مِن أزماتِ التفسيرِ التقليديِّ, أنَّهُ يَرْكَنُ إلى الرواياتِ الإسرائيليةِ كثيراً, ويجعلها حَكَماً على النَصِّ القُرآنيِّ, ويُحَرِّفُ المعنى الذي أَرَادَ القرآنُ الكريمُ إثباتَهُ, وخُصُوصَاً عِصْمَةُ الأنبياءِ, وسنُركِّزُ في هذا المَبْحَثِ على قصةِ النبيِّ داوودَ عليهِ السلام الذي ذَكَرَتهُ التوراةُ بسوءٍ في بعضِ المواضعِ, وجاءت آياتُ القرآنِ الكريمِ لتُبَرِّئَهُ, إلاَّ أنَّ ارتكانَ المفسِّرينَ إلى الرواياتِ الإسرائيلية حَجَبَ ذلك المعنى عن العوامِّ, وظلَّت تلك الصفاتُ المنسوبةُ إليه زوراً وبهتاناً موجودةً في بطونِ كُتبِ التفسيرِ التقليديةِ, ويتداولها الناسُ في أحاديثهم, بل والأدهى أنَّها تدَرَّسُ في المدارسِ والمعاهِدِ والجامعاتِ الإسلاميةِ .
وسنأتي اليوم لنُبَيِّنَ أنَّ القرآن الكريم دافعَ عن هذا النبيِّ العظيمِ, ونفى كل نقيصةٍ عنه في قِصَّتهِ التي رواها في سورة (ص), والتي هي من أعظمِ السورِ في القرآنِ, ودلالةُ عظمتها أنَّها من الآياتِ التي تسَمَّتْ بالحروفِ المُقَطَّعَةِ حالها حالُ أخواتها (ق) و (يس), والتي هي من السُوَرِ التي لابدَّ من إيرادِ الاهتمامِ الكثيرِ بها, والبحث عن أسرارها وعن معانيها المتجددة, المُهِمُّ, وقبل أن نُسهبَ في تَتَبُّعِ تلك القصص في هذه السورةِ, نرى أن القرآنَ الكريمَ يحرص على وصفِ ثلاثةٍ من الأنبياءِ بصفةِ “أوَّاب”, وهؤلاءِ الثلاثةُ أشاعَ اليهودُ ضدهم الشائعاتِ, ونسبوا إليهم الكفرَ والمعصيةَ والركونَ إلى الشيطانِ فعاقبهم الله تعالى إذ قال :
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ }ص17
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }ص30
وَوَصَفَ داوودَ أيضاً بالقولِ: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }ص44,
ولو راجعتَ معاجمَ التفسيرِ لوجدت في بيان معنى كلمةِ “أَوَّاب” أموراً كثيرةً, فمنهم من قال بأنه تائبٌ, ومنهم من قال بأنهُ كثيرُ الرجوعِ إلى الله, ومنهم من قال بأنهُ المُسَبِّحُ, ومنهم من قال بأنه كثيرُ الاستغفارِ والتسبيحِ, حتى أنَّ صاحبَ معجمِ لسانُ العربِ بعدَ أنْ أورد تلك المعاني أورد كلمةً لطيفةً بحقِّ معنى تلكَ الصفةَ فقال: “ويظهر أن هنا نقصاً ولعل الأصل: الذي لا يقوم من مجلسه حتى يُكثِرَ الرجوعَ إِلى اللّهِ بالتوبةِ والاستغفارِ”, وأنا أميل إلى هذا المعنى أكثر من غيرهِ, لأنه لو كانت “أَوَّاب” تعني التائبَ من الذنبِ, لما أتى الله عز وجل بهذه الصفة لهؤلاء الأنبياء, ولم يقل عن داوودَ أنه تائبٌ, وكذلك الأمر مع سليمان وأيوب, ولكن الله عز وجل أصرَّ على إثباتُ هذه الصفةِ لهؤلاءِ الأنبياءِ عليهمُ السلامَ, فــ “أَوَّاب” تختلفُ عن كلمةِ “تائب” ,لأن التائبَ هو الذي يعود إلى الله عز وجل من ذنبٍ اقترفهُ فاستغفر الله وطَلَبَ التَّوبَةَ منه, أَمَّا “الآيبُ” فهو الذي يرجع إلى الله محبةً لا خوفاً, وهو معنىً أشملَ وأكبرَ من صفة “التائب” التي لم يوصف بها الأنبياء رغم أن الله أمرَ الأنبياءَ بالاستغفارِ والتوبةِ, فتوبةُ الأنبياءِ تختلف عن توبتنا لأن الأنبياء معصومون من الزَّلَلِ, وبالتالي نستطيع أن نقول: (إن حسناتِ الصالحينَ سيئاتُ الأبرارِ) فالأنبياء يشعرون بالذنبِ لأنهم لم يشكروا الله, ولم يعبدوه حقَّ عبادتهِ, لأنَّ الله يتجلَّى لهم بعظمتهِ الكبيرةَ بحسب مراتِبِهِمْ, ومن يرى عظمةُ اللهِ يستحقرُ أي عبادةٍ يكونُ قدَّمها لله عز وجل ولله در الشاعر المتنبي رحمهُ اللهُ الذي قال:
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ.
