1- في حدود عام 1935 كانت مجموعة من تلامذة المعهد الكهنوتي البطريركي في الموصل ( السيمنير) تتمشى من مدرستهم الى كنيسة مسكنتا كل اثنين في صف على شكل رتل وبجانبه احد الرهبان، كان التلامذة يسيرون صامتين مطأطأي الرؤوس، على الاغلب كانوا يتعرضون الى بعض اولاد المسلمين هناك فيسمعونهم كلمات بذيئة او يلقون عليهم البصل والبيض الفاسد، لكن التلامذة كانوا يواصلون مسيرتهم متوكلين على الرب. في احد الايام كان يسير معهم مدير المعهد القس ( البطريرك فيما بعد ) بولص شيخو في منطقة اسمها باب البيض، وكالعادة بدأ التحرش والتعرض من مجموعة الصبية، ولكنه تصاعد الى رمي الاحجار، اصاب احدها المدير فجرح رأسه وصار الدم يسيل منه، احد التلامذة واسمه موسيس (1) لم يتحمل الموقف فجرى بكل ما اوتي من قوة خلف الصبية الذين لاذوا بالفرار فلحق بهم واشبعهم ضرباً، وعاد الى الرتل وواصلوا طريقهم. عند المساء ومع حضور سفرة الطعام إلتم الشمل كلٌ في مقعده بإنتظار إيعاز القس بولص شيخو بالشروع بالأكل، هنا طلب القس من التلميذ موسيس ان ينهض من مكانه ويركع على الارض نادما، ونام تلك الليلة بدون عشاء .
2- في الخمسينات وفي منطقة ( عقد النصارى ) المطلة على شارع الرشيد ببغداد، اوقف القس موسيس عربة نقل تجرها الخيول، فاتفق مع السائس لايصاله الى الكرادة بمبلغ 250 فلسا ً، عند الكرادة نزل القس من العربة الى الارض فنقد السائس المبلغ، هنا رمى ذلك الانسان المبلغ في وجه القس مدعياً انه قليل، وبعد نقاش غير مجدي تفوه السائس بكلمات غير لائقة بحق الكاهن، فما كان منه الا ورفع السائس من مقعده في العربة وانزله ارضاً ثم انهال عليه ضرباً وركلاً، تجمهر الناس حولهم ونطقوا قائلين ” يا ابونا كاد المسلم يموت بين يديك ” والسائس يقول: انظروا يا امة الاسلام، فاثارهم ولكنهم تمالكوا انفسهم ليسمعوا حجة القس، وعند سماعهم القصة انقلب الموقف، وقالوا يا ابونا حسنا فعلت ولم تقصر معه. (2)
3- كان خالي الراحل يونس اودو طالباً في مدرسة السيمنير في الخمسينات من القرن الماضي، في احدى اجازاته الى بغداد اصطحبه عمي كامل الى محطة قطار الموصل مشياً على الاقدام من منطقة كنيسة مسكنته، في الطريق وقبل الوصول الى محطة القطار هجمت عليهم مجموعة من اولاد المسلمين فخطفوا قلنسوة طالب المدرسة الدينية وعند محاولته ارجاعها صار الواحد يناولها للثاني، فكلما اقترب يونس من الذي بيده الطاقية رماها بدقة الى اصحابه، وهكذا بعد ان عجز التلميذ والذي معه قررا المضي الى المحطة بدونها، هنا شرعت المجموعة تهزج هذه الكلمات المسيئة ( هذا القَسْ ما ينمَسْ، يَزرَع فجِلْ يطلَع خَسْ ). (3)
4- زار يوماً القس بولس بيدارو القوش وهو معروف ومشهودٌ له بتمكنه من اللغة والشعر السرياني، تجمع الاهالي لسماع قصيدته، فكانت متقنة تحدث فيها عن الادباء واللغويين السريان وعند انتهائه طلب من الحاضرين إبداء ملاحظاتهم فلم يجب احداً. كان القس يوسف عبيا جالساً يستمع هو الاخر، فالتفت اليه بيدارو قائلاً: ها رابي عبيا ما رأيك؟ فقال له قصيدة جيدة ولكن ناقصة، فقال بيدارو وقد صعق: وما النقص الذي فيها، فقال: انك لم تتطرق الى ادباء ولغويين من هذه البلدة، فقال بيدارو: انت على صواب، وانا اعتذر، ولكن انت اكمل ما تراه مناسباً ، فهم الجميع ان بيدارو القى الكرة في مرمى عبيا حتى يحرجه، لكن عبيا فهم اللعبة وتعهد بان يكمل القصيدة في نفس الوقت من اليوم التالي. رجع عبيا وانكب على القرطاس رابطا الليل بالنهار ليجاري قصيدة بيدارو في رونقها ووزنها المتميز وهكذا اضاف ابياتا تذكر وتمجد خطاطين ومؤلفين وشعراء من البلدة القوش، وفي الموعد المحدد حيث إلتم الجمع، صعد عبيا المنبر والقى ابياته بصوته الجهوري وحركات يديه المعتادة فكانت بحق جزءً مكملاً لقصيدة بيدارو في قوتها وبالغ تاثيرها فاعجب الجميع بما يسمعه فيما بيدارو يصفق بشدة وهو يردد ان احسنت يا عبيا، تكاد لا تتميز ابياتي عن ابياتك فتكاملت وتناغمت القصيدة، ثم طالب الحاضرين بان يهتموا بالقس عبيا فهو موهوب ونادر من يضاهيه في التمكن من لغة ابائه واجداده السريانية المتجذرة في اعماق التاريخ.(4)
5- عندما كان القس يوسف ( ايسف ) عبيا قسيسا في قرية تلّا يخدم الجماعة للفترة من 1920- 1923 توطدت علاقته بالجميع من مسيحيين ومسلمين لمواهبه وقابلياته وثقافته الواسعة، في احد الايام اشتكى حسين أغا المنطقة من احد الملالي الذ لا يفقه من الدين شيئا سوى امور ساذجة تثير الشكوك، الاغا يسكن قرية بلا القريبة جدا من تلا ولذلك تطلق تسمية القريتين معا ( تلّا و بلّا ) على غرار ( حرير وبيطاس، بعشيقة وبحزاني وهكذا ) فدعا حسين أغا يوماً عبيا الى وليمة، وفي موعدها المحدد حضر اعوان المنطقة هنا طلب عبيا من الأغا ان يعطيه الضمان والامان في ما يراه مناسباً، هكذا تحرك عبيا بذلك الاتجاه وفيما التحضيرات جارية على قدم وساق، انسل عبيا الى مطبخ الأغا، واوصى ان يضعوا لحم فوق الرز في صحن كل من في الديوان بمن فيهم القس نفسه، اما صحن الملا فاوصى ان يضعوا قطعة لحم تحت الرز، اعتاد الملا كلما يدخل الديوان ان يصيح بالجميع: انهضوا لقد نهض الله فينهض الجميع، ثم يقول: اجلسو لقد جلس الله، فيجلس الجميع، من هنا بدا تذمر الاغا وساورته الشكوك، والان وبحضور القس عبيا اختلف الموقف فعندما دخل الملا الديوان صاح بالجمع ان ينهضوا فقد قام الرب، اوقفهم عبيا بصوته الخارق ان يبقوا جالسين في محلهم، لم يقل الاغا شيئا فيما تصاعد غضب الملا تجاه القس، حان موعد تقديم الطعام في صحون وكل صحن فوقه قطعة لحم ما عدا صحن الملا ، شرع الجميع بالاكل والملا ساكت لا يتكلم ولا ياكل، فقال الاغا: تَفضّل ملا شاركنا بالاكل، انفجر غضب الملا وهو يقول: اهذا هو احترامك لي يا أغا تُفضّل عليّ القس النصراني وتضع امامه اللحم وامامي لا شيء، هنا تحرك عبيا نحو صحن الملا، فحرك الرز قليلا فاذا قطعة كبيرة من اللحم في صحنه، سكت الملا على مضض، هنا قال عبيا: كيف يا ملا لم تر قطعة اللحم المخفية بين الرز فيما ترى الله عندما يقوم وعندما يجلس، اصفر وجه الملا واصبح مسخرة امام الجميع، فطرده الاغا حسين شر طردة، وقال له لقد انكشفت ألاعيبك.(5)
(1) المطران قرياقوس موسيس: ولد في الموصل سنة 1921. توفيت والدته وهو صغير فاقترن والده بفتاة من تلكيف وسكنوا هناك حيث عمل والده صائغا فيها، دخل المعهد الكهنوتي البطريركي بالموصل سنة 1933. رسم كاهناً سنة 1943 بالموصل ( اطلق عليه لقب قس عنتر لشجاعته ) أرسل إلى روما سنة 1946، عاد الى بغداد عام 1950 وخدم في كنيسة أم الأحزان، رسم مطراناً على أبرشية العمادية سنة 1968، توفي سنة 1973.
(2) سمعت هذه القصة وسابقتها من القس المرحوم عبد الاحد النجار (1922- 2002) .
(3) سمعت القصة من الاستاذ كامل ياقو دمان ( 1939 ) .
(4) من اوراق الاديب الراحل نوئيل قيا بلو ( 1934- 2012 ) .
(5) يتداول الكثيرون من اهالي القوش هذه القصة ويتناقلونها من جيل لجيل .
[email protected]