ونَحنُ نستذكرُ مناسبةَ مولد الإمام الحسيّن(ع)، أَجِدُ مِنَ المُناسِبِ أنْ نَدْرُسَ هذه الشَخصيّة الفَذّة، على ضَوءِ قوانينِ عِلْمِ النَفسْ. هذا العِلْمُ الحديث، الّذي اهتَمَّ بالجانب الخَفِيّ مِن شخصيّةِ وسلوكِ وتصرّفاتِ الإنسانِ؛ فأقول: لكي تَنهض الشخصيّات الرساليّة بمهامها التّاريخيّة، لا بُدَّ لها مِنْ أنْ تمرَّ بدوّرة خاصّة، مِن الإعداد والتهيئة والتّرويض. وكان ذاك مع الإمام الحسيّن(ع)، (هذا إذا نظرنا إلى الموضوع بعيداً عن مفهوم العصمة).
فمعلّمُهُ الأوّل رسول الله (ص)، الّذي كان يضمّه إلى صدره، ويشمّه ويشبعه تقبيلاً ويملأ وجود الحسيّن(ع) حناناً. ومعلّمُهُ الثّاني والده الإمام علي(ع)، تلميذ الرسول. ومعلّمتُه الزهراء البتول (ع)، التي كانت تعطيه، كلّ حنانِ وعاطِفَةِ الأمومة. كما أنّ الإمام الحسيّن(ع) نَهَلَ مِن مدرسة الوحي، كلّ العلوم، ليصبح في قابل الأيام مؤهلاً، لممارسة دوره الرّساليّ في قيادة الأُمّة. (عندما كان الإمامُ الحسيّن (ع) ذاهباً إلى كربلاء، التقى برجل من أهل الكوفة، فقال له: (أمَا والله يا أخا أهل الكوفة، لو لقيتك بالمدينة لأريتك أثر جبرئيل من دارنا، ونزوله بالوحي على جدي)).
ولو نظرنا إلى شخصيّة الإمام الحسيّن(ع)، من الجانبين التربوي والنفسي، نجدها شخصيّة متكاملة مستقرّة، تحمل في ثناياها صفات التوافق والانسجام، مع ما يحمل من عقيدة. ويعيش مع الواقع كعنصر مؤثر فيه، و متأثر بايجابياته دون سلبياته. إضافة إلى تفاعله مع المجتمع، وتفهمة بعمق ووعي لكلّ مشاكل بيئته الإجتماعيّة. يَذهب علماء النّفس العاكفين على دراسة شخصيّة الإنسان، بأنّ كلَّ فرد يمرّ في حياته، بثلاث مراحل هي:
• المرحلة الأولى مرحلة الأَنا. وهي مرحلة الطفولة المُبَكّرة، التي لا يعرف فيها الإنسان غيّر احتياجاته الجسمانية.
• المرحلة الثانية، هي مرحلة الأَنا الوسطى. وهي المرحلة التي يُدرك فيها الإنسان وجوده، ضمن ما يُصطلح عليه (بيئة التّنشئة)؛ وهي الأسرة التي تعتبر الحلقة الأقرب إليّه، ثمّ المدرسة والمجتمع والاتّصال بالآخرين، وهي الحلقات الأكثر بعداً من الأولى، والأوسع تنوعاً، بما فيها من مؤثرات ايجابيّة وسلبيّة، وفي هذه المرحلة تبدأ شخصيّة الإنسان بالتبلّور والتكوّن.
• والمرحلة الثالثة التي يمرّ بها الإنسان. هي مرحلة الأَنا العُليا؛ وفي هذه المرحلة، يتطوّر الإنسان نفسياً وفكرياً، وتصبح له ذاتاً مستقلة. حيث ينتهي دور الفردية لحدٍّ مّا، ويُطلق عليه بـ(الشخصيّة)، لأنّه أصبح عضواً يشترك مع الآخرين. وفي هذه المرحلة يعي الإنسان أهميّة أنْ يكون له مَثَلٌ أعلى، أو قدوةٌ يقتدي بها، فيبدأ تأثره بالأشخاص الذين يحبّهم.
وعندما نحلّل شخصيّة الإمام الحسيّن(ع)، على ضوء هذه المراحل الثلاث، الرئيسية التي يمرّ بها الإنسان نجد ما يلي:
1. أنّ الإمام الحسيّن(ع) عاش في احضان والدته فاطمة الزهراء(ع)، التي قال فيها رسول الله(ص) من جملة ما قال: (فاطمة بضعة مني)، زهاء السبع سنوات.
2. عاش(ع) مع جدّه رسول الله، سيّد الأولين والآخرين(ص)، قريباً من تلك الفترة التي عاشها مع والدته(ع).
3. عاش مع أبيه الإمام علي(ع) ستة وثلاثين سنة.
4. عاش مع أخيه الإمام الحسن(ع) ستة وأربعين سنة.