ولعلَّنا لو رجعنا إلى القرآنِ أحدُ مصادرِ اللُّغَةِ العربيةِ, وتلَمَّسنَا معنى “أَوَّاب” لرأينا أنه مختلفٌ عن معنى التائبِ أو المذنبِ الذي أورده بعض النُّحاة, إذ وَرَدَ في القرآنِ الكريمِ: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ }ص19, وكلنا يعلمُ أنَّ حالَ الطيرِ معَ داوودَ لا يتضمنُ الذنبَ أو المعصيةَ, إلَّا أن الطيور كانت دائمةُ الرجوعِ إلى النبيِّ داوود طالبةً منه المأوى والمَطْعَمِ, وحالُ المؤمنُ الحقُّ مع اللهِ هو الرجوع إليه طلباً للرحمةِ والمغفرةِ والاستزادةِ من الفضلِ الدينيِّ والدنيويِّ, وهذه هي أقربُ المعاني لتوصيفِ حالِ الأنبياءِ مع ربهم, فَهُمْ كطيرِ داوودَ الذي يسيحُ في الأرضِ امتثالاً لأوامرهِ وراجعاً إليه في كل حينٍ وفي كلِّ مكانٍ, لأنهم نهضوا بالدعوة إلى الله, واستعانوا بالله, وهم من الله وبالله يدعون.
لذلك, فهذه الصفةُ جاءت لتنفي ما زَعَمَ اليهودُ على هؤلاءِ الأنبياءِ من افتراءٍ وكذبٍ وبهتانٍ عظيمٍ .
فقد جاء في مُحْكَمِ التنزيلِ في سورةِ ص عن قصةِ داوودَ عليه السلام الآتي:
(وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ{21} إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ{22} إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ{23} قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ{24} فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ{25}).
يُورِدُ المُفَسِّرُونَ التقليديون قصةً مشينةً عَن النبيِّ داوودَ عليه السلام, مفادها أنَّ النبي داوودَ عليهِ السلامُ كانت لديه تسعةٌ وتسعونَ زوجةً, وأعجبتهُ إحدى نساءُ قادَتِهِ التي رآها وهي تَسْتَحِمُّ بحسبِ روايةِ الكلبيِّ, فلذلكَ بدأَ داوودُ عليهِ السلامُ يُرسِلُ قائده هذا إلى أَشَدِّ المعاركِ, حتى قُتِلَ في إحدى المعاركِ, فَتَزَوَّجَ النبيُّ داوودَ عليهِ السلامُ من تلكَ المرأةِ, وقد غضب الله من فِعْلَةِ داوودَ فأرسلَ إليهِ مَلَكَيْنِ على هيئةِ رجلينِ يَختصمانِ عندهُ, فقالوا له: إن أحدهما يملكُ تسعةً وتسعينَ نعجةً والآخرُ يملكُ نعجةً واحدةً فقامَ مَنْ يملكُ تسعةً وتسعينَ نعجةً بتعنيف صاحبهِ وضمَّ النعجةَ التي كان يملكها صاحبُهُ إلى نعاجه, فَحَكَمَ داوودُ عليهِ السلامَ بينهما, ولما انْفَضَّ من قضائه قال له أحدُ المَلَكَيْنِ بحسبِ روايةِ الثعلبيِّ: (قال له مَلَك من الملائكة: فهلا قضيت بذلك على نفسكَ يا داوودُ. قال الثعلبي: والأولُ أحسنُ, أَنَّهُما كانا مَلَكين نَبَّهَا داود على ما فَعَلَ( ,هذه القصةُ بمجملها وردتْ في معظمِ كُتُبِ التفسيرِ كتفسيرِ القرطبي, الجلالين (أوردها باختصارٍ) , تفسير القرآن/ الفيروز آبادي , تفسير بحر العلوم/ السمرقندي , وغيرهم وقد أورد بعضهم من