ايران زرادشتية، بالرغم من استمرار انتشار الاسلام فيها كلما عزز العرب من سيطرتهم. ثم دخل عامل جديد لصالح الاسلام. ففي القرن الثامن ، اطاح الخلفاء العباسيون بالخلافة الاموية بمساعدة بعض الايرانيين لذلك اعطيت المناصب والامتيازات للمسلمين الايرانيين. وفي القرن التاسع لم يعد الاسلام دينا غريبا بالنسبة للايرانيين، فبعد نشر التقاليد الايرانية القديمة كما تمثلت بصورة رائعة في (شاهنامه فردوس) اصبح من الممكن ان يكون المرء وطنيا فخورا بقوميته وماضيه ومسلما في نفس الوقت.
صاحبت الامتيازات الاجتماعية والسياسية التي فتحت امام المسلمين الايرانيين، احتقار وسحب الامتيازات من الزرادشتيين، بالاضافة الى ذلك، وبعد ان ضعفت الخلافة في بغداد، ظهر ملوك ايرانيون مسلمون كانوا في بعض الاحيان قساة على رعاياهم الزرادشتيين، في هذا الوقت استطاعت مجموعة من الزرادشتيين من خراسان ذاقت قسوة المعاملة، الرحيل جنوبا الى الخليج (الفارسي) لايجاد سفن تنقلهم بعيداً حيث يجدون بعض الحرية السياسية ، لقد كانوا محظوظين للنزول على اليابسة عام 914 بعد الميلاد على ساحل كوجارت في غرب الهند حيث حلوا بين الهندوس الطيبين والصبورين، لقد كانوا معروفين لهم بالبارسيين او الفرس.
لقد كانت هذه هجرة محدودة، وحتى القرن العاشر كان الزرادشتيون مازالوا يشكلون اقلية كبيرة، وما زالت معابدهم منتصبة في العديد من المناطق محصنة ضد الاخطار بواسطة معاهدات ترجع في القدم الى ايام الفتح الاسلامي. ولكن جاءت بعد ذلك وبموجات متعاقبة قاتلة الحملات التركية والمنغولية التي جلبت البؤس لعموم ايران وبصورة خاصة للزرادشتين، لقد كان الاتراك مسلمين، اما المنغوليون فقد كانوا وثنيين انذاك وذبحوا كل الناس ومن كل المعتقدات بدون تمييز، واعتنقوا الاسلام بعد ذلك، وقد تعلموا الاسلام على يد المسلمين الذين دخلوا حديثا الى هذا الدين، ولم يرثوا او يعترفوا باي التزامات مع الزرادشتين وتحت حكمهم حولت معابد النار المتبقية الى جوامع، وخير الزرادشتيون بين الموت او التحول عن ديانتهم، ولكن هذه الامور لم تدون وذلك لانه منذ هذا الوقت، القرن الثالث عشر، بعد الفتح العربي بـ 600 عام اختفى الزرادشتيون من التاريخ المسجل لايران الاسلامية، لقد اصبحوا في ذلك الوقت اقلية صغيرة جدا وفقيرة جدا بحيث لا تجذب انتباه الباحث، ولم يسمع العالم الخارجي بهم مرة اخرى حتى مجيئ الرحالة الاوربيون لزيارة ايران الصفوية في القرن السابع عشر.
وفي ذلك الوقت تكتل اكثر الذين بقوا على قيد الحياة في مجموعات كبيرة نسبيا من اجل سلامتهم في مدينتين في مركز ايران بعيدا عن البلاط وعن الجبهات هما يزد وكرمان.
لقد تقلد الكاهن الاكبر الداستوران داستور الرئاسة متجاوز الكاهن الاكبر في كرمان وذلك لانه يمثل الكاهن الاكبر الفارسي القديم، الذي كان رئيس الطائفة الزرادشتية في ظل الحكم الساساني، ومن المحتمل بعد الاحتلال المنغولي الذي انتشر بصورة واسعة في اقليم فارس، ان يكون قد انسحب احد اسلافه مع مجموعة صغيرة من الكهنة الى قرية صغيرة في النهاية الشمالية من سهول يزد ابعد ما يمكن من مدينة يزد نفسها ومن حاكمها المسلم. وقد جلب كهنة اخرون للقرية المجاورة اعظم نارين مقدسين من نيران ايران الساسانية (وما زالت هذه النيران التي وضعت مع بعضها تشتعل هناك). كان سكان السهول انذاك كلهم من الزرادشتيين وبواسطة مساعداتهم ودعم بقية افراد الطائفة استطاع الداستوران داستور انشاء مدرسة صغيرة لتدريب الكهنة.