وحسب نظريّات علم النّفس الاجتماعي، فإنّ طفولة الإمام الحسيّن(ع)، عاشت حالةً من التّوازن والسّموّ، فريدة من نّوعها. فتشكّلت شخصيّته في مراحلها الثلاث، آنفة الذّكر في أحضان العفّة والطُهر، ونسائم الوحي وفيوضات العصمة. (التنشئة الاجتماعيّة هي تفاعل اجتماعي، في شكل قواعد للتربية والتعليم، يتلقاها الفرد في مراحل عمره المختلفة، من خلال علاقاته بالجماعات الأوليّة (الأسرة – المدرسة – الجيرة – الزملاء … الخ)، وتعاونه مع تلك القواعد والخبرات اليوميّة، التي يتلقاها على تحقيق التوافق الاجتماعي، مع البناء الثقافي المحيط، من خلال اكتساب المعايير.)(علم النفس الاجتماعي/ د. محمد عبد الهادي/ص108).
هذا إذا ما ناقشنا موضوع شخصيّة الإمام الحسيّن(ع)، من حيث التحليل النّفسي العلمي، وهي تتشكل من طفولته إلى صباه. بيّد أنّ هناك عوامل أُخرى موضوعيّة، اسهمت بشكل مباشر في بلّورة شخصيّة الإمام(ع)، وإنْ كانت هذه العوامل لا ينكرها علم النّفس، لا بل يؤكّدها. فهناك عدد من النظريات المُفَسّرَةِ لعمليّة التّنشئة الاجتماعيّة منها: (نظرية التعلّم لـ(ميللر) – النظرية المعرفيّة الإنمائيّة لـ(جان بياجيه) – نظرية الدّور الاجتماعي لـ(جورج ميد)).
• فنظريّة التعلّم تؤكّد، بأنّ البيئة المحيطة بالإنسان، هي المُعلّمة له. وتعتمد هذه النظرية على أربعة عناصر هي: (أ. المثيرات – ب. الموجهات أو الرموز – ج. الاستجابات – د.المكافأآت).
• أمّا نظريّة المعرفة الإنمائيّة، فإنّها تؤكّد بأنّ: (من خلال الاشتراك مع الغيّر، في صنع القواعد الأخلاقيّة، يفهم الأطفال أنّ القواعد يُمكن أنْ تُصنع، وأنْ تُعدّل وتتغير خلال المناقشات).
• وأمّا نظريّة الدّور الاجتماعي، و هذه النظرية تلفت النّظر، إلى أنّ الفرد الذي يَرثُ، رصيداً من المُنجزات الطيّبة والمآثر القيّمة، عن طريق آبائه وأجداده، فإنّه يمتلك استعدادات نفسيّة راقيّة، غزيرة بالتفاعل الإيجابي مع الآخرين، وتقديم الخيّر للمجتمع.(المصدر السابق/ص 103/ بتصرف).
وتوخياً للاختصار، فإن الحقائق تثبت أنّ الإمام الحسيّن(ع)، قد نَشأ تنشئة خاصّة، حرستها العنايّة الإلهيّة، على يدّ مُبَلِغ الرّسالة السمحاء(ص)، ومدرسة العصمة المباركة. وحسبُنا في هذا الجانب، أنْ كانت مدرسة الوحي والعصمة، البيئة التي عاش في أجوائها الإمام الحسيّن. وهذا ما يتطابق تماماً، مع نظريتي (التعلّم، والمعرفيّة الإنمائيّة). أمّا فيما يتعلّق بنظريّة (الدّور الاجتماعي)، فلابدّ أنْ نستعرضَ بعضَ الشذرات اللامعات، في تاريخ الأسرة الهاشميّة المباركة، التقطتُها من كتاب (الثورة الحسيّنية) للعلامة المرحوم السيّد حسيّن بحر العلوم)، وهي:
• كان هاشمُ بن عبد مناف سيّد قريش، واسمه (عمرو العلى)، لكنّه سُمّي هاشماً، لسخائه وكرمه وطيب نفسه. (فكان إذا أصاب قومه في بعض السنين قحط وجوع ينفق عليهم جميع ما عنده ثم يرحل إلى فلسطين من بلاد الشام فيجلب منها قمحاً ودقيقاً، ويقدم به إلى مكة ويأمر بخبزه، وينحر الجُزُر(الذبائح)، فيتخذ لقومه مرقة ثريد بذلك الخبز…. حتى قال الشاعر فيه:
عَمْرُو العُلَى هَشَمَ الثَرِيدَ لِقَوْمِهِ وَرِجَالُ مَكّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ
• وإذا حَضَرَ الموسم (موسم الحج)، يأمر هاشمُ بتحضير حياضٍ من أُدُم، (أحواض تصنع من الجلود يحفظ فيها الماء)، فيستقي منها الحجيج، وكان هاشمُ يستمر باطعام واسقاء الحجيج، إلى نهاية الموسم. وهاشمُ أوّل من فكّر بمشكلة مجتمعه، الذي كان يعاني أزمات اقتصاديّة، ويمرّ بمجاعات قاتلة متكرّرة. ففكّر بالقيام برحلات جماعية بيّن مكّة والشام، والتي ورد ذكرها في القرآن الكريم: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ).