أئمةِ التفسيرِ عند السلفية قصةً ثانيةً تبتعدُ عن الإسرائيلياتِ, بأنَّ فتنةَ داوود في هذه القصةِ كَمَنَتْ في أَنَّهُ سمع من أحدهما ولم يسمع من الثاني كما ذكره تفسير تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان/ عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي و أيسر التفاسير/ أبو بكر الجزائري , ولو أَمْعَنَّا النَظَرَ إلى القرآنِ الكريمِ, سنرى أَنَّهُ رَدَّ على هذه التهمةِ قبل أن يوردها المفسرون رحمهم الله تعالى بقوله تعالى قبل ذِكْرِ القصةِ بالقول: {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ } سورة ص20, فكيفَ بمن آتاهُ اللهَ الحكمةَ وفصل الخطابَ؟ يُخْطِئُ ولا يفصلُ بين خِطابِ الرَجُلَيْنِ؟ ولم يقضِ بقضاءِ اللهِ؟ وسمع من رجلٍ واحدٍ دونَ الآخرَ؟ وهوَ يُشَكِّلُ عيباً كبيراً ومُنَاقِضاً لأبجديةٍ كبيرةٍ من أبجدياتِ القضاءِ العادلِ, ولكن قَبْلَ أن ننتقلَ إلى مضمونِ القصةِ في التوراةِ لابُدَّ أن نُنَوِّهَ إلى أن بعضَ أكابرَ أئمةِ التفسيرِ أَوْرَدَ القصةَ التوراتية المشينة في كتبهِ أو أشارَ إليها إشارةً وكَذَّبَها, كالرازي وابن كثيرٍ والزمخشريِّ رحمهم الله تعالى .
إنَّ هذهِ القصةُ المنسوبةُ إلى داوودَ عليهِ السلامُ بخصوصِ تلكَ المرأةِ مأخوذةٌ من سفرِ صَموئيلَ الثاني الإصحاح 11 والإصحاح 12, وهي قصةٌ انتهت إلى أن النبيَّ داوودَ عليهِ السلامُ ماتَ كافراً والعياذُ باللهِ, ولكن من روى هذه القصةَ من الإسرائيلياتِ لم يستطع أن يروي تلكَ القصةَ كاملةً, لأنها تتنافى معَ ما ورد في القرآنِ الكريمِ من مدحٍ لهذا النبي العظيمِ, فاكْتَفَى بتَحويرِ القصةِ ليجعلها أقربُ تصديقاً إلى العقليةِ الإسلاميةِ , ولكن ما هو موقفُ السلفِ من هذه الروايةِ ؟ فعلى ما يبدو أنَّ الرعيلَ الأولِ من المسلمين تأثَّروا بالرواياتِ الإسرائيليةِ, وتداولوها بينهم وهو ما يُفَسِّرُ كيفَ أن تلك الروايةَ الإسرائيليةَ على شناعتها وَجَدَتْ لها أثراً في كُتُبِ المفسرينَ, ولكن هناك نَفَرٌ من أَجِلَّاءِ الصحابة تصدَّى لتلك الروايةَ, وأعلن بطلانها بل وأنذر بعقابِ من يَتَقَوَّلُ بها فقد روى سعيد بن المسيب والحارث الأعور: أنّ علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: من حدثكم بحديث داوود على ما يرويه القصَّاص جلدته مائة وستين وهو حدّ الفِرْيَةِ على الأنبياء. وروى أنه حدث بذلك عمر بن عبد العزيز وعنده رجل من أهل الحق، فكذب المحدث به وقال: إن كانت القصة على ما في كتاب الله فما ينبغي أن يلتمس خلافها، وأعظم بأن يقال غير ذلك وإن كانت على ما ذكرت وكف الله عنها ستراً على نبيه فما ينبغي إظهارها عليه، فقال عمر: لسماعي هذا الكلام أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس.
