23 ديسمبر، 2024 5:55 ص

“جئت اعبّر لك عن أزدرائي لأن من يبدأ بالعبث ينتهي بالندم ” .ثم استدار ليقول :
سأدع لك تفاهة المغازلة مع هذ ا المزيّن بسوء الطالع , وجربيه أنت لوحدك , وأعلمي أنني لا التهم الفضلات ولا أتلقف مايسقط من السماء ولا أشتري رخيصا.
ومن دون اكتراث و قبل ان يغادر الرواق المحتدم بالظلمة نحو الخارج أطلق ” عامر ” جملته الأخيرة قائلا :
تستطيعين ان تتكلمين معه الآن ان تبتغينه جوادا نَكَلٌ , لكن حذار ان تفسدي ثمرتك الثانية وتدمريه بنازلة كما تفعلين معي الآن ثم تبكين على من نَكَل !
صمتت سلمى وهي ترمق خاتمها الصغير بأنكسار ملحوظ بينما راحت اصابع يدها اليسرى تتخلل شعرها المتجعّد وهي تدلف في مكتبها لتلوم نفسها : “هذا اليوم لم يكن مناسبا البته , فهو يموء بسوء الطالع أيضا “.
في صباح اليوم التالي, استشفّت نورا نتائج اللقاء والمحاورة التي جرت بين سلمى و عامر فبادرت تقول لها وهما يجتزن بوابة الشركة بخطوات بطيئة:
من العبث ان نلقي عليه التحية بعد الاْن , فقد تصرف بوضوح على ان لايكون رقيقا ومهذبا , وعما قريـب ستغسلين ايامه الماضيه من ذاكرتك .
بل رأيته كدِرا. ثم قالت:
لكن , الا اغفر له ؟ اجابت سلمى وراحت تفرك عينيها السوداوين بينما احتقن وجهها الحنطي وكأنها لا تريد التخلي عن رؤيته .
لماذا ياسلمى ؟ رد ت نورا بحنان وقد ارخت سدول عينيها المضطربتين وهي تخطو بتوءدة امام مكتب الاستقبال الخاص بالشركة, ثم تساءلت واقفة :
الأنك تنتمين الى سمة الطيبة ؟! .. ثم الا تفهمين ان خطيبك المفترض هذا قد ادار ظهره لك عند اقل الأمور خطورة .. والى متى تبقين على طبيعتك .. تهيمن عليك البساطة ؟ ثم اضافت :
وهل غسلت جرحك بهذه السرعة ؟ .. وهذا , بلا ريب , يتناقض مع صيحات مبادئك كما أعلم؟
كلا , كلا نورا .. لكنني متيقنة من انه تظاهر ان يكون فظـــا في موقف البارحة ليكشف عما اخفي له من حقيقة امرى , وأنا لم أره بأعصاب هائجة غير هذه المرة. ردت سلمى وهي تتهيأ للدخول الى مكتبها ثم استدركت قائلة :
يبدو أنا لم اقصّر في الاساءة له , فقد سمعته يبكي بالم شديد إذ لم يقدر ان يتفوه بغير كلمات تحدث بها مع أخيه عادل في الرواق المظلم ومازلت اتذكرها : ” لقد تركتني خاسرآ في لعبة الحب المخادع , اما نفسي فقد تركتني مخذولآ في لعبة النسل العقيم . ” ثم تساءلت بأرتياب واضعة سبابتها فوق خدها:
لكنني لا ادرى ماذ ا يقصد في عبارته الاخيرة ” لعبة النسل العقيم ” ؟
لايقصد غير الريبة التي تتأرجح في أدراج رأسه بعقل شارد , فياله من اخرق . ردت نورا ثم اوضحت :
كنت مقتنعة انه سيأخذ الأمر بسوء فهم وهذا ماحذرتك منه لكنك كنت ترين ان في ذلك ضرورة وكشفآ لغموضه وها أنت تندمين .
جرى هذا الحديث بين الأختين قبل ثلاث سنوات وقد فات الآوان للعودة ثانية لآن نبع الصلح قد جف منذ ذلك الحين وكل واحد منهم دفن ماضيه في ظلمة الذاكرة إلا من خاتم الخطوبة فقد ظلت سلمى محتفظة به , محيطا ببُنصر يدها اليمنى وقد اعتادت ان تنقر به وجه المنضدة , كلما هاجت بها الذاكرة , كنقرات ناقوس في بيت مهجور.
في يوم وهي تبحث عن اوراق قديمة في صندوق الاوراق الخاص بالآرشيف عثرت على رسالة كانت قد دستها فيه على عجالة وقتذاك كأنها من اسرارها التي لاترغب أن يكشفها احد . أقتربت يدها من الرسالة لتفضّ غلافها وهي ترتجف بينما راح وجهها يختلج بلون الكركم وكأن احشاءها تحترق فقرأت : ” كنت احبك لولا ان التحليل الطبي الذى اجريناه افصح عن اني لااملك من الحيوانات الذكرية سوى رمادها , فوجدت نفسي في دوامة الحياة العقيمة تدور كما تدور دوامة الهواء في ارض جدباء . المخلص عامر . ليلة عيد الميلاد .
بدا وجه سلمى مرتبكآ وكأن شيئآ احتشد في قلبها بينما برزت عيناها من محجريهما وهي تخاطب نفسها : ” آه , يا اختاه كم كنا حمقى حين صدقناه في اسلوبه الحاد مع ذلك الرجل الذي انتخبناه لأثارة غيرته فكانت فرصته للتضحية بحبه من اجلي . ثم تأوهت ثانية فتذكرت قائلة : ” صحيح انه اليوم نفسه الذي اعطاني فيه الرسالة لكنني دسستها في هذا الصندوق خشية ان يلمحها احد فنسيتها من دون ان اقرأها , بل قبل ان تطأ اقدام ذلك الرجل المزين بسوء الطالع , كما وصفه , الرواق الخالي من ضجة الموظفين وها انا الآن أقرأ , كشجرة بقلب متحجر, عن ترانيم رياح قديمة .”