استلمت دعوة كريمة من سفارة العراق بروسيا لالقاء محاضرة امام موظفيها , وهو تقليد جديد بكل معنى الكلمة وجميل جدا في سفارتنا لتطوير معلومات موظفيها حول البلد الذي يعملون به , وتوسيع مداركهم عنه , وطرح افكارهم بشأنه , ومناقشة آرائهم وتجربتهم حوله..الخ, وهي خطوة رائدة ومتميٌزة فعلا في مجال العمل الدبلوماسي العراقي ترتبط باسم سفيرنا بموسكو الدكتور اسماعيل شفيق محسن , و يجب علينا ان نصفق له و لهذه المبادرة العلمية بلا شك . اعطتني السفارة الحرية الكاملة بشأن تحديد موضوع المحاضرة , والحرية المطلقة هذه هي حلم رائع لكل محاضر ( خصوصا لنا – نحن العراقيين ), رغم ان الحرية بالطبع مسؤولية كبرى من جانب آخر . لقد فكرٌت ان أتحدث في موضوع اختصاصي , وهو الادب الروسي , الذي بدأت بدراسته منذ عام 1959 ولحد الآن , سواء عندما كنت طالبا في الدراسات الاولية بالاتحاد السوفيتي , او طالبا في الدراسات العليا بفرنسا , او عندما عملت في مجال تدريس هذا الاختصاص في قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد طوال خمس وثلاثين سنة , الا اني فكرٌت – بيني وبين نفسي – ان موظفي السفارة يعرفون – بشكل أو بآخر – من هو بوشكين وما اهمية تولستوي وماذا يعني دستويفسكي ..الخ اسماء الادباء الروس الكبار وعالميتهم , ومع هذا, فقد قررت ان اجعل اختصاصي مدخلا لتلك الكلمة. وهكذا بدأت محاضرتي بالكلام عن هؤلاء الادباء , وتناولت بشكل سريع بوشكين وموضوعاته العربية – الاسلامية وغوغول ومحاضرته عن الخليفة المأمون في جامعة بطرسبورغ وتولستوي وموقفه الفلسفي المعمق من الاديان بشكل عام والاسلام والبوذية بشكل خاص لدرجة اننا نصطدم اليوم بآراء من المسلمين والبوذيين معا تقول , ان تولستوي اصبح واحدا من معتنقي هذين الدينين . و لكني اكتفيت بهذه المقدمة عن الادب الروسي ليس الا , وأخبرت الحاضرين بأني أرى ان اتكلم عن موضوع آخرأكثر قربا من قلوب الجميع , ومن المؤكد اننا تعايشنا معه جميعا – بشكل او بآخر – قبل الوصول الى روسيا , وهذا الموضوع هو- (روسيا في الوعي الاجتماعي العراقي) , اذ ان هذا الموضوع قد عانى منه كل عراقي تعامل مع روسيا , سواء كان طالبا في روسيا او موظفا فيها او حتى سائحا في ارجائها. وهكذا بدأت الكلام عن تاريخ التباعد ( ان صح التعبير ) مع روسيا بالنسبة للعراقيين , وتوقفت اولا عند المثل البغدادي شبه المجهول للكثيرين من العراقيين المعاصرين الان, وهو ( مسقوفي ), هذا المثل الذي ولد في الفترة العثمانية مع هؤلاء العراقيين , الذين ساهموا – لسوء حظهم – في التصادمات والحروب العثمانية – الروسية العديدة في تلك السنين البعيدة, ايام (السفر – بر) كما كان اجدادنا يسمونها آنذاك , وهي عملية تسويق للتجنيد بالاكراه وبالقوة للمشاركة في تلك الحروب العبثية التي خاضتها الامبراطورية العثمانية . والمسقوفي كانت تعني الشخص القاسي الفظ , والذي لا توجد عنده اي رحمة تجاه الآخرين , ومن الواضح ان المفردة مشتقة من كلمة ( مسكفا ), كما يلفظ الروس اسم عاصمتهم , اي ( موسكو) كما نسميها حاليا ( اي بعد الاحتلال الانكليزي لبلادنا في نهاية الحرب العالمية الاولى ), ومن وجهة النظر اللغوية كنا – نحن العرب – نسمي العاصمة الروسية ( مسقفا ) وهي تسمية أقرب الى تسميتها الروسية – ( مسكفا ) . جاءت الحرب العالمية الاولى والنتائج التي تمخضت عنها بالنسبة للعراق , وحدثت ثورة اكتوبر في روسيا والتي حددت مسيرتها اللاحقة , وكل تلك الاحداث الجسام ساعدت على هذا ( التباعد) بين روسيا والعالم العربي, وهكذا بدأ موقف القوى الاجتماعية المختلفة عندنا يصيغ ويبلور – كل حسب موقفه الفكري , بل وحتى على وفق موقفه السياسي – تصوراته المختلفة والمتناقضة في كثير من المواقف عن روسيا . لقد شارك الجميع ( كان كل شخص يدلي بدلوه) في تثبيت تلك المفاهيم المتنوعة والمختلفة حد التناقض عن روسيا في بلداننا العربية. تحدثنا بمرح وبروح جماعية عن هذا الموضوع بالذات , وذكرت للمستمعين ردود الفعل لدى الطلبة , عندما سافرنا الى روسيا لاول مرة عام 1959 , وكيف اعتقدنا ان الثلوج ستغمرنا , وكيف اجرينا استعداداتنا الساذجة والمضحكة لذلك , ثم توقفنا عند آراء وانطباعات العراقيين الذين زاروا روسيا عبر كل هذه السنوات , وكيف كانوا يتحدثون عن هذا البلد كل حسب موقفه الفكري بشكل عام والسياسي بشكل خاص , ولا مجال هنا لسرد تلك ( الحكايات والاساطير!!!) . وهكذا كان الشخص المؤيد للاتحاد السوفيتي يصف الحياة هناك وكأنها جنة الله على الارض , اما الشخص المضاد للاتحاد السوفيتي فكان يصف نفس تلك الحياة وكأنها الجحيم , والامثلة كثيرة جدا . وهكذا تبلورت – نتيجة هذه الآراء المتناقضة – وجهات نظر متنوعة حول هذا البلد , و كل ذلك كان انعكاسا لوضعنا الداخلي ليس الا . لقد ضاعت الحقيقة الموضوعية عن روسيا بين تيارين عراقيين متناقضين ومتصارعين , وهكذا تبلور الوعي الاجتماعي العراقي ( والعربي عموما ) تجاه روسيا , ولا زلنا نعاني – بشكل او بآخر – من سذاجة وعدم موضوعية هذه النظرة لحد الان , والحديث ذو شجون كما يقول التعبير العربي الجميل .
لقد انعكست هذه الآراء المتناقضة بالطبع على الفهم الموضوعي السليم تجاه مسألة التعامل مع هذه الدولة المهمة والكبرى في العالم , وبالتالي على مستوى العلاقات المتبادلة بين روسيا والعالم العربي عموما , و بين روسيا والعراق خصوصا, اذ يؤكد انصارها , ان روسيا هي قمة التطور الشامل في العالم وفي كل مجالات الحياة , بينما يؤكد انصار الرأي المضاد لها , ان روسيا هي دولة متخلفة وفي كل مجالات الحياة ايضا ليس الا مقارنة مع الغرب المتطور.
لقد آن ألاوان في الوقت الحاضر ان نتحرر من هذه النظرة الذاتية الساذجة و السطحية جدا الى دولة كبيرة ومهمة مثل روسيا بعد اكثر من ستين سنة من التعامل المتبادل بين العالم العربي وروسيا , وآن الاوان ان نسمي الاشياء بأسمائها كما يقال , وان ننطلق لاحقا من النظرة الموضوعية والعلمية لها , اي ان نعرف انها الدولة الاولى في العالم من حيث مساحتها الجغرافية ( حتى بعد انهيار الاتحاد السوفيتي) , وانعكاس هذه الخاصية سلبا وايجابا على مسيرة حياتها, وانها واحدة من الدول المتعددة الاجناس والاعراق والاديان وتأثير هذه البنية الاجتماعية المتنوعة على تناغم الحياة في مناطقها الواسعة , وانها واحدة من أقوى دول العالم من حيث قوتها العسكرية والنووية وكيفية تعاملنا معها من اجل التوازن الدولي في عالمنا المضطرب, وانها دولة غنية جدا بمصادرها الطبيعية , الا انها تعاني من مشاكل اقتصادية معقدة ومتشابكة تنعكس على مستوى حياة سكانها بشكل حاد, و ان هذا الواقع يخلق تربة ملائمة للفساد الاداري في مختلف مجالات الحياة , بما فيها البنية التحتية للمجتمع , وانها دولة تقف بثبات في عالمنا المتنوع والمتنافر والمتصارع باعتبارها دولة متوسطة التطور الاجمالي عالميا, وذات خصائص وصفات لا يمكن عدم ملاحظتها , اوعدم الاعتراف بها , او عدم التعامل معها , وان معرفتنا – نحن العرب – بكل هذه الخصائص ضرورية جدا كي نعرف كيف نتعامل معها لاحقا انطلاقا من الفائدة والمصلحة المتبادلة للجانبين.