التفسيرُ المنطقيُّ لهذه القصة:
نلاحظ أن سورة (ص) بدأت قبل أن تسرد قصة داوود عليه السلام, أوردت أمراً للنبي عليه الصلاة والسلام, ألا وهو الصبر على أذى وافتراءاتِ المشركين حيث قال الله تعالى (اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ{17}) هنا وَاسَى اللهُ نبيه الكريم الذي يواجه اتهاماتٍ كبيرةً من مشركي قريش, ومن أعداء الإسلام بأن تم تذكيره بما حصل لداوودَ عليهِ السلامَ, فنحن نعلم كمسلمين بأنَّ التوراةَ وخاصةً الأسفارَ التاريخيةَ منها, قد كتبت بيد أشخاص كانوا يسردون الحوادث التاريخية التي أمامهم على عِلَّاِتهَا, لذلك سَطَّرُوا الإتهامات التي كانت مُشَاعَةً ضدَّ داوودَ عليه السلام, وكأنها حقائق ثابتة, واتهموه بأنه كان يكثر من إرسال أحد قادته وهو أُورِيَّا الْحِثِّيِّ كي يموت في تلك الحروب ليتزوج زوجته التي رآها تَسْتَحِمُّ, وهو كان واقفاً فوق سطح بيته فأعجب بها وزنى بها, وقد أصبحت حبلى من ذلك الحمل فأراد النبي داوودَ عليه السلام التَخَلُّصَ من زوجها فلذلك أرسله إلى ساحات القتال مُتَقَدِّماً الجيش الإسرائيلي كي يُقْتَلَ طبعاً, هذا الأمر يخالف عِصْمَةَ الأنبياء وقداستهم, والحقيقة أَنَّ داوود عليه السلام كان له قائدٌ كبيرٌ ومحاربٌ صنديدٌ اسمه أوريا, أفنى نفسه في خدمةِ ملكهِ والذبِّ عن دين الله, فلما استشهدَ هذا القائد في إحدى المعاركِ أراد النبي داوودَ عليهِ السلامُ أن يحفظ أهل بيت قائده ويَحُفُّهُم برعايته فَقَرَّرَ التزوج من أرملةِ أوريا تماماً مثلما كان يفعل النبي عندما تزوج نساءٌ كانت زوجاتٍ لصحابةٍ استشهدوا في ساحاتِ الوغى, دفاعاً عن الإسلام لذلك تماثل النَبِيَّيْنِ في الاتهامات الموجهةِ إليهما فقد اتهم النبيَّ وكما تعلمونَ من أعداءِ الإسلامِ بأنه مِزْوَاجٌ, ويحب النساء على خلافِ الحقيقة التي تثبت أن النبي لو كان يحمل هذا الوصف ما تزوج تلك النساءُ الثيباتُ, واللاتي كُنَّ كبيراتٍ في السِنِّ, بل ولربما بعضهن لا تملك أَيَّةُ مسحةٍ للجمالِ, غير أن النبي أراد أن يواسيهنَّ بفقدانِ أزواجهنَّ خصوصاً, وأن معظم تلك الزوجات قد غادرنَ أهلهن تبعاً لأزواجهم من الصحابةِ, وعندما فقدن أزواجهن كان لابد للنبيِّ أن يحفهنَّ برعايتهِ الكريمةِ, ويكافئهن بجعلهن أمهاتٍ للمؤمنينَ, وقد ذكر الإمام الرازي في تفسيره الكبير قريباً من هذا المعنى فقال: (فهي أنه تعالى أمر محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يقتدي بداوود في المصابرة مع المكابدة، ولو قلنا إن داوود لم يصبر على مخالفة النفس, بل سعى إلى إراقة دمِ امرؤٍ مسلمٍ لغرضِ شهوتهِ فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل بأن يقتدي بداوود في الصبر على طاعة الله.)