ان المسلمين، كما يعلمنا رحالة غربي في القرن السابع عشر سمحوا بذلك لان المدرسة كانت غير ظاهرة، وبسبب الهدايا السخية التي كانت تقدم لهم، وقد كانت هذه هي نفس المنطقة الزراعية التي ذهب اليها في القرن الرابع عشر مبعوث من كوجارات بطريق البحر والبر، طلبا للمعرفة والمشورة وتعلم الشعائر وتعاليم نيابة عن طائفته، من كهنة الدولة الام. ارسل الكهنة معه عند عودته رسائل تحوي تعاليم الديانة ومخطوطات النصوص المقدسة. استمرت هذه الاتصالات خلال الـ 400 سنة القادمة واحتفظ البارسيون بالوثائق التي كانوا يستلزمونها. وقد عمل مثقفوهم على نشرها، وعلى اصفاء سمة مؤثرة على المجتمع الايراني خلال تلك القرون المليئة بالاضطهاد، مبينين شجاعتهم وتحملهم ووفائهم لتقاليدهم واملهم في خلاص العالم من خلال التعاليم التي بشرهم بها رسولهم.
لقد عاشوا بعد استمرار متواصل وكانوا مستغلين كثيراً حتى ان تعبير “فقير كافر” (الاسم الذي اطلقة عليهم المسلمون تحقيرا لهم) اصبح تعبيراً محليا مرادفاً “لفقير مثل فأر الكنيسة”، كانت قمة معاناتهم تتمثل عند جمع الجزية المفروضة على غير المسلمين. لقد كانت تصاحب هذه العملية ممارسات قاسية وفي بعض الاحيان وحشية تؤدي الى الموت. ظهرت هذه الوحشية على مستوى عام في القرن الثامن عشر، عندما وصل الجيش الافغاني الى كرمان وذبح اكثر الزرادشتيين الموجودين هناك رجالاً ونساءاً واطفالاً. لقد استطاعوا عمل ذلك لان “الغبر” المحتقرين قد طردوا الى خارج اسوار المدينة حيث اقاموا في معسكرات مكشوفة.ان الاطلال البائسة لـ “غير محل” كان يمكن رؤيتها في الستينات، جدران المنازل الصغيرة والمزارات المتواضعة منتصبة كما كانت، مهجورة لمدة قرنين، ولكن بدلا من التعاطف مع الناجين- ربما عشر العدد السابق- حاول جباة الظرائب المحليون تحصيل نفس المبالغ التي كانوا يحصلونها منهم في السابق. لقد دفعهم اليأس الى ارسال اثنين من رجالهم لطلب المساعدة والاستنجاد بالشاه الذي كان يحكم انذاك، والذي كان لحسن حظهم (كريم خان زند) العادل والذي لم يكن بلاطه يبعد كثيراً من شيراز، ولم يكن لديهم المال اللازم لرشوة رجال البلاط ليصلوا الى الشاه، ولكنهم كانوا محظوظين لوصول كاهن بارسي اعظم يحمل رسائل توصية واستطاع مساعدتهم، تقبل كريم خان استعطافهم وامر ان يحق العدل وخفض الضرائب.
ان تصرف كريم خان هو تذكير بانه كان هناك بالطبع مسلمون عاملوا الزرادشتيين بانسانية، وقد كان الزرادشتيون يطلقون عليهم لقب “النبيل” للتفريق بينهم وبين الحكام الطغاة الذين كانوا يطلقون عليهم لقب “غير الشرفاء”. وبالطبع لا يمكن للاوربيين الذي شهد تاريخهم عمليات قتل اليهود، ان يرموا مسلمين ايران بالحجارة لمعاملتهم القاسية للزرادشتين ان الامر المستغرب هو انهم لم يتوصلوا الى حل نهائي حيث كان يمكنهم ذلك بسهولة، وانه ما زال هناك زرادشتيون اليوم يمارسون شعائرهم القديمة في الجمهورية ايران الاسلامية. يمكن الآن تلخيص اسس هذا الاعتقاد الذي عانى الكثيرون منه وقتلوا من اجله حتماـــــــ ان ديانة تعود في القدم 3000 عام تحوي عناصر من الصعب علينا فهمها اليوم وانا لا ادعوا الى مناقشة هذه العناصر الان، ولكن الزرادشتية دين ذو وجهين. انه ينظر الى الوراء نحو الماضي البعيد الى القرن الرابع او الخامس قبل الميلاد، والى الامام الى عام ديني مألوف عايشه الرجل الغربي طويلاً.
