23 ديسمبر، 2024 11:24 ص

رواية يامريم  كشفت عن معاناة الاقليات الدينية

رواية يامريم  كشفت عن معاناة الاقليات الدينية

هذه  الرواية ( يا مريم – 160 صفحة ) صدرت في عام 2012 . للشاعر والروائي العراقي  القدير ( سنان انطون ) هي الرواية الثالثة بعد  رواية ( اعجام ) عام 2003 , ورواية ( وحدها شجرة الرمان ) عام 2010 . ورغم انها لم تفوز بجائزة ( بوكر للرواية العربية عام  2013 ) , إلا انها نالت شهرة واسعة , واعتبرت في مقدمة الروايات العراقية , التي تزيح النقاب عن اساليب القمع والاضطهاد وممارسات التعسف في الارهاب والقتل والاختطاف والفدية والعنف الدموي , التي  تعرضت لها  كافة الاقليات الدينية , و بشرارة نيران الارهاب الدموي   , الذي ابتلت به كافة الاقليات الدينية , بعد الاحتلال الامريكي ومجيء الاحزاب الطائفية على انقاض حكم الطاغية ( صدام حسين ) , وتكشف عن الواقع المشحون بالتراجيديا , والحالات المزرية التي اصابت هذه  الاقليات الدينية , وخاصة الطوائف المسيحية , وصارت امام مصير جديد , من الاغتراب الوحشي داخل العراق , وامام خياران , اما الجزية او الاسلام , وإلا فان الموت سيلاحقهم في كل مكان حتى , يتم تطهير العراق منهم , وان يعيشون في بوابة الجحيم حتى الهروب من العراق او الموت الزقوم فيه . هذا الحقد والانتقام الاعمى , هو  احدى افرازات العهد الجديد . ورواية ( يامريم ) جسدت هذه الوقائع والمعطيات من مشاهد الواقع التراجيدي . وفي تعليق لارسطو عن تراجيديا . قال ( على الكاتب ان ينتقي ويسلط الضوء على بعض الاحداث ) لذلك جاءت هذه الرواية لتسلط الضوء على الاحداث , وخاصة المجزرة الدموية المروعة التي حدثت في كنيسة ( سيدة النجاة ) في بغداد عام 2010 . وتأثير هذا الحدث المروع والرهيب , دفع الكاتب الروائي ( سنان انطون ) الى كتابة احداث هذه الرواية , كما صرح في احدى مقابلاته الصحفية , ومن ضغط الصدمة الرهيبة من المجزرة الدموية , وهي تمثل اقصى حدود البشاعة والوحشية , من الارهابين العتاة والقتلة  , الذي يؤمنون بسفك الدماء وتحطيم حياة الانسان , باسم الاسلام وهو بريء من افعالهم الوحشية والدموية , هذه حصيلة هذه الاحباطات والتأثيرات النفسية بالالم والجزن والاسى , من هلاك ارواح بريئة بحجة المعتقد الديني المسالم , وان الاقليات الدينية في العراق , صارت تحت مجهر الارهابين القتلة , بهذا الشكل الرهيب كانت مناخات الرواية وبحبكة رشيقة وسلسة بمتابعة الاحداث الخطيرة والمعايشة اليومية بشكل صميم  , وقد طعمت حوارات الرواية باللهجة الموصلية , لتضفي عليها سمات الواقعية , وتكشف بما يدور في وجدان الذات والانطلاق بعفوية عن التعبير عن المحنة الكارثية التي اصابت العراق عموماً والطوائف الدينية الاخرى وخاصة المسيحيين .