إن الرد على تلك الاتهامات بسيطٌ جداً من خلال تَدَبِّرِ آياتِ الله, فنرى أن قصةَ داوود سُبِقَتْ ولَحِقَتْ بآياتٍ مَدَحَت فيها النبي داوود عليه السلام فقد وصفه الله تعالى ب(عبدنا), وكلمة العبد في القرآن الكريم إذا ما اقترنت بالأنبياء فإنها تدلُّ على العظمةِ والرفعةِ التي نالها هذا النبي, فقد قال الله تعالى مادحاً نبيه الكريم: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الإسراء1 , وقال أيضاً في موضعٍ آخرَ: {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً }الكهف65, ولم يكتفي الله تعالى بذكر صفة العبد لـ (داوود), إذْ رُبَّ قائلٍ يقولُ: إن صفةَ العبدِ لا تعني الصلاحَ أبداً في القرآنِ, لأنَّ الله تعالى يقول: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ }فاطر32, ولكننا نقول إن لفظةَ العبدِ المفردةِ في القرآن الكريم اتصلت بإثبات صلاحِ الأنبياءِ, تعالوا ننظر كم مرةً وردت كلمةُ (عَبْدٍ) في القرآن مُفرَدَةً؟ لقد وردت اثنتين وعشرين مرةً, عشرون منها قد اتصلت بالأنبياء, وأثبتت لهم فضلهم وعصمتهم, والاثنتين الباقيتين منها دَلَّتْ على خضوع كلِّ ما في الكون له بصفتهم (عبد), لقوله تعالى {إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً }مريم93, أو ارتبطت بصلاح الإنسان بقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ }سبأ9 , أما الآيات التي وردت فيها كلمةُ (عبد) كصفةٍ للأنبياء نسردها كالآتي :
1- {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ }البقرة23
2- {لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً }النساء172
3- {وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }الأنفال41
4- {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ }الإسراء1
5- {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً }الإسراء3
6- {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا }الكهف1
7- {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً }الكهف65
8- {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا }مريم2
9- {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً }مريم30
10- {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً }الفرقان1
11- {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ }ص17
12- {وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }ص30
13- {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ }ص41
14- {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ }ص44
15- {إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ }الزخرف59
16- {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى }النجم10
17- {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ }القمر9
18- {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ }الحديد9
19- {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً }الجن19
20- {عَبْداً إِذَا صَلَّى }العلق10
والآن بعد أن أثبت الله تعالى صفةُ الصَلاحِ لعبده داوودَ عليه السلام, اسْتَمَرَّ في مدحهِ وقال: (ذَا الْأَيْدِ), ولا أريد أن أزيد على ما قاله فخر المفسرين الإمام الرازي في تفسيره مفاتيح الغيب, إذ قال : (قوله: { ذَا ٱلأَيْدِ } أي ذا القوة على أداء الطاعة والاحتراز عن المعاصي، وذلك لأنه تعالى لَمَّا مدحه بالقوة وجب أن تكون تلك القوة موجبةً للمدح، والقوة التي توجب المدح العظيم ليست إلا القوة على فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه, { والأيد } المذكورةُ هنا كالقوة المذكورة في قوله: { يٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَـٰبَ بِقُوَّةٍ }[مريم: 12] وقوله تعالى:{ وَكَتَبْنَا لَهُ فِى ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلّ شَىْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَىْء فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } [الأعراف: 145] أي باجتهاد في أداءِ الأمانةِ, وتَشَدُّدٍ في القيام بالدعوةِ, وترك إظهارُ الوهنِ والضَّعْفِ, والأيدِ والقوةُ سواءٌ ومنه قوله تعالى:{ هُوَ ٱلَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ } [الأنفال: 62], وقوله تعالى:{ وَأَيَّدْنَـٰهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ }[البقرة: 87], وقال:{ وَٱلسَّمَاء بَنَيْنَـٰهَا بأييد }). فليس هناك أيُّ قولٍ بعد هذا الاستدلال الرائع في تفسير صفة (ذا الأيد), وبعد أن ينتهي من صفةِ (ذا الايد) ينتقلُ إلى صفةِ (أوَّاب) التي تقدم القول عنها, والتي هي تَدُلُّ على كثرةِ رجوعِ داوودَ عليه السلام إلى الهف تعالى, فكيف بمن وصفه الله تعالى وأثبت له الفضل في كثرةِ الرجوعِ إليه تُنْسَبُ إليه مثل تلك الصفاتِ والأفعالِ الدنيئةِ ؟! حاشا لله, وحاشا لأنبيائه أفضل الخلق, وتعالى الله عما يقول هؤلاءُ اليهودُ وأشياعهم علواً كبيراً, وبعد أن يَذْكُرَ تلك القصة يعود الله تعالى إلى مدحِ داوود وترقيتهِ بأن قال: ( وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ{24} فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ{25} يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ{26} , أمَّا القول بأن داوود عليه السلام استغفر ربه من ذنبٍ ارتكبه فهو لا يَصِحُّ البَتَّةَ, لأن الأنبياء وأولهم المصطفى عليه الصلاة والسلام كانوا كثيري الإستغفار لربهم ولعل الأمر بالاستغفارِ هنا لا يعود إلى شخصهِ, إنما لهؤلاء الخصم الذين تَسَوَّرُوا عليه المحراب كما سنوضحه في القادمِ من هذا المقالِ, ولا ننسى أن الله تعالى أَمَرَ نبيَّهُ بالاستغفارِ له ولقومه, فقال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }محمد19, وبعد ذلك يُصِرُّ الله تعالى على مدحِ داوودَ فيقول {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ }ص25, بل يأتي الأمرُ بتكريمه وجعله خليفةً في الأرضِ, وينزل الله عليه وصيتهُ وأوامره بالأمر بالحق وعدمُ اتباعُ الهوى , ونحن نعرف أنَّ هده الوصية ليست متعلقةٌ بداوودَ عليه السلام, إنَّما هو خطابٌ لأمتهِ, فكما هو معلوم أنَّ الله تعالى يوصي أمةَ النبيِّ من خلالِ الخطابِ للنبيِّ, لأن الأنبياء هم صنائعُ الله المعصومةَ التي لا تَشْتَطُّ ولا تَرْكُنَ إلى الهوى, بدليلِ أن الأَمرَ باتباع الحق والنهي عن اتباع الهوى قُرِنَ بالعذابِ في الآخرة بهذهِ الآيةَ, ونحن نعلمُ كمسلمين أن الأنبياءَ هم أفضل خلق الله وهم المبشرون بالجنة, وبالتالي فإنه من العبثُ أن نقول إن هذه القصة في تسور الخصمِ للمحرابِ, واعتبار ذلك تَأنيباً لداوودَ عليه السلام بعد المدحِ الكبيرِ الذي أُحِيَطَتْ به هذه القصة في موقع ذكرها في القرآنِ الحكيمِ, ولنرجع إلى الإمامِ الرازيِّ الذي فَنَّدَ كلَّ تُرَّهَاتِ اليَهودِ ومن أشياعهم من هذه الأمةِ الذين نسبوا لداوودَ عليه السلام ما نسبوا, ويُرَجِّحُ فرضيةَ أنَّ من تَسَوَّرَ عليه المحراب هم أُنَاسٌ مُكَلَّفُون باغتيالهِ وقتلهِ, فلما كَشَفَ أَمرَهُم عاتبوه بطريقةِ لَمْزِ اليَهودِ وهَمْزِهِمْ, بأن ذكروا قِصَّةَ النعاجِ ولكن أنا أستغرب من هؤلاء المفسرينَ الذين آمنوا بتلك القصةِ, لم ينتبهوا إلى دفاعِ داوود عن نفسهِ بالقولِ: (وَإِنَّ كَثِيراً مِّنْ الْخُلَطَاء لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ), فهل لم يكن داوودُ من ضمنِ الذين آمنوا من القِلَّةِ المُنْتَخَبَةِ؟ وبعد كل هذا المدحِ القرآنيِّ له نستثني داوود عليه السلام من القلةِ المؤمنةِ ؟؟!! أم أنَّ داوود عليه السلام كان غيرُ محقٍ في فصلهِ ومقولتهِ التي أيدها الله بأن سَطَّرَها في كتابهِ العزيزِ .