لقد اطلق بحق على زرادشت “المبدع الذي عبر بخطوة واحدة مرحلة مهمة في تاريخ الفكر الانساني، لقد كان كاهنا بالاضافة الى كونه نبيا، ومطلعا على المعتقدات والشعائر الخاصة بالمعتقدات الايرانية القديمة، كانت هذه المعتقدات مبنية على مبدأ الشرك، مشابهة لتلك المتضمنة في (الفيدا)(5) الهندوسية، لقد بدأ زرادشت يفكر بان احد هؤلاء الالهة، اهورا مازدا، وكما يشتهر ب أورمازد كان الله نفسه الاله الخالد الوحيد، ولكن في تلك الحقبة البعيدة، في مجتمع قبلي بسيط، كان من الصعب تصور فكرة التوحيد، لذلك اعتقد زرادشت بان اورمازد خلق آلهة اصغر منه، آلهة خير لمساعدته في تحقيق اهدافه، كانت هذه الآلهة الاصغر هي نفسها آلهة الخير الايرانية القديمة بضمنها الاله المشهور جدا مثرا (الذي كان يعبد تحت حكم الرومان هنا في بريطانيا) كما كانت هناك بعض الالهة التي كان الايرانيون القدماء يبجلونها، والتي كان زرادشت يرى بانها ليست على وفاق مع الله الوحيد القادر اومازد، بصورة خاصة بعض آلهة الحرب، كان رئيس هذه الآلهة الاله اندرا الذي كان يعبده الهندوس، والذي كان يستمتع، كما تخبرنا التراتيل الفيدية باثارة الصراعات.
ان هذه الآلهة تجلب المصاعب والبؤس للبشرية وقد خلقتها الروح الشريرة، انغرامانيو او اهريمان الذي كان يعيش في البداية مع اورمازد، مثله لم يولد وكان يختلف عنه في كل شيء- جاهل، خبيث ومليء بالشر. ويبدو بان زرادشت كان المعلم الديني الاول الذي فكر بمصدر واحد للشر في الكون- كما لو كان هذا المصدر هو الشيطان الذي نعرفه اليوم. لقد صور اهريمان كقوة مرعبة، مستلقة كليا عن اورمازد بشكل تحديدا لقوته. لذلك فان الزرادشتية هي دين التوحيد، الشرك، والثنوية(6)، ولكنها ليست ثنوية بمعنى عبادة الهين خالدين. ان اورمازد هو الخالد فقط وانه يجب عبادته هو فقط بالاضافة الى الآلهة التي خلقها فقط. اما اهريمان والالهة الشريرة التي تخدمه فيجب رفضها ومعارضتها كليا- ان هذه الالهة مرفوضة من اورمازد وآلهة الخير وكل الناس الطيبين.
لقد علم زرادشت اتباعه، بان اورمازد نفسه قد خطا الخطوة الاولى للقضاء على الروح الشريرة بخلقه الارض لتكون ساحة حرب بين الخير والشر. لقد جعل العالم مبنيا على الخير وحده، ولكن اهريمات مدفوع بما جبل عليه من شر، هجم على هذا العالم لافساده وتحطيمه. لهذا وحسب تعاليم زرادشت فان كل ما هو خير في
هذا العالم يعود الى اورمازد وكل ما هو شر يعود الى اهريمان ويجب على الانسان ان يلعب دورا في مساعدة الخير للانتصار على الشر.
الزرادشتية بهذا الشكل اعتقاد اعجابي وشجاع فبدلا من الطلب من اتباع هذا الدين الرضوخ للشر والاحزان لانها مرسلة من الله، فانه يطالبهم باعتبار هذه المآسي من عمل اهريمان، الذي يجب ان يستمروا بمعاداته بالاضافة الى ذلك، وبما ان العالم حسب تعاليم زرادشت عالم الخير فيجب على الانسان الاستمتاع به، حماية الطبيعة بكل استطاعته من التلوث، جعلها تزدهر، ومحاولة الحفاظ على جسمه قويا كجندي يجب ان يحارب على كل الجبهات ويجب عليه العناية بمصالحه الروحية والمعنوية، وبما ان الحزن، الحسد والغضب والعواطف المؤذية الاخرى تعود الى اهريمان، لذلك يجب التحديد منها كلما امكن ذلك وممارسة الفرح والمسرات بحيوية.
تبدأ كل الايام المقدسة الزرادشتية بالشعائر الدينية ولكنها تنتهي بالاحتفال والمرح، اما الصيام فغير معروف لديهم لانه ممارسة تضعف البدن، وهو نوع من العقاب الذاتي- فكأنما يمارس الفرد عمل اهريمان نيابة عنه.
ولكن مقابل كل هذه الافراح، والمتعة المسموح بها، فان الزرادشتية دين ملتزم يطالب اتباعه بالالتزام والحذر ليست هناك الكثير من المجالات الحيادية بالنسبة للزرادشتيين حيث ان معظم الافكار، الكلمات والتصريحات يمكن النظر اليها بصورة ايجابية واعتبارها خبرة او النظر اليها بصورة سلبية واعتبارها في خدمة الشر، واعطى زرادشت اتباعه حافزاً قويا لاتباع الخير حيث انه علمهم، بان هناك عقاباً بعد الموت. حسب هذا الاعتقاد فان كل الافكار الطيبة للاموات والكلمات والتصرفات السليمة توضع في كفة ميزان، وتوضع في الكفة الاخرى اعماله السيئة، وحسب ثقل احدى الكفتين تذهب الروح عاليا الى الجنة او اسفلا الى الجحيم حيث يواجه العقاب.
يبدو لحد الآن بان زرادشت كان اول من تكلم عن الجحيم والحياة بعد الموت. لقد علم ايضاً بانه في النهاية ستكون الغلبة لالهة الخير وللرجال العادلين على الشر، وسيأتي اليوم الاخير في اخر الزمان، ان هذا التاريخ سيتحدد عند مجيء المنقذ، الدسوشيانت سيقود جيوش الخير للانتصار العظيم الاخير. وعبر القرون انتظر الزرادشتيون المظلومون قدوم المنقذ بأمل لا ينقطع. وبعد هذه المعركة الاخيرة ستحل القيامة. ستتحد كل الارواح القادمة من الجنة او جهنم مع اجسادهم المبعوثة وسيقدمون مع اولئك الذين مازالوا على قيد الحياة للمحاكمة الاخيرة. تنظم هذه المحاكمة من خلال اختبار النار. ان الاختبار بالنار كان بصورة واضحة اسلوب للمحاكمة معروف لدى الايرانيين القدماء. يتعرض المتهم لاحد انواع الاختبار بالنار لمعرفة فيما اذا كان مذنبا او بريئا، فاذا كان مذنبا فانه سيموت حسب اعتقادهم، اما اذا كان بريئا فستدخل الالهة لانقاذه، كان الاساس نفسه يستخدم هنا في انكلترا في القرن السابع عشر، ولكن الاختبار كان يجرى بالماء حيث يرمى المتهم الى مياه عميقة ليغرق او يطفو.
كانت ارحم الاختبارات الايرانية القديمة تتطلب من المتهم شرب الكبريت بينما هو يحلف بأوثق الايمان على براءته فاذا كان حلفه باطلا، فان الكبريت سيحرق جوفه اجلا او عاجلا ومن هنا جاء التعبير الفارسي المرادف للقسم باليمين (سوكاند خوردان) والذي يعني “شرب الكبريت”. كانت الاختبارات الاخرى اكثر ايذاءاً او خطورة مثل تلك التي تجعل المهتم يعبر من خلال النار. او تصب الحديد المنصهر على جسده. تصور زرادشت بان اختبار اليوم الاخر سيكون من خلال صب الحديد المنصهر والمتدفق مثل الحمم الذي سيكتسح الارض كلها لتنقيتها من اخر اثار الشر، ستعبر البشرية كلها من خلال تلك الحمم الملتهبة. ستبدو تلك الحمم بالنسبة للبريء منهم كالحليب الدافئ، ولكن الشرير منهم سيحترق ويتعذب الى الابد. بعد ذلك سيتم خلق مملكة اومازد على الارض بعد ان اصبحت صالحة كما كانت في البدء وسيعيش اولئك الذين يرضى عنهم في سعادة معه الى الابد. وفي وقت لاحق تم تعديل النص الاصلي القاضي بان الشرير سيتعذب الى الابد عندما اصبح الاعتقاد بان ذلك النهر الملتهب سيطهر الخطاة وسيتم انقاذ حتى غير المؤمنين.