 زمن الرواية يستغرق يوماً واحد , وبشخصية محورية في تتبع الاحداث هو ( يوسف كوركيس ) المتقاعد في العقد الثامن من العمر , ويحمل من خزين الذاكرة المكتنزة بالاحداث السياسية التي مرت على العراق , منذ حركة ( رشيد عالي ) عام 1941 , وما تابعها من احداث متلاحقة , لاشك ان محطات ( يوسف ) كثيرة متعلقة بتاريخ العراق السياسي واحداثه العاصفة , مروراً بالعقود التالية , الى زمن غزو الكويت وعودة الفرع الى الاصل . الى ام المعارك ( ام المهازل ) . الى الحملة الايمانية وتشديد واغلاق منافذ الحياة المدنية بسلسلة طويلة من المحرمات والممنوعات , الى الحصار الاقتصادي وتوابعه الثقيلة والمرهقة على الشعب  , وخاتمة المأساة العراقية , ليكمل مسلسل الخراب بالاحتلال الامريكي ومجيء الاحزاب الطائفية الى الحكم , والكثير فرح بسقوط الطاغية صدام , واعتقدوا بعودة العراق الى الامن والامان والاستقرار , وتمزيق الماضي البغيض لان العهد الجديد , سيحول العراق الى ( هونغ كونغ ) ولكن بركات قادة الاحزاب الطائفية , حولوا العراق الى مايشبه الصومال , وتحول الدولة العراقية الى دويلات مليشيات وعصابات مافوية , تفرض سيطرتها على الشارع العراقي وتتحكم به , بشريعتها الدينية المتطرفة والارهابية , وتبيان هدفها الاسمى في  تطهير العراق من كافة الاقليات الدينية بشتى وسائل الارهاب والعنف الدموي الذي يطال الجميع ( موبس احنا عمو , الصبة هم خطيه , واليزيديين شوف اصار بحالهم ) ص75 . وهي نتيجة منطقية لغياب دور الدولة في حماية المسيحيين وغيرهم من الاقليات ( مو قصة علينا لو مو علينا , بس دولة ماكو , والاقليات ما حد يحميها غير الدولة القوية , احنا لا عدنا حزب ولا مليشيات ولا بطيخ ) ص25 . ان المحطات الحياتية لشخصية المحورية في الرواية ( يوسف كوركيس ) كثيرة ومتنوعة , لكننا نتوقف امام حظه العاثر والسيء بان لم  يحظى بالزواج  , رغم انه ارتبط في علاقة الحب مع عدد من النساء , لكنه لم يوفق في حبه بواحدة منهن , بسبب المعوقات الطارئة , التي تؤجل مسألة الزواج , حتى انه مستعد ان يعتنق الدين الاسلامي لعيون حبيبته المسلمة ( دلال ) لكن رفض اهلها ذلك بشدة  . وهو الوحيد المتبقي من عائلته واشقائه , الذين اختاروا الغربة والشتات والهجرة من العراق , ورغم حجم الضغوطات العائلية , بان يترك العراق ويهاجر , لكنه كان يرفض ذلك , وحين لم يصل الى عدم  اقناع الاخرين يتحجج في مقولة ( وين اروح بها العمر واتبهدل , اتبهدل هوني في بلدي احسن ) ص85 . ولانه يؤمن بحب العراق المقدس , ويعتقد في قرارة نفسه , بان هذه الغيوم والسحب السوداء التي تعصف بالعراق , سرعان ما تزول وتنقشع , ويرجع عراق الخير وماضي التعايش والامان , هذه الروحية المتفائلة موضع جدال وخصام  محتدم بالانفعال والتشنج من ( مها ) الشخصية المحورية الثانية في الرواية , فتاة في العشرينيات متزوجة من ( لؤي) وفي اخر سنة من دراستها في كلية الطب , ثم المغادرة خارج العراق الى دول المهجر , حيث ترد على محدثها ( ما تكَلي منين تجيب التفاؤل , مالك كله هذا ؟ اشراح ايخلصنا من هذولة السرسرية والمتعفنين والحرامية واهل العمايم ) ص81 . وتضيف بجزع ويأس ( لمن تنكَلب  العمايم , احنا يمكن شابعين موت اذا انكتلت . ضاع البلد بين ايران والعربان والامريكان , والله ما ادري يعني جانت كل هالطائفية موجودة واحنا ما حاسين بيها ؟ معقولة ؟ وين جانت خاتلة ؟ ) ص81 . بينما ( يوسف ) يتشبث بالماضي الخير , وان مهما كانت الطائفية والارهاب والعنف , لايمكن ان يصمد امام العراق , ولابد ان تعود الحياة الى مجاريها الطبيعية . تنفعل ( مها ) بعصبية وانفعال وتقول له :
– انت تعيش بالماضي عمو .