إنَّ فخرَ المفسِّرينَ الإمامُ الرازي يضعُ في تفسيرهِ ثلاثةَ احتمالاتٍ للقصةِ لا رابعَ لها, أوَّلها ارتكابُ داوودَ عليه السلامُ لكبيرةِ تدبيرِ مَقْتَلِ قائدِهِ أوريا الحَثِّيِّ, وهذهِ باطلةٌ بإجماعِ الصحابةِ, ونهي الإمام عليٌ رضي الله عنه وغيره من الصحابةِ من تداول هذه القصة المشينة ,بل وصلَ الأمرُ ببعضهم إلى التحديدِ بإقامةِ الحدِّ على من قال بهذه المقولَةِ , والاحتمالُ الثاني هو ارتكابهُ لصغيرةٍ, وهي عدمُ سماعِهِ لدفاعِ الخصمِ الآخرَ, وقد بينَّا ضعف ذلك التحليلِ , ويبقى الاحتمالُ الأخيرُ ألا وهو قضيةُ محاولةُ اغتيالِهِ التي دبَّرها اليهودُ, وطبعاً هذا الاحتمالُ هو أقربُ إلى التصديقِ, لأـنَّ إيحاءاتِ القصَّة تدلُّ على أن رَجُلَيْنِ تَسَوَّرا المِحْرَابَ عليهِ فَفَزِعَ منهم, والفَزَعُ لا يكون إلا من غَرَابَةُ دخولهما عليهِ, وهو بالطبع قد عَمِلَ تحصيناتٍ كَمَلِكٍ, وحَصَّنَ نفسه من أجل ألا يغتالوه ولكن هؤلاء الرجلين تَمَكَّنَا من اختراق تلك التحصينات, ووصلا إلى مِحْرَابِهِ مما أصابه بالفزعِ, وبعد أن تمكن منهم اخترعوا له هذه القصةَ, أو صَرَّحُوا له بما يُشَاعُ عنه في الشارعِ اليَهوديِّ بأنه دَبَّرَ قَتْلَ أوريا الحَثِّيِّ من أجل أن يتزوج زوجته, فدافع عن نفسه ذلك الدفاعَ المُفْحِمَ , فهل كانت هناكَ شواهدُ قرآنيةُ تدعمُ هذا الاحتمال؟ يقول الله تعالى في كتابه الكريم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }المائدة78, هنا نلاحظ أن اليهودَ لُعِنُوا على لسانِ هَذينِ النَبِيَّيْنِ (داوود وعيسى ), فَلِماذَا ؟
إنَّ اللَّعنَ هذا جاء بصيغةِ العِقابِ الإلهيِّ, وتحطيمِ ملكهم وكسر شوكتهم كما ذكرته سورة الإسراء: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً }الإسراء4, إن كان نبي الله عيسى لعنهم لكفرهم به ومحاولة قتلهم فَلِمَ لعنهم داوود عليه السلام؟ وهو كان مَلِكُهُمْ و هُمْ جُنْدُهُ, و هُمْ أُمَّتُه, ألم يكن هناك سببٌ مماثلٌ لما تعرض له عيسى عليه السلام من أذى اليهودِ؟ وأكبر أذى لاقاه منهم هو محاولةُ قتلهِ على الصليب الذي أنجاه الله منها, وبعدها صَبَّ عليهم الله تعالى اللعنةَ بأن سَلَّطَ عليهم الرومان ليقتلوهم ويذبحوهم ويحرقوا معابدهم , فلذلك لابد أنَّ اليهود دَبَّرُوا نفس الأمر مع نبي الله داوود عليه السلام, ولو طالعتَ الإنجيلَ, لرأيتَ أن الإنجيلَ ينادي عيسى ابن مريم يا ابن داوود لتماثل سيرةِ هذين الرجلين مع بني اسرائيل فلو راجعت سورة
