13 أبريل، 2024 5:55 ص
Search
Close this search box.

روزا باركس.. السمراء التي طاردت الفجر

Facebook
Twitter
LinkedIn

تاريخنا الإنساني حافلٌ بالنماذج المضيئة التي قدمت عطاءاً أفاد البشرية على أكثر من صعيد، ولكن النماذج التي انتصرت للكرامة والإنسانية وكانت قدوةً ومثالاً غير معه مصير الكثيرين نادرة، فأعطت الأمل للملايين وأخبرتهم أن الحياة ممكنةٌ للجميع وبكرامةٍ متساوية لا تستثني أي فئة، وبما أننا في شهر المرأة لا نستطيع أن نغفل الحديث عن نموذجٍ خاص جداً قهر الأفكار العنصرية والتي تمثل أيضاً الرجعية والظلامية في الطرف الآخر من العالم والتي لا يلتفت إليها الكثيرون عن جهلٍ أو عن عمد.. مقالي اليوم عن إحدى أيقونات قهر الفصل العنصري الناشطة الأمريكية الخالدة روزا لويس باركس..

والتي ولدت بإسم روزا لويس ماكولي وكانت ناشطةً أمريكية من أصول ٍ إفريقية طالبت بالحقوق المدنية للأمريكيين الأفارقة إلى جانب عددٍ من الأسماء التي خلدها التاريخ داخل الولايات المتحدة وخارجها، وقاومت ببسالة غطرسة العنصرية التي تتخذ من اللون الأبيض غطاءاً لها وهو بريءٌ منها..

ولدت روزا لويس في الرابع من شهر شباط/فبراير عام ١٩١٣ في ولاية ألاباما الأمريكية، وعاشت لاحقاً في مزرعة مع والدها وعائلته بعد انفصاله عن والدتها والذين كانوا أعضاءً في الكنيسة الأسقفيّة الميثوديّة الأفريقيّة، ثم التحقت بالمدارس الرّيفيّة حتى سنً الحادية عشر، وبدأت روزا حينها بأخذ عددٍ من الدورات الأكاديمية والمهنيّة لكنها تركت الدّراسة لاحقاً من أجل الاعتناء بجدّتها، ولاحقاً بأمّها بعد أن أصيبت بالمرض.. لكنها ورغم ظروفها كانت مدركةً لكل ما يحدث من حولها والذي تطور وعيها به مبكراً فكبر وكبر حتى قررت التمرد عليه، فلم يكن من السهل عليها أو على غيرها من الأطفال (غير البيض) أن يذهبوا بشكلٍ يومي سيراً على الأقدام إلى مدارسهم فيما تقل الحافلات الأطفال (البيض)!!!

وقالت باركس عن معاناتها مع العنصريّة في طفولتها:
(كنت أرى الحافلة تمرّ في كل يوم.. لكن بالنسبة لي كان هذا أسلوب حياة، لم يكن لدينا خياراً إلا قبول العُرف، كانت الحافلة المدرسية أول ما جعلني أدرك وجود عالمٍ أبيض وعالمٍ أسود)..

في عام ١٩٣٢ تزوّجت روزا من رايمون باركس، وهو حلّاق من مونتغمري والذي كان عضواً في الجمعيّة الوطنيّة للنّهوض بالملوّنين والتي انضمت إليها لاحقاً عام ١٩٤٣، وهو العام الذي أصبحت فيه روزا ناشطةً في حركة الحقوق المدنية، وانضمت فيما بعد إلى (الرابطة الوطنية للنهوض بالسود) وكانت المرأة الوحيدة المُنضمة إلى الرابطة آنذاك، ولم يكن زواجها مقارنةً بذلك الوقت تقليدياً بل كان مليئاً بالمشاركة والكفاح والدعم والتوحد لخدمة رسالةٍ عظيمة، فكان زوجها سندها وداعمها الأول في اختياراتها فتشاركا النضال معاً كلٌ في مهنته إلى جانب العمل في خدمة مجتمعهم لتحصيل حقوقه ورفع الظلم عنه، وتنقلت بين عددٍ من المهن فعملت كمدبرة منزل ومساعدة في المستشفيات ثم قامت بالحصول على شهادتها الثانوية بعد إلحاح زوجها وعملت إلى جانبه عام ١٩٣٣ في وقتٍ كان لا يحصل فيه أكثر من ٧% من الأمريكيين الأفارقة على هذه الشهادة..