ان تعاليم زرادشت العظيم وفكرة محاكمة الفرد بقيت حية وحاضرة في ذهن زرادشتي ايران المتطرفين. تبدأ محاكمة الفرد في اليوم الثالث بعد الموت. لذلك يقيم افراد الطائفة احتفالا مؤثرا تجتمع فيه العائلة والاصدقاء في الخلاء مولين وجوههم نحو الشرق ويصلون باخلاص للروح الغائبة عندما يقوى الضوء والذي يعتقدون بانه يرتفع الى كرسي الاتهام اما الحكام الثلاثة الذين يصدرون الحكم عليه فيترأسهم (مثرا) او (فهر) في اللغة الحديثة. وقد سمعت بان كلا من البارسيين والايرانيين يحذرون اطفالهم من الكذب وذلك لان عليهم ان يجيبوا في النهاية (مهر) حتى عن اقل الاخطاء التي ارتكبوها على الارض.
ان للدين بالنسبة للزرادشتيين اهمية قصوى وذلك لانهم ضحوا بالكثير من اجله، وكانت نتجة ذلك مستوى عاليا من الالتزام الخلقي فيما بينهم كما ظهر من الامانة الخارقة التي لاحظتها الانسة ايلا سايكس في وصيفتها باجي تدعو الزرادشتية الى الاحسان، يجب على الانسان مساعدة اخيه الانسان في الكفاح المشترك ضد الشر وان القضاء على الفقرو المرض، وتحصيل العلم تعتبر ممارسات ايجابية في هذا الكفاح. ان هذه الممارسات تساعد على انقاذ النفس البشرية للفرد لكل البشرية. ان الفرد والكل متصلان ببعضهما في العقيدة الزرادشتية وهذا يعطي بعدا نبيلا اضافيا للكفاح من اجل الخير.
لقد حدد الفقر في سنين القمع والطغيان من امكانيات زرادشتي ايران، ولكنهم كانوا يساعدون بعظهم البعض كلما استطاعوا الى ذلك سبيلا، وحالما اصبحت الامور افضل بالنسبة لهم في النصف الثاني من القرن الثامن عشر – تغير مفرح ظهر بعد رفع الجزية الكريهة عنهم – بدأوا بالازدهار من خلال العمل المضني والامانة وجمعوا اموالا كثيرة من التبرعات والنذور، خصصت بعضها من اجل كل المجتمع من مسلمين وزرادشتيين على حد سواء لبناء المستشفيات وخزانات المياه العمومية، “الاب عنبر” وخصصت باقي هذه الاموال من اجل العقيدة.
كانت النيران المقدسة خلال سنين القمع محفوظة في بيوت صغيرة من الطين صممت لتظهر من الخارج كبيوت متواضعة خاصة بالزرادشتيين القرويين، وحتى داخل هذه البيوت الواطئة كانت النار تحفظ عادة في غرفة صغيرة ذات باب صغير بحجم باب خزانة وكان الكهنة الذين كانوا عادة طوال القامة، يزحفون على ايديهم وارجلهم لاذكاء النار. بالطبع كانت هذه الاجراءات ضرورية من اجل حماية النار من المسلمين المخيفين. اما الآن ومع حماية الدولة لهم فقد كان باستطاعت الزرادشتيين بناء معابد انيقة مرة اخرى ترتفع قببها وسقوفها بقدسية وزهو فوق سقوف البنايات المحيطة (لقد كانت النار هي الايقونة التي كونها زرادشت لاتباعه ليريهم مسبقاً طريق الحق والعدل، لذلك فان كل الصلوات الزرادشتية تتلى وقوفا في وجود النار، وعيونهم مثبتة عليها، يمكن ان تكون هذه (النار) هي نار الموقد ونار المعبد او النيران الطبيعية للشمس والقمر.