(ص) بعد معرفةِ هذه الحقائقَ لاكتشفتَ أن هناك محاولةٌ لاقتحامِ محرابِ داوودَ من قبلِ رجلين, وهي عكس القصة التوراتية , فالقصة التوراتية تقول أن ناثان وهو أحدُ مساعدي داوود دَخَلَ إلى داوودَ عليهِ السلام, وقص له قصةَ الرجلينِ, ولكن هذا الأمر لا يمكن تصديقه بالمرة لأن القصةَ تبدأُ بالقولِ: (وأرسل الرب ناثان إلى داوود) ولماذا يرسل له رسولاً ؟ ألم يكن داوود عليه السلام رسولاً ؟ وبالتالي فإنَّ القصةَ القرآنيةَ هي الفيصلُ الحقيقيُّ فيما جرى لداوودَ عليه السلام, ومقتضى القِصَّةُ يقولُ بأن هناك رَجُلَينِ تَسَوَّرَا المحرابَ على داوودَ عليهِ السلام, وهما طبعاً ليس بالملكينِ, لأن التَسَوُّرَ هو التَسَلُّقَ, ونحن نعرف أنَّ الملائكةَ لا تعيقها أبوابٌ مسدودةٌ ولا حيطانٌ مُدَرَّعَةٌ من دخول أيِّ مكانٍ , فلِماذَا هذا التَسَوُّرُ؟ إذاً هما رَجُلَيْن, وبالتالي سقطت فرضيةُ أنَّ هؤلاء الاثنينِ مبعوثين من الله لكشفِ أخطاءِ داوودُ عليه السلامُ , ولكن ما بالُ رجلين يقتحمانِ سورَ ملكهم ويدخلون عليه المحرابَ حتى أصابهُ الفزعُ منهم, هل ليُبَلِّغُوه بقضيتهم؟ وهل قضيتهم تِلكَ مِنَ الأهميةِ بحيث يحتاج الرجل أن يخاطر بحياته من أجل أن يعرضها على الملكِ دون أن ينتظر جلوسَ الملك في مجلس القضاءِ , طَيِّبْ, وإن كان أحد الرجلين مظلوماً ودفعهُ الظلم الواقعُ عليه على المخاطرةِ بحياتهِ من أجلِ إيصالِ صوتهِ إلى المَلِكِ, فما بالُ الظالمِ؟ لم تحملَ عناءَ هذهِ المخاطرةِ الكبيرةِ .
إنَّ ما يُفْهَمُ من السِياقِ القرآنيِّ هو وجودُ مؤامرةٌ من اليهودِ لقتلِ النبيِّ داوودَ عليه السلام, ولكن بعد أن كَشَفَ أمرهم اخترعوا له تلكَ القصةَ ليلمزوه ُبها في زواجهِ من زوجةِ قائدهِ أوريا الحَثِّيِّ, فَدَافَعَ عَن نَفسِهِ وقالَ: (….إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ }ص24, وبعد أن رأى داوودُ عليه السلام إن استحكاماتِهِ الفاعلةُ لم تكفل له الحماية من شرِّ اليهودِ خرَّ إلى الله راكعاً تائباً يطلبُ حمى الله, أو قد يكون قد خَرَّ إلى الله راكعا ليطلب المغفرةَ لمَنْ أرادوا قتله, فإنَّ الأنبياء مأمورون بأن يستغفروا لذنوبِ أمتهم, فقد قال الله تعالى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ }محمد19, وقد كانت محاولةُ اغتيالُ داوودَ عليهِ السلامُ مؤامرةٌ يهوديةٌ استحقُّوا عليها اللعنةَ, وباءوا بغضبٍ منَ اللهِ, إلا أنَّ استغفارَ داوودُ عليه السلام أَجَّلَ نزولُ غضبُ اللهِ عليهم, ومنحهم الله فرصة أخرى ففعلوا نفسَ الأمرِ مع ابنه سليمانَ عليه السلام, فمحى الله أثرهم من فلسطينَ وشَتَّتَهُم فذاقوا وَبَالَ أَمْرِهِم, وطَهَّرَ الله تعالى أنبيائِهِ وسيرتهم من إِشاعاتِ اليهودِ وأشياعِهِم في جميعِ الأممِ, من الذين يتسَرَعُونَ في نَسبِ المعايب إلى رسلهِ الكرامَ .