وكانت تكرس جزءاً كبيراً من وقتها مع زوجها في تحسين حياة بعض الأمريكيين الأفارقة، حيث عملا معًا على جمع المال لدعم الدفاع عن (سكوتس بورو بويز) وهم مجموعة من الشباب السود كان قد تم اتهامهم زورًا في قضية اغتصاب جماعي لسيدتين من البيض والذين ساندهم الحزب الشيوعي الذي كانت تحضر مع زوجها عدداً من اجتماعاته دون الإنتظام في صفوفه، كما قامت في كانون الأول في عام ١٩٤٤ بالتّحقيق بقضيّة اغتصابٍ جماعيّ ل(ريس تايلور) وهي امرأةٌ سوداء من أبفيل، حيث نظمّت باركس مع زملائها (لجنة للمساواة بالعدالة من أجل السيّدة ريس تايلور)، وقالت صحيفة (شيكاغو ديفيندر) الأميركية آنذاك عن اللجنة بأنّها (أقوى حملة من أجل العدالة المتساوية التي يمكن رؤيتها خلال عقد من الزّمن)..

وكتبت روزا باركس في سيرتها الذاتية كفتاةٍ ترعرت في الجنوب الأمريكي الذي كان يشهد مظاهر وممارساتٍ عنصرية ضد أصحاب البشرة السمراء أكثر وأشد وطأةً من نظيرتها في بقية الولايات الأمريكية، فيما سمي وقتها بقوانين (جيم كرو) ذات الطابع العنصري عن كثيرٍ من التمييز الذي كانت شاهدةً عليه، فبفعل قانونٍ تم إقراره في عام ١٩٠٠ يتم فصل الركّاب في الحافلات بتخصيص مجموعة ٍمن المقاعد لكل عرق، وعلى الرّغم من نصّ القانون على عدم تخلّي أي فرد عن مقعده إلا أن سائقي الحافلات كانوا يطلبون من الركّاب من أصحاب البشرة السّوداء التّخلّي عن مقاعدهم في حال لم يكن هناك مقعد فارغ للركاب البيض، فكانت الصفوف الأربعة الأولى من كل حافلة للركاب البيض، بينما الأجزاء الخلفية من الحافلة للسود على الرغم من أنهم كانوا يشكلون نسبة ٧٥% من الركاب، وكان من الممكن للسود الجلوس في الصفوف الوسطى حتى يملئ القسم المخصص للبيض، لكن إذا احتاج البيض إلى أماكن إضافية كان يتوجب على السود ترك أماكنهم ليجلسوا بالخلف أو الوقوف، وحتى أنه يتوجب عليهم مغادرة الحافلة إن لم تكن هناك أماكن لإستيعابهم، كما أنه كان ممنوعاً على السود أن يمروا من الباب الأمامي (أمام البيض)، فكانوا يصعدون لدفع الأجرة للسائق ثم ينزلون مرةً أخرى ليركبوا من الباب الخلفي..

كما كان وجود جماعاتٍ مثل (كو كلوكس كلان) مدعاةً للخوف، وهي واحدة من مجموعة المنظمات الأخوية المتطرفة والعنصرية والتي تؤمن بتفوق العرق الأبيض، كما تشتهر بمعاداتها للكثير من الأديان والطوائف والأعراق واستخدام الترهيب والتعذيب والتنكيل ضد الفئات التي تختلف عنها، وقد كانت تمر في الطرقات أمام بيت (روزا باركس) مما يسبب لهم جميعاً حالةً من الذعر خاصةً في الليل، وكان شكل جدها الذي يقف حاملاً بيده بندقيةً أمام بيتهم لحراستهم محفوراً في ذاكرتها..

