عثرت قبل فترة في احدى المكتبات على كتاب ممتع للكاتب الكبير جورج ارويل مؤلف روايات مزرعة الحيوان و ١٩٨٤ والتي تعتبر من روائع الأدب السياسي.
الكتاب عنوانه : لماذا اكتب ؟
وهو يضم مجموعة من المقالات التي نشرها ارويل في فترات مختلفة. احدى تلك المقالة تحمل نفس عنوان الكتاب، لماذا اكتب ؟
لكني سوف اتناول ماجاء في مقالة اخرى عنوانها :
داخل الحوت .
الشيء الملفت للنظر انه يعيد تفسير مغزى قصة النبي يونس عندما ابتلعه الحوت ، والتي وردت في الكتب السماوية ومنها الانجيل.
يعتقد ان ابتلاع الحوت لذلك النبي هو نوع من الخلاص من العالم والعيش في داخل كيان مستقل يوفر للنبي الحماية والعزلة ( بواسطة جدران سميكة من الدهون التي تجعل حتى الاصوات الخارجية لاتصل اليه).
انه العيش داخل رحم امومي واسع ومريح ودافيء وبيتوتي على حد تعبيره.
ان اعتى العواصف التي تستطيع اغراق البوارج والسفن سوف لن تصل اليه ولن يصيبه أذاها، وقد يصل اليه احياناً بعض الصدى فقط..
الحوت يغوص ويرتفع ويتناول الطعام ويصارع اعداءه ، ولكن النبي غير معني بتلك الاحداث !!
أنه لايتحمل اي مسؤولية ولايتفاعل مع الاطراف المتصارعة .
وهذا هو بيت القصيد بالنسبة لارويل، وذلك انسجاماً مع آراء هنري ميلر الي وردت في اعماله لاسيما رواية مدار السرطان.
يعتقد ميلر ككاتب، ان الروائي يجب ان يتعامل مع الواقع مثل يونس في بطن الحوت.
يعتقد ان الواقع له قوة قاهرة اكبر من قدرة الروائي على التغيير
وعلى الروائي ان لايكون كاثوليكياً في نظرته الى الواقع بل بروتستانتياً.
اذا كان الروائي طرفاً في صراع فانه لن يكون موضوعياً ولن يقدم وجهة نظر كل الاطراف..
اذا انخرط في السياسة فقد قدرته على الخيال الحر المستقل تماماً.
من يريد الالتزام ، فليترك الرواية ! ليس بالضرورة ان يصبح الجميع روائيون.
انتقد ميلر ذهاب ارويل الى اسبانيا للمشاركة في الحرب الاهلية واعتبر ذلك حماقة وتضحية لاداعي لها وليست لها فائدة.
يعتقد انه من المجازفة القول ان الجمهوريين في الحرب الاهلية الاسبانية كانوا على حق تماماً.. وان الفاشيين كانوا على خطأ تماماً ..
ان تذهب الى اسبانيا بدافع الفضول فهذا أمر مفهوم، ولكن ان تذهب بدافع الالتزام فهذه حماقة تنزع عنك صفة الروائي الجيد صاحب الخيال..
قال له ميلر: ان حضارتنا كان مقدراً لها ان تنجرف بعيداً وتستبدل بشيء مختلف والى الحد الذي سيتسنى لنا بالكاد تسميتها بالانسانية !!
هذا الحوار في منتصف الثلاثينيات ، ومع ذلك فأن هنري ميلر كان يرى بخياله الحر وذكائه ان الحضارة تتجه نحو بديل لا انساني تقريباً..
لم تكن الحرب العالمية الثانية وما اعقبها من حروب طاحنة قد وقعت ، لكنه كام يُجيد قراءة الاحداث والاتجاهات المستقبلية ويفهم قوانين العالم.
الرواية الحقيقية هي مُنتج العقل الحر والمستقل بذاته كما يراها ميلر.
عندما يكون الروائي محبوساً في قفص من الاكاذيب والمخاوف من ان يُتهم بانه يمس روح العصر او يتحدى الثوابت المجتمعية المزرية ، او يتأثر بالحملات الدعائية السياسية البائسة، فأنه لن يكون روائياً يستطيع ان يتخيّل.
قد يكتب نثراً جميلاً او قصيدة ، لكنه لا يستطيع ان يكون صاحب خيال حر ومستقل.
الروايات الجيدة تكتب من قبل اشخاص غير خائفين.