لان الواقع الجديد خلق حالات رهيبة نحو الاسوأ ولا يمكن اصلاح الحال , وخاصة معاناة المرأة من غير المسلمة , ( لا يمكن ان يتخيل مشاعر امرأة , وهي تتعرض بكل تلك النظرات , النظرات التي اشعر كأن اصحابها , يلتقطون صور اشعة اجتماعية , ليحددوا طبيعة مرضي ونجاستي , لاني لست مثلهم ؟ او من ملتهم , ولا تجيء النظرات من اعين الرجال فقط , بل حتى من النساء اللواتي ينظرن اليَ , كأنني عاهرة , لانني لا ارتدي الحجاب ) ص110 . ويظل الارق يواسي انفعال ( يوسف ) طول الليل من العبارة التي يعتبرها اهانة له  ( انت تعيش بالماضي عمو ) التي دمغتها به ( مها) , ويظل يتساءل بطعم المرارة والخيبة والاسى والخذلان  ( هل اهرب فعلاً من الحاضر الى ملجأ الماضي , كما تتهمني هي ؟   وما العيب في ذلك حتى لو كان صحيحاً , اذا كان الحاضر مفخخاً ومليئاً بالانفجارات والقتل والبشاعة ؟ ربما كان الماضي مثل حديقة البيت التي احبها واعتني بها , كما لو كانت ابنتي , اهرب اليها من ضجيج الدنيا وبشاعتها , انها فردوسي في قلب الجحيم ) ص11 . وحين تهدأ انفعالاته واعصابه ويقرر ان ان يسامح ( مها ) على انفعالاتها وتشنجها ( يجب ان اسامحها , فزمانها غير زماني , وشبابها غير شبابي , هي فتحت عينيها الخضراوين , على الحروب والحصار , وذاقت طعم القحط والقتل والتشريد مبكراً , اما انا فقد عشت ازمنة الخير , وما ازال اتذكرها واصدق بانها حقيقية ) ص11 . و ( مها ) الفتاة العشرينية تروعت بمشاهد الرعب الوحشية , وتعرضت على التهجير القسري اكثر من مرة , واخيراً انتقلت الى بيت اهل زوجها ( لؤي ) , في منطقة يتكاثر فيها الوجود المسيحيين , مما يكون في قلب اهداف الارهابين القتلة , في تعميق الرعب والعنف الدموي , من خلال رسائل التهديد , او وضع علامات حمراء على الابواب المرشحة للموت او القتل , او اطلاق الرصاصات التخويفية , او ممارسة الاختطاف والفدية , واخيراً ارسلوا الى المنطقة , سيارتان مفخفخة , انفجرت احداها  قرب بيت اهل زوجها ( لؤي ) من فعل الصدمة اجهضت , وسقط الجنين , مما اصابتها ازمة نفسية شديدة بالكابة والحزن والبكاء على وليدها المفقود , الذي كان مصيره من الرحم الى اللحد , دون ان يمر  بالمهد . ويستعد ( يوسف ) لحضور القداس الجنائزي على روح شقيقته ( حنة ) المتوفاة , والتي كانت تتذمر من الحياة , وتتمنى الموت كل يوم ( ( يوسف تعبت من الحياة , اريد اموت , يزي عاد ) , ويتوجه ( يوسف ) صوب كنيسة ( سيدة النجاة ) وتتفق ( مها ) وزوجها حضور القداس الجنائزي , والاعتذار من ( يوسف ) لما بدر منها كلام اغاضه بشدة ( انت تعيش بالماضي عمو ) وتتوجه الى الكنيسة , ويخبرها زوجها , بانه سيتأخر لعمل طارئ , ولكنه سيحضر متأخراً , وتفتش ( مها ) داخل الكنيسة عن ( يوسف ) وتلمحه من بعيد , وفي حالة الاقتراب منه , تسمع اطلاقات رصاص سرعان مازدات كثافتها ثم انفجر باب الكنيسة , ودخل الارهابين وحدثت المجزرة الدموية بدم بارد , في قتل العشرات من المصلين وهم يؤدون شعائرهم الدينية , وحدثت فجاعة  الدموية . وفي لقاء مع احدى القنوات مع ( مها ) من احد الناجين باعجوبة من المجزرة  . قالت ( لماذا تأخرت القوات المسلحة من انقاذ الرهائن ,و السؤال هو ليش انتظروا كل هذا الوقت ؟ لو تحركوا اسرع , كان انقذوا كثير من ناس من اللي كانوا ينزفون , واللي ما كان يموتون , وكان عدد الضحايا اقل بكثير , فانا احمل الحكومة العراقية المسؤولية الكاملة , اشلون قدروا هذولي , يدخلون كل هذا العتاد ويعبرون نقاط التفتيش ؟ ) ص154 . وهكذا يسدل الستار على شخصية الرواية الرئيسية ( يوسف ) بان يكون احد ضحايا المجزرة الرهيبة , بان تترك جثته تسبح في دماءها لمدة اربع ساعات . هذه مأساة الاقليات الدينية , شاء حظها العاثر ان تولد في العراق الطائفي .
هناك هفوة صغيرة جداً في الالتباس في عمر ( مها ) فهي تتحدث عن خطف خالها ( مخلص ) وتقول بانها حدثت قبل ثلاث سنوات , وتقل بانها كانت طفلة صغيرة لا تفهم من الاحاديث المتداولة الاختطاف والفدية , وتشير الرواية بان مجزرة كنيسة سيدة النجاة , حدثت في اواخر شهر تشرين الاول عام 2010 , يعني حادثة الاختطاف تمت تقريباً في عام 2007 , وهذا غير منطقي من طفلة صغيرة الى متزوجة ,  وفي مرحلة الدراسة في  السنة الاخيرة من دراستها في كلية الطب , . رغم هذه الهفوة غير المتعمدة , تبقى رواية ( يا مريم ) جسدت معاناة وتراجيديا الاقليات الدينية في صياغة اسلوب  الحبكة في رشاقة مبدعة  تدعو الى الاعجاب.