17 نوفمبر، 2024 9:46 م
Search
Close this search box.

رواية “قياموت” للروائي العراقي نصيف فلك

رواية “قياموت” للروائي العراقي نصيف فلك

نص مشاكس لواقع استثنائ
لم يكن اعتباطاً أن يختار الروائي نصيف فلك هذا العنوان الملتبس لنصه السردي الجديد “قياموت” الصادر عن دار سطور 2015 فهو هنا يحاول أن يقدم للقاريء نصاً فنتازياً محايثاً لواقع أصبح فيه الغريب والعجيب والاستثنائي هو القاعدة، فليس هناك من أخطاء “فكل خطأ مقصود فلغة الرواية تنحت نفسها” كما ثبت الروائي ذلك في مقدمته، “قياموت” سرد حكائي عن واقع اجتماعي وبيئي كان يسير بخطى ثابتة ومتمرسة عبر سبعة الاف عام في تسلسل تراجيدي تاركاً ورائه الاف من البؤر الناتئة تراكمت لتخلق أساطير من الفواجع تصلح لأن تكون حكاية مأساوية يمكن ان نقصّها “بزمن شرب الشاي”. الحرس القومي ومجازره اليومية وإعدام اليهود في ساحة التحرير، جريمة قاعة الخلد واعتقالات الشيوعيين واعدامهم، حملة طلفاح ضد الحياة المدنية، حرب الثمان سنوات، غزوالكويت، عاصفة الصحراء، الحصار الاقتصادي، السقوط2003كل تلك البؤر الماتهبة بقيت متقيحة اتؤسس لبدايات الظهور ل”جنون القيامة”، الذي كان يتشكل من هذه البؤر التي أحدثت شروخاً كبيرة في بنية المجتمع العراقي، لايمكن تجاوزها أو التغاضي عنها، لأي مراقب مهتم بالشأن العراقي.

بين القيامة والموت دشن لنا الروائي نصيف فلك نصاً عراقياً طازجاً بكل مستوياته السردية والثيمية يالرغم من كل ما تضمنه النص من فلتان لفظي وشطحات تبدو وكأنها خارجة على العرف الأدبي العراقي فأنه حرص على أن يقدم الواقع العراقي كما هو بكل جنوحه وجموحه وشطحاته وعثراته وانزلاقاته التاريخية وبكل مفرداته وتمويهاته، بلا تزويق ولا مهادنة ولا طمأنة، بل صفعة مدوية بوجه كل “التابوهات” المقدسة التي حفلت بها حياتنا طوال الحقب الماضية، من سلطة العقيدة الى سلطة الدين، في مجتمع “الاستهتار الجبان سمته اليومية” ليقوده نحو حاضر “قيامة الجنون”. بكل مفرادته الصادمة التي أصبحت الواجهة الاخلاقية والمعارفية “الصكاكة- الذباحة- العلاسة- جيش الخلفاء- جيش الحلفاء- جيش الجلفاء-الزعاطيط- الجلادين- جماعة الثقوب السود- لصوص الجثث- صعاليك القيامة” والتي تحولت مع تعاقب الزمن العراقي الذي لايشبه زمناً آخر، إلى قيم سلوكية ساهمت في خلق مجتمع يناضل فيه الناس “ضد انفسهم ويساعدون الجلاد على افتراسهم ويقتلون كل من يدافع عنهم، صورة الجلاد في عقولهم مقدسة.ص46”. في مجتمع ينام فيه الناس على وقع زخات اطلاقات الرصاص “واذا مرت ليلة بدون رصاص لاينام أحد خوفاً من كارثة أكبر من التي نرفل بها”.

ينفتح باب السرد في الرواية على حادثة عادية بالنسبة ليوميات الواقع العراقي، وكذلك بالنسبة لبرعم بطل الرواية، رسالة تهديد غامضة يتلقاها السارد برعم من مجهول، رسالة من تلك الرسائل التي أصبحت متلازمة يومية في حياة العراقيين، تطالبه بالرحيل من مدينته “الحسينية” أو “حي الزهور” أو “مدينة القبور” كما يسميها الناس شمال بغداد. لتنتقل الى مشهد آخر أكثر غرابة اختفاء شارع “الجريخي” أو سرقته من قبل جماعات”الثقوب السود”.وفي جولة يومية تشبه رحلة ليوبولد بلوم داخل مدينة دبلن في رواية “عوليس”لجيمس جويس. مع الفارق بين الشخصيتين والظروف المصاحبة لهما، تتكشف لنا حيثيات الواقع الفنطازي العراقي بشخصياته ” Personal psychological” التي هيّ نتاج واقع مصاب بالامراض الفصامية المزمنة، سامر القذر “مسخم الوجه” الذي تشبه رائحته “الفسوة”، هندي الحلاق الذي يشبه “سميغل” والذي فقد شعر رأسه بخلطة حلاق، لكنه لم