بنى الزرادشتيون قرب المعابد الجديدة بيوتاً للراحة وصالات لاجتماع الطائفة واهم من هذا كله المدارس وبمساعدة البارسيين ومن خلالهم تعرف الزرادشتيون على صيغة التعليم الغربي وبدأوا بانشاء المدارس الابتدائية في كل قرية والمدارس الثانوية في يزد وكرمان، لقد كانوا روادا في مجال تعليم الفتيات، وقد اعطت النسبة العالية من المتعلمين الذي حصلت عليه الطائفة امتياز الريادة في هذا المجال عندما بدأت ايران بتطبيق الطرق الحديثة، لقد ظهر من الجيل الاول من الزرادشتيين الذين تحرروا من الطغيان تجارا وصاحب مصرف فني جدا، وهو الذي اقرض المال للشاه الذي كان يحكم انذاك (كانت سمعة المجموعة بالامانة الخارقة رصيداً عظيماً في مثل هذه الظروف) بعد ذلك ومن خلال مدارسهم استطاع الزرادشتيون في الجيل الذي بعده تأهيل رجال مختصين معلمون، اطباء، محامون، ومهندسون، ذهب بعضهم للعمل في العاصمة طهران التي كانت مازالت بعيدة عنهم، وبقى الاخرون في المجتمعات الزرادشتية القديمة لخدمة ابناء جلدتهم.
كانت هذه السنين الخمسين من الحقب الاخيرة للقرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الثانية، العمر الذهبي للزرادشتية في ايران حيث انتهى الظلم وازدهرت الطائفة، بالاضافة الى ان المسافات البعيدة في ايران ومصاعب التنقل قد منعت العالم الخارجي الحديث من المساس بهم.
لقد قابل السير بيرسي سايكس واخته زرادشتيي كرمان عند بداية صعودهم نحو الازدهار، عندما ذهبت الى تلك المدينة عام 1963 بأمل ان اقابل الزرادشتيين واحصل على بعض المعلومات عن تقاليدهم، مثل الاوربيين الاخرين استقبلت بحفارة بالغة من عمدة الطائفة في كرمان، ارباب جمشيد سورة شيان وهو صاحب املاك غني، لقد كان هناك الكثير لمعرفته تحت سقفة من التقاليد والاساليب، ولكن المجتمع الكرماني لم ينس المذابح الافغانية والماسي الاخرى التي لا قوها بعد ذلك. لقد توقفوا عام 1960 عن الحديث بلهجتهم المميزة، او ارتداء ملابسهم الشعبية ولقلة عددهم تعرضوا لضغوط المسلمين للارتداء عن دينهم من اجل التخلص من هذه الضغوط، انتقلت العديد من العوامل الى طهران للحصول على الحرية والاختباء في مدينة كبيرة حيث لا يشعرهم احد ولم يعد هناك الآن زرادشتي واحد في القرى المحيطة بكرمان حيث سجلت الانسة سايكس بأن “مجموعة كبيرة من النساء البارسيات اجتمعن للسلام عليها وعلى شقيقها”.لقد قابل السير بيرسي سايكس واخته زرادشتيي كرمان عند بداية صعودهم نحو الازدهار، عندما ذهبت الى تلك المدينة عام 1963 بأمل ان اقابل الزرادشتيين واحصل على بعض المعلومات عن تقاليدهم، مثل الاوربيين الاخرين استقبلت بحفارة بالغة من عمدة الطائفة في كرمان، ارباب جمشيد سورة شيان وهو صاحب املاك غني، لقد كان هناك الكثير لمعرفته تحت سقفة من التقاليد والاساليب، ولكن المجتمع الكرماني لم ينس المذابح الافغانية والماسي الاخرى التي لا قوها بعد ذلك. لقد توقفوا عام 1960 عن الحديث بلهجتهم المميزة، او ارتداء ملابسهم الشعبية ولقلة عددهم تعرضوا لضغوط المسلمين للارتداء عن دينهم من اجل التخلص من هذه الضغوط، انتقلت العديد من العوامل الى طهران للحصول على الحرية والاختباء في مدينة كبيرة حيث لا يشعرهم احد ولم يعد هناك الآن زرادشتي واحد في القرى المحيطة بكرمان حيث سجلت الانسة سايكس بأن “مجموعة كبيرة من النساء البارسيات اجتمعن للسلام عليها وعلى شقيقها”.
