في دروب الشعر الشعبي، حيث تتناسل المعاني من رحم الألم وتنهض القصائد من رماد الخيبات، يسطع اسم رياض أبو شبع مثل جذوة لم تنطفئ، وإن غطّاها النسيان. شاعر جاء من الكوفة، حاملاً في قلبه لهب القصيدة، وفي صوته أصداء الغربة، وفي خطوه عثرات المنفى الداخلي. لم يكن شاعرًا فحسب، بل كان شاهدًا على زمن خذل الشعراء واحتفى بالجلادين، فتمرد، واختار أن يكون صوته مراياً للمنسيين، ومرآةً للوجع الإنساني العابر للطوائف والحدود.
ولد رياض جواد كاظم أبو شبع عام 1947 في الكوفة، المدينة التي تحتشد بتاريخ التمرد وصدى الدماء الزكية. وهناك أكمل دراسته المتوسطة، لكن السياسة جذبته إليها كما تجذب النار فراشة عاشقة، فترك مقاعد الدرس ودخل دهاليز العمل السياسي مبكرًا. كان انتماؤه للحزب الشيوعي بوابة لمعاناة طويلة، ولأن القصيدة حين تلتقي بالحرية تصبح خطرًا مضاعفًا، فقد تنقّل شاعرنا بين سجون الوطن وسراديب المطاردة، يعمل تارة في محل تورنجي مع شقيقه، وتارة يخفي صوته بين الحلة وبغداد والنجف، حتى إذا ما أتعبته البلاد، اتكأ على قصيدته وراح يرثي أمله فيها.
تفتحت روحه على المدرسة الكلاسيكية، ونهل من معين الشاعر الكبير عبد الحسين أبو شبع، لكنه لم يقف عند عتبات التراث، بل انفتح على موجة الحداثة التي اجتاحت الشعر الشعبي في الستينيات. وفي هذا التيار الجديد، كان رياض أحد أركانه، بشعره الذي اجتمع فيه جمال المفردة، وغزارة المعنى، وجرأة الرؤية. صوت لا يشبه إلا ذاته، مزيج من الحزن النبيل والتحدي الصامت، يتقدم نحو المهرجانات والمجالس بخطى واثقة، كمن يحمل في صدره نشيدًا لا يُقال إلا همسًا.
غير أن ما آلم محبيه، أن جلّ قصائده ضاع في طرقات المدن الثلاث التي أحبها: النجف، الحلة، وبغداد. لم يكن شاعرنا من أولئك الذين يجمعون قصائدهم في دفاتر أنيقة، بل كانت قصيدته كحياته، حرة، متشظية، مكتوبة على هوامش المفكرات القديمة، أو محمولة في ذاكرة الأصدقاء. ولم يبقَ من إرثه الشعري إلا القليل، قصيدة هنا بخطه، وأخرى محفوظة عند شاعر زميل، وكثير من الذكرى التي تتنفسها المجالس حين يُذكر اسمه.
وتبقى “صلاة الكاولي” أيقونته الأثيرة، نصاً يفيض بالرؤية، مكتوباً بروح التمرد، ومشحوناً بحنين المغبونين. في هذه القصيدة، يؤمن الشاعر أن في قلب الإنسان، أيًّا كانت صورته، بقعة مضيئة لا يطالها ظلام، ويصرّ أن الخير يسكن الأرواح مهما غلفتها قسوة الظروف. إنها قصيدة كتبت برؤية ماركسية ترى في الإنسان أثمن رأسمال، لكنها تنفلت من الأيديولوجيا لتصبح نشيدًا للإنسان بوصفه كائنًا ذاكرًا، متألمًا، متمرّدًا.
يقول رياض أبو شبع في مطلع قصيدته صلاة الكاولي:
“شكد بيك من طيبة وأنت ابن السكه
شكد بيك من نغمة وأنت ابن التكه
شكد بيك من دمعه وأنت ابن الضحكه
حتى الترب يبكي إلك من تمشي بيه”
بهذه البداية المفعمة بالشجن، يربك الشاعر الصورة النمطية عن الإنسان “المهمش”، الكاولي الذي كثيرًا ما وُضِع في هامش المجتمع. يرفض الشاعر التنميط، ويعلن أن النبل ليس حكرًا على أحد، وأن الجمال يمكن أن ينبت في أرضٍ لم يرَها الآخرون إلا صحراء.
ويواصل مخاطبته:
“صليتلك بضحكتي… وبدمعتي صليت
نكّرت بيك الظنون الطيّبه وصفيت
طحت بحضن الهموم… وبيك اتعليت
يا خيط شمس دايب بجفن النديّه”
القصيدة تجسيد حيّ للفكرة التي كانت تسكن قلب الشاعر، وهي أن جوهر الإنسان لا تقرره طبقته ولا مظهره ولا نسبه، بل إنسانيته المتأصلة فيه. كانت “صلاة الكاولي” فعل إيمان حقيقي من شاعر مهمّش بإنسان آخر مهمّش، لكنها أيضًا صرخة ضد كلّ تصنيف قام على الجهل والخوف والموروث المتعسّف.
رأى النقاد في رياض أبو شبع شاعرًا ذا صوت خاص، مشبعًا بالرؤية الإنسانية، منحازًا للفقراء والمهمشين، ومتجاوزًا التصنيفات الضيقة التي قسمت البشر بحسب اللون أو الدين أو الطبقة. كان شعره تمردًا على العبودية المعاصرة، وانحيازًا لجوهر الإنسان الذي شوهته الأعراف، وأهانته السلطة، وأقصته التقاليد. وفي قصائده، كانت الفكرة تولد من رحم الألم، والصورة تندلع من رماد التجربة، واللغة تنهض من أعماق الواقع العراقي المذبوح، لتعيد تشكيله من جديد.
رياض أبو شبع لم يكن شاعرًا يحتفي بالزخرف اللفظي، بل كان يحفر في صخر الواقع، يبحث عن المعنى، ويعيد صياغة العالم بكلمات جريئة، حارة، نازفة. وكان في كل ما كتب، ابنًا للناس الذين عاش بينهم، وفمًا ناطقًا بمراراتهم، وحلمًا مؤجلًا في دفاترهم.
وفي عام 2000، أسدل الموت ستاره الأخير على هذا الشاعر الذي عاش حياته القصيرة كأنها قصيدة طويلة لم تكتمل، تاركًا خلفه إرثًا ضائعًا، ومحبين يفتشون في ذاكرة المدن عن أثره. لكن الأسماء التي تُولد من رحم الوجع لا تموت، بل تبقى كجمرٍ تحت الرماد، تنتظر من ينفخ فيها لتشتعل من جديد.
رحل رياض، وبقيت صلاة الكاولي تصلي على أطلال البلاد، وتبكي شاعرًا كان يرى في كل قلب زاوية مضيئة، حتى وإن أنكرها أصحابها.