يحكى أن جيشاً أراد احتلال مدينة محصنة، فوقف قائد الجيش عند أطرافها، وأرسل حراسه يستقصون أخبارها، فوجدوا شيخاً كبيراً يحتطب على حدود المدينة، يرافقه غلام شاب جميل، فقالوا له: أخبرنا عن بلدك وكم عدد جيشكم، وكيف نستطيع الوصول الى مراكزها؟ وأين هي منافذها وخيراتها؟! قال الشيخ: سأخبركم بشرط أن تقتلوا هذا الفتى، قبل أن أقول لكم أي شيء، لكي لا يكون شاهداً على ما سأقوله، فقالوا: لك ذلك، فأخذ أحدهم السيف وقطع عنقه، فسال الدم على التراب، وتشربت التربة بدمه، والشيخ ينظر الى الأرض، وهي تشرب روح الشاب.سكت الشيخ قليلاً، ثم قال لهم:
أتدرون مَنْ هذا الذي جعلتكم تقتلوه، فقالوا: أنت أعلم به منا، فرد الشيخ: هذا ولدي، خشيتُ أن تقتلوني أمامه، فتنتزعون منه ما تريدون من أسرار بلدي، ففضلتُ أن تقتلوه على أن ينطق بحرف واحد، يساعدكم في غزو وطني. ترك الجنود الشيخ محتضناً ولده، وعادوا أدراجهم، وقصوا للملك حكاية الشيخ وما جرى عليه، فقال الملك: أعيدوا الجيش وإنسحبوا من هناك، فبلدة يضحي الآباء بالأبناء لأجلها، لن نستطيع غزوها، وان غزوناها فلن ننتصر على سكانها، إنه الإيثار وإنها العقيدة والكرامة، هو ما يمتلكه هؤلاء الناس في المدينة، دعونا نرحل، لنجد بقعة ممزقة نمزقها أكثر فأكثر، بقعة يلهث أبناؤها وآباؤها وراء الدرهم والدينار.ربما من يقرأ هذه القصة، يتصور أنها لن تتكرر، إلا في القصص الخيالية، أو من حكايات ألف ليلة وليلة، ولكن للواقع قول آخر ورؤية ثانية، عندما يكتب العراق روايته على الطريقة العراقية، ففي بلدي المئات مثل هذه القصص، بل أصبحت روايات كبيرة حزينة، فمنهم مَنْ ضحى بأكثر من ولد في سبيل الأرض، والعرض، والمقدسات، فحب البلد ليس أقل من حب الخالق الجبار، فمَن أحب ربه أحب أرضه، وصان عرضه، وحفظ مقدساته.كانت التضحيات ومعارك التحرير خير دليل، على عمق الولاء والوفاء للعراق العظيم، وحبهم للحرية وكرامة الإنسان، حين إستشعر رجاله الأوفياء الخطر، فأعلنوا الجهاد وضحوا بكل غالٍ ونفيس، فقدموا شهداء بطريقة تفوق التصور والخيال، حينها سكتت شهرزاد من عظمة الرجال، الذي سيحكي عنهم التاريخ، وكتبوا روايات كبيرة وجميلة، بحجم تضحياتهم وإخلاصهم، لهذه الأرض الطاهرة المطهرة، حتى عجزت الكلمات عن وصف معاني الإيثار والتضحية، من أجل عراقٍ واحدٍ حرٍ أبي.ختاماً: رسمتُ الضحكة في شفاه الصبايا فما رُسمت … ورسمتُ الدمع في عيونِ الثكلى فإنسكبت!
حتى إمتزجت الدمعة مع الضحكة في عراق اليوم، والى أن نفرق بينهما، سيبقى الحزن محبوساً بلا قيدٌ في قلوبنا، حتى يتم الخالق الجبار، ما يسعى إليه الأبناء الأبرار لعراق الإباء، وهو تحرير أرضه من براثن الدواعش الأنجاس، حينها سنرسم ضحكة بحجم العراق الطاهر، وجمال شلالاته الرائعة، وإخضرار بساتينه، ورقة أهواره ومضايفها، وكرم أهله وصفاء قلوبهم.