قال ارباب جمشيد بانه يجب على المرء ان يذهب الى يزد وبصورة خاصة الى شريف اباد، القرى الشمالية من يزد، التي علمت بعد ذلك بانها استلمت النارين العظيمين من الساساني وما زالت تحرسها، قادني الاستجابة للنصيحة لاجد نفسي في احد ايام الخريف الجميلة في باص محلي شمالا على الطريق الخارجي من يزد الى اصفهان، كان يرافقني من شريف اباد رجل قليل الكلام اعطيت اليه الارشادات ليأخذني الى قريته بعد ان سار الباص مسافة 30 ميلا مارا بواحة بعد اخرى، تركناه في بقعة خالية قاحلة يرى فيها جبال بعيدة، وعندما استدرت لاسأل مرافقي عن هذا الفراغ الهائل، وجدته يخلع سرواله.
ان الصدمة التي شعرت بها كانت عابرة بعد ان ادركت بان سرواله كان فقط لباسا مدنيا يضعه فوق بيجاما بيضاء مريحة مصنوعة من القطن، منع المسلمون الزرادتشتيون من ارتداء الملابس الملونة لعدة قرون، وكان يجب عليهم ارتداء الصوف او القطن غير المصبوغ للتعرف عليهم بسهولة، لقد شعر الزرادشتيون بالفخرفي ارتدائهم هذه الملابس الفاتحة الالوان حيث ان اللون الابيض يرمز في عقيدتهم الى النقاء وفي قراهم مازالوا يرتدون هذه الملابس. ولكن عند الذهاب الى مدينة يزد، ومن اجل تجنب لفت الانظار اليهم فانهم يرتدون ملابس خارجية غامقة، ولكنهم لا يرتدون اللون الاسود الخاص بالمسلمين ويخلعون هذه الملابس عند عودتهم. لهذا السبب خلع مرافقي جاكيته ايضا ووضع القطعتين في شوال ابيض قطني كبير، بعد ان انتهى من ذلك مشينا باتجاه الصحراء، لم يكن هناك طريق “انما كانت هناك احجار كبيرة مصفوفة للاشارة الى الطريق، ولم ار انه خضرة حتى وصلنا الى قرية شريف اباد نفسها حيث وجدت البيوت مصطفة داخل دائرة من الحقول التي تروى بعناية، كانت تحد قنوات الري اشجار الزيتون البرى الباسق، لقد امكن للزرادشتية البقاء والاستمرار في مثل هذه الواحات ذات الصيف الحارق والشتاء القارس والعواصف الرملية، وهناك تعمقت التعاليم التي اعطيت للقرويين من قبل اجيال من الكهنة الذين خدموا النار المقدسة، وكانت نوعية الحياة هناك تتميز بالالتزام.
ان الضيافة الايرانية خصلة معروفة، ولكن الضيافة الكريمة والطيبة التي اظهرها “الشريف اباد يون” نحو امرأة اجنبية مثلي كان مثيرا لقد كنت محظوظة جداً لان يستضيفني عمدة القرية اغا رستم بليفاني لمدة تسعة اشهر، لقد كانت لديه عائلة كبيرة وزوجة جميلة وطيبة، وقد شعرت بامتياز كوني امرأة حيث لم يكن لرجل ان يسكن معهم بدون المخاطرة بحدوث فضيحة لقد استطعت ان اصبح جزءا من العائلة، وتدريجيا استطعت فهم بعض المشاعر الخاصة بالزرادشتين.
لقد وصلت الى شريف اباد في الوقت المناسب من ناحية تعلم الاساليب التقليدية القديمة ففي عام 1963 لم تكن المعجزة الاقتصادية الايرانية التي حدثت في الحقبة الاخيرة من حكم الشاه قد وصلت الى اقليم يزد، اذ مازال القرويون يعيشون باقتصاد بسيط وباتصال ضئيل مع العالم الخارجي باستثناء معرفة ما يدور من خلال بعض الاقارب المهاجرين. كانت اجهزة الراديو نادرة الوجود ولم تكن هناك صحف بعد، بالاضافة الى اجهزة الهاتف والتلفزيون ولم تكن افران المطبخ النفطية قد حلت محل المواقد التقليدية، كانت الحياة القروية تعتمد
بصورة اساسية على شيئين: على تقويم المواسم الزراعية وتقويم الطقوس الدينية. لم يحدد الدين الاهداف ويفرض الواجبات اليومية فقط ولكنه وفر ايضا برامج منوعة لاتباعها.