• أقدَمَ هاشمُ بأوّلِ مبادرة دبلوماسيّة، لتعميق العلاقة مع الرّوم، عندما التقى ملكهم في الشام، وقد تنامت إلى اسماع الملك فضائل هاشم، فأعجب بشخصه، ودعا ملك الرّوم هاشماً ليراه. ولما تحادثا بادر هاشم قائلاً: (فان لقريش جاهاً في العرب، وسلطاناً تستحق بهما أن تختصها ببعض الودّ، وتصطفيها ببعض المنافع، ولقريش رعاك الله، من الوفاء وعرفان الجميل ما تستطيع ان تعتمد عليه وتثق به. ….. فأعجب الملك بمنطق هاشمٍ، وأدرك نُبْلَ غايته في طلب الحلف، وجعل يرسل إليه كلّ يوم فيكلّمه ويستمع إليه، ثم اجابه إلى ما سأل لقريش من حلف. …. ثم توسط قيصر بطلب من هاشمٍ وإعجاباً به، إلى ملك الحبشة باعطاء قريش نفس المعاهدة.)
• وجاء بعد هاشم أخوه المُطّلِب (فيض قريش)، الذي اقتفى أثر هاشم. وقدّ أعطى المُطّلِب مقاليدَ الأمور إلى ابن أخيه (شيبة الحمد)عبد المطلب، بوصيّة من هاشم. وكان هذا الشبل من ذاك الأسد، وسار على نهج أبيه هاشم وعمّه المُطّلِب. وعبد المُطّلِب هو الذي احتفر مع ابنه الحارث، بئر زمزم بدون مساعدة قريش، التي وقفت ضدَّ هذا المشروع. لأنّه يقع بيّن اصنامهم( أسافٍ و نائلةٍ). وفي هذه الحادثة كرامة لعبد المُطّلِب، فعندما أصرّت قريش، على منعه من حفّر بئر زمزم، اتفقوا بأنْ يحتكموا إلى (هُذيم)، وهي كاهنة حكيمة تسكن أطراف الشام. ولما سارَ الركبُ إليها، نفدَ الماء الذي كان يحمله عبد المُطّلِب وأصحابه. بينما خصومه من قريش، بقى عندهم الماء لكثرة ما حملوا منه في اسقيتهم. ولما أرسل عبد المُطّلِب إليهم، ليُعطوه وأصحابه شيئاً من الماء، يسدّون به رمقهم، امتنعت جماعة قريش من اعطاء الماء لعبد المُطّلِب وجماعته. فقام عبد المُطّلِب ومن معه، بحفّر بئر لكن الصحراء لم تَجُدّ عليهم بالماء، بالرغم من تكرار عمليّات الحفّر. وعندما يئِس عبد المُطّلِب من الحصول على الماء، توسل بالله تعالى، فانفجر الماء من تحت خفّ ناقته. فشرب الماء وأرسل إلى خصومه من قريش، أنْ يأتوا ليأخذوا ما يشاؤون من ماء البئر. فأكبرت قريش صنيع عبد المُطّلِب معهم. وانثنوا عن عزمهم بالذهاب إلى(هُذيم)، وقّروا له بحفر بئر زمزم. كما أنّ قريشاً كانت تستسقي بعبد المُطّلِب عندما يمسّها الجدب.
• وكان عبد المُطّلِب يعتكف ويتعبّد في غار حِراء، في شهر رمضان من كلّ عام. كما أنّ عبد المُطّلِب، هو الّذي سار إلى إبرهه الحَبَشِي، ليُحذره مِن مغبّة هدم الكّعبة. وقصّة إبرهة الحَبَشِي مشهورة، عند القاصي والداني.
إنّ هذا التّاريخ المُشرق، الّذي يفيضُ أخلاقاً وشمائلَ طيّبةً، لابدّ أنْ يكونَ مصدرَ فخرٍ واعتزازٍ لمن يتّصل به. والإمام الحسيّن(ع)، وراث هذا التّاريخ الطيّب. لذا فإنّ نظريّة الدّور الاجتماعي في عِلْمِ النّفس، ستكون الدّليل العلمي القاطع، لتقدم البرهان لكلّ اللذين في قلوبهم شكّ وريّبة، في منزلة وخصائص أهل البيت(ع) النفسيّة والتربويّة والاخلاقيّة. وفي الحلقة القادمة انشاء الله تعالى، سنُكمل البحث في هذا الموضوع.
[email protected]