يفقد عقله حين وضعته جماعة”الثقوب السود”في كيس طحين وكان بينه وبين الموت رشقة رصاص لولا القدر الذي تدخل لانقاذه، دخان الذي تعوي الغرائز وتجأر برأسه ليل نهار بعد امتناع زوجته عن النوم معه لأنها باتت تؤمن بأن الجماع يلوث يوم القيامة، شلال الممثل الموظف الذي يشبه”عوج ابن عناق”، مرتضى الممثل بوجه الثعلب وروح الذئب،عاهرة الميدان التي يهجرها أبيها مع أمها وشقيقاتها الثلاث وشقيقها ويتركهم فريسة الجوع والحاجة والانتقام، ونوس المجنون بتمزيق الصور، الشيخ حنظلة الذي يرتزق من مهنة الدجل، مكيّة ام النغولة اسامة وحيدر وموران “زايعتهم الكاع” باستعداهم الفطري لاقتراف الجريمة، ومع هذه الشخوص تنطلق الحكايات التي تؤرشف لحياة مابعد 2003 . حيث انفجار سيارة مفخخة وسط سوق شعبي، لاتثير سوى التفاتة سريعة من الناس لتواصل الحياة مسيرتها بعد ذلك بكل بساطة، المرأة التي تحمل تحت عبائتها زند فتاة مذهب، العلبة الكارتونية التي تفتحها بائعة الخضار لتجد فيها رأس ولدها جعفر، نجاة بلاسم من جلطة قلبية تتحول الى ساعة نحس، ولادة طفل جديد لأبو حسين تكون مأتماً لتقديم التعازي، مستشفى الطب العدلي الذي يتحول الى شاشة “سينما المغدورين” تعرض فيها صور المغدورين لضحايا القتل اليومي في بغداد، المتاجرة بالاعضاء البشرية. حفلات الشذوذ الجنسي التي يقيمها قادة الفصائل المجاهدة مع الضحايا كما يفعل أبو حفصة التونسي مع ضحاياه ص193، الحصول على سيارة اجرة السايبا الصفراء مقابل التخلي عن الكلى، توزيع البطاقات السوداء لحضور حفل زواج كنش الذي يتحول إلى مأتم عزاء، حوارية العشق بين قبلة ودخان التي تصبح تبادل لشرقات الرصاص وتمنيات بالموت، الابتهاج والفرح بمقتل احدهم كما في مقتل كنش بحادث انفجار مفخخ.

في رواية “قياموت” وفي عشرين فصلاً كانت القيامة العراقية حاضرة سواءاً بوقائعها أو بمسمياتها اللفظية “سوق القيامة” أو”صعاليك القيامة” أو”طيور القيامة” أو”مسيرة القيامة”.وكل مافعله الروائي نصيف فلك انه استثمر فسحة الحرية التي كانت تعاني منها الساحة الثقافية والادبية العراقية بعد 2003 لينسج” Panoram ” مشهدية وبتقنيات سردية مبسطة غلب عليها الاستخدام المفرط للغة اليومية”يحوص،يعالج،اندحست، يتجعبن، أمداني، سنين يابو سنين، باكت هوى، نشغة مصيبة…” وتحويل اليومي إلى سحري بملامسة شفافة لاتترك إلا الاندهاش في مخيلة القاريء حيث ترك الروائي نصه السردي ينساح بكل تلقائية ليعبر عن نفسهن وربما حاول الروائي نصيف فلك من خلال اسلوبه السردي الذي هيمنت عليه لغة الشارع العراقي أو”اليومي” أن يقوم بدور المترجم الذي عليه أن يمهد الطريق ويزيل المعوقات ما بين المحكي والمكتوب كما يذكر”مابين ىاللغة المحكية واللغة المكتوبة، صحراء مقبرة من الرطانة، نحن بحاجة إلى مترجم فذ ينقل لنا اللغة المكتوبة الى محكية بدون خسائر كبيرة.255″. ولقد أدى الروائي نصيف فلك هذه المهمة بنجاح باتباعه السلاسة ومحاولة الاقتراب أكثر مسافة ممكنة من شخصياته، كما في حواراته مع دخان وهندي الحلاق وشقيقه عناد، وكذلك في المرويات المحكية التي سردها على لسان الاخرين مثل عاهرة الميدان، او زوجته حورية.

ولم يترك الروائي نصه وما حفل به من أحداث مروّعة دون أن يقطعه هنا وهناك بما كان يدور بخلده من تساؤلات عما حدث ويحدث”من المسؤول عن هذا الدمار الشامل؟.213″أو في تساؤل آخر”من يوقف مسيرة هؤلاء الناس نحو الدمار.219″ ليقدم للقاريء ما يراه الحل في تجاوز محنة “قيامة الجنون” وهو “المرأة” ذلك النصف الانساني الذي بقيّ مغيباً ومُتجاهلاً في حياة العراقيين لعصور طويلة”الانثى، مغناطيس للضيم والكرب والحزن، دمعتها

بطرف عينها منذ الطفولة الى الموت.217″ فبهذا الكائن المُستلب يمكن اصلاح المجتمع والعبور به من فوق محرقة المحنة”لايمكن كنس العقل وتنظيفه إلا من خلال الأم ومن خلال المدرسة والبيئة والمجتمع، ولكن كيف اذا كانت جميع هذه المراحل تنتج مزابل روحية، كيف سينمو العقل وتتعافى الروح وسط هذه القذارة والأوساخ؟ص231″. في النهاية لابد من ثورة روحية، ثورة عارمة ُتفجر كل مكنونات الغضب العراقي، ثورة يُعبر عنها باللسان واليد والمسير الطويل، وحتماً لن يكون شعارها”الشعب يريد القيامة الان”بل صرخة مدوّية لإسقاط كل آلهة الرعب، التي جثمت على صدور وعقول العراقيين وادخلتهم في متاهة “جنون القيامة”.

أحدث المقالات