ان السنة الزرادشتية لا تقسم الى اسابيع يتكرر فيها اليوم الديني المقدس، ولكنها مقسمة باحتفالات قد تدوم لمدة خمسة ايام والتي لا يقوم فيها الزرادشتيون سوى بالاعمال الضرورية في المزرعة، لذلك فان الصيغة هي ايام طويلة من العمل المتواصل تأتي بعدها ايام راحة للمتعة والعبادة والراحة، كان ذلك في وجوه عدة رجوعا الى الوراء، الى عالم مشابه للمسيحية في القرون الوسطى، عالم مليء بالخرافات والاعتقادات الغربية، مع احساس حي بحقيقة الجنة والنار وباليوم الاخر وصحبة الاموات، الذين كان يعتقد بان ارواحهم تعلم بما يعمله الاحياء وهناك استعداد دوما لتقديم المساعدة لهم.
كان الاعتقاد الاخير دعما كبيرا للمجموعة، كانت ارواح الاموات تذكر في كل طقوس العبادة، وفي كل الاحتفالات ما عدا واحدة منها. كان هذا الاحتفال خاصا بيوم مقدس في عامهم الديني هو عيد نوروز “اليوم الجديد” الاحتفال البهيج والمحبوب الذي احيا قدوم الاسلام، وما زال يحتفل به من قبل المسلمين الشيعة بشكل عام. يعتبر هذا الاحتفال بالنسبة للزرادشتين احتفالا دينيا مقدسا يشير سنويا الى نهاية الوقت وبداية “يوم جديد” لحياة سعيدة، لهذا يتم الاحتفال بهذا اليوم بمرح وسرور، وفي ذلك اليوم في قرية شريف اباد، لم يصل الكاهن من اجل ارواح الموتى، ولكنه بدلا من ذلك صلى من اجل كل افراد القرية فردا فردا ذاكرا اسمائهم.
لقد مات الكاهن، ولم يكن هناك من يحل محله وذلك لان الطائفة في يزد وقراها قد تأثرت بهجرات افرادها الى طهران والى ما وراء البحار، كما ظهرت هناك تغيرات ملحوظة في اسلوب حياة اولئك الذين بقوا فيها، مهما يكن من امر، فان هناك استمرارية وتكييف. وفي شريف اباد اصبح الرجل العادي الذي تلقى التعليمات من رجال الدين في يزد، يقوم ببعض الواجبات الدينية، وسنويا تأتي حافلة من طهران مليئة بالاطفال لتأدية قسمهم الاول في يزد مستخدمين اللغة والشعائر القديمة. لم يعاد فرض الجزية في الجمهورية الاسلامية، ولكن بدلا من ذلك يجب على الزرادشتين الخدمة في الجيش الوطني.
يعتبر الزرادشتيون جزءاً من المجتمع الايراني اليوم. وفي هذا المجتمع ما زالوا يعتنقون ديانتهم القديمة بهدوء وايمان، بعد 3000 عام من الوقت الذي ظهرت فيه.كتابة- ماري بويس* الهوامش
1. M. Boyce- A Persian Stronphold of Zoroastrianism, Oxford, 1977.
2. البارسي- زرادشتي منحدر من اصلاب الفرس المقيمين في بومباي وغيرها. والبارسية، اللهجة الايرانية الخاصة بالادب البارسي الديني- المترجم.
3. هناك كتاب آخر للسير بيرسي سايكس ضمنَّ فيه باختصار معلومات اخرى غير معروفة عن الزرادشتيين في اقليم يزد، هو – عشرة آلاف ميل في بلاد فارس- لندن، 1902.
Ten Thousand miles in Persia, London, 1902
4. هناك كتب تتحدث عن زرادشتي ايران:
– Napier Malcolm- Five years in a Persian Town, London, 1905
– A.V.W Jarksan – Persia Past and Persenily, New york, 1909
– E. G. Browne – A year amongst the Persians, cambridg, 1926
– M. Boyce- A Persian Stronphold of Zoroastrianism, Oxford, 1977
– Zoro astrians, Their Religions Beliefs and Practices, London, 1979
5. الفيدا- كتب الهندوس الاربعة او واحد منها. المترجم
6. الثنوية- مذهب يقول بأن الكون خاضع لمبدأين متعارضين احدهما خير والآخر شر. المترجم
المصدر
مجلة شؤون الاسيوية ، عدد تشرين اول 1985
*Waleedkaisi @ yahoo.com