وبعد يوم عملٍ طويل في الساعة السادسة من مساء الخميس ١ كانون الثاني/ يناير عام ١٩٥٥ استقلّت باركس حافلة (كليفلاند أفينو) التابعة لخطوط مدينة مونتغمري بشكل ٍ عادي، فدفعت أجرة سفرها وجلست في مقعد فارغ في المكان المخصص للأشخاص الملوّنين، وبعد عدّة محطات طلب سائق الباص (جيمس بليك) من ٤ ركّاب ملوّنين كانت من بينهم التخلّي عن مقاعدهم ليتسنّى للركّاب البيض أن يجلسوا مكانهم، ولكن باركس رفضت التخلّي عن مكانها، وقالت عن ذلك الموقف: (عندما عاد السّائق الأبيض بإتجاهنا، عندما لوّح بيده وأمرنا بالتخلّي عن مقاعدنا، شعرت بعزيمةٍ تغطّي جسدي بكامله وكأنها لحاف يدفئني في ليلة شتاء باردة)..
وحينها تشاجر السائق مع باركس وصرخ في وجهها لكي تترك مقعدها إلا أنّها أصرّت على موقفها، وحتى بعد أن هدّدها بالشرطة لم تأبه بتهديداته وحافظت على رباطة جأشها وثباتها، وهو الموقف الذي سيكون بمثابة نقطة تحول في حياتها وحياة الكثيرين فتحدثت عنه قائلةً: (يقول النّاس دائماً أنني لم أتخلّى عن مقعدي لأنني كنت متعبة لكن هذا غير صحيح، لم أكن متعبة جسديّاً… لقد كنت متعبة من الاستسلام، فلم تبدأ مقاومتي لسوء المعاملة بالحافلات بعد اعتقالي)، كما ذكرت خلال مقابلة إذاعية عام ١٩٥٦ ( بعد عدة أشهر من اعتقالي أردت أن أعرف لمرة واحدة وإلى الأبد ماكان لي من حقوق إنسان وحق المواطنة)..

وأدى ذلك إلى حالة ٍ من الغليان في الأوساط الأمريكية الإفريقية حصل على إثرها حملاتٌ لمقاطعة حافلات مونتغمري استمرت لمدة ٣٨١ يوماً جعلت الكثير منها يتوقف عن العمل لأشهر، خضعت خلالها لمحاكمةٍ أدينت فيها بتهمة (السلوك غير المنضبط) مع تغريمها مبلغ ١٠ دولارات وتحميلها نفقة (المحاكمة) وهي أربع دولارات، مما دفعها لإستئناف الحكم والطعن في شرعية الفصل العنصري، وبعد نجاح حملة المقاطعة استمرت باركس في جهودها لإلغاء قوانين العنصرية لدرجة أنها فقدت وظيفتها وتلقت تهديدات بالاغتيال، حتى تم في نوفمبر ١٩٥٦ إعلان المحكمة العليا في الولايات المتحدة عدم قانونية قوانين الفصل العنصري في الحافلات وعدم دستوريتها، والذي مهد الطريق ليتم في عام ١٩٦٤ إلغاء جميع قوانين الفصل العنصري في الأماكن العامة، ليطلق عليها (أم الحركات المدنية المعاصرة)..

وتقديراً لجهودها أطلق عليها الكونغرس الأميركي لقب (السيدة الأولى للحقوق المدنية)، كما حصلت على (الوسام الرئاسي للحرية) عام ١٩٩٦، والوسام الذهبي للكونغرس الأميركي عام ١٩٩٩ وهو أعلى تكريم مدني في البلاد، إضافةً إلى العديد من المناصب الفخرية والتكريمات التي تلقتها على مدار سنوات حياتها بعد أن تحولت إلى أيقونة تحرر إنسانية لفتت أنظار العالم إلى قضيتها وزادت الوعي بها حتى رحلت في السابع والعشرين من تشرين الأول/ أكتوبر عام ٢٠٠٥ في جنازةٍ مهيبة
وتكريمٍ كبير لروحها، لتثبت أن صاحب الحق لا ينكسر، وأن الكرامة تعلو فوق الغطرسة وأننا جميعاً متساوون، وبإمكان أي إنسان أن يصنع التاريخ ويكسر القيود إن آمن حقاً بمبادئه وأن لا أحد يستطيع إيقاف بزوغ الفجر، فمابالنا بإمرأةٍ طاردته لتمحو ليلها وليل الآخرين حتى حصلت عليه.. ذاك الفجر الذي بزغ ذات يوم من مقعد حافلة..

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب