للكاتبة العراقية انعام كجه جي
ألارتهان إلى تقانة الّسرد الموضوعي
إستبعدت كجه جي التسلسل الزمني التقليدي والترتيب المنطقي لسرد الاحداث،فتعاملت مع مفردة الزمن باللجوء الى وجهة نظر إسترجاعية افتتحت بها روايتها،انطلاقا من نهاية حكايةٍ لم تبدأ بعد فجاء هذا الإجراء التقني ملائما لتشكيل حبكتها،متخلية بذلك عن تقنية حلِّ العقدة،في مقابلِ إبقائها مُعلقةً،والأخذ بها نحو الانفتاح الدائم،كما يشير الى ذلك الناقد جيرار جينيت في كتاب(نظرية السرد من وجهة النظر إلى التبئير):”وصف يتمُّ مِن وجِهةِ نظرٍ تقعُ خارج العمل الأدبي نفسه بالنسبةِ للزمن الداخلي لهذا العمل،وبنظرةٍ آتيةٍ مِن المستقبل”.
إنَّ (كجه جي)في عملها هذا، مالت إلى ترجيح خيارٍ فنيٍ شكَّلته مجموعة شبكات متراكبة ومفتوحة على بعضها البعض،بالشكل الذي يضع القارىء في طقس من التلقي/المتأمل،يأخذ شرعيته من خلخلة صورة التلقي بسياقها التقليدي،لصالح شكل آخر،ليس فيه إشارةٌ واضحة تحددُ بدايةَ ونهاية العمل الروائي،وهذاماأعطى القارىءحرية واسعة لأنْ يختار حسب رؤيتهِ نقطة بدايتهِ ونقطة نهايتهِ،مثلما كان للمؤلفة حريتها اثناء عملية الكتابة في اختيار نقطة البداية ونقطة النهاية.
ورغم ماحفلت به بعض أحداث رواية(طشاري)مِن آلياتٍ ميلودرامية بعيدة بشكل ما عن اجتراحات الاعمال الروائية التي يتوغل بناءها السردي عميقا في أركلوجيا البنية السردية إلاّ أن ذلك لم يضعف بنيتها أويثقل عملية التواصل والتفاعل مع القارىء أياً كانت تركيبة ذائقته السردية. ضمن هذا الفهم،الذي نجد انفسنا مرتحلين به يبدو لنا أنَّ سياق المعالجة الفنية ــ وفق هذه الرؤية ـ بات يشكل مفردة واضحة في تركيبة عالمها
الروائي،إذْ لم تحاول كجه جي ـ على مايبدو ذلك من السياق الفني العام للبناء ــ أن تبتعد عنه وعن محدداته الواقعية،ولم تخرج به عن حدوده ومحدوديته،ولاأنْ تجرِّب التحليق بعيداً في عالم تصنعه افتراضات واحتمالات المخيلة،وذلك عبر إستثمار طاقة التخييل لصنع واقعية أخرى مقابل واقعية الواقع،بل اكتفت وعبر الإرتكان الى تقانة السرد الموضوعي ــ وهي تؤثث عالمها الروائي ــ أن تنهل من واقعية الواقع .
كما هي عديد الروايات التي صدرت في العراق خلال الاعوام العشرة الاخيرة،والتي شكلت في مسارها الحكائي العام مواجهة فنية لتراجيديا الحياة العراقية بتنوع صور انهياراتها وانتكاساتها،تأتي رواية طشاري ــ هي الأخرى ــ لتبديد بقعة شديدة الظلمة في مساحة العتمة التي تمتد على طول البلاد وعرضها نتيجة مااصابها من تدمير بفعل الاحتلال الاميركي عام 2003 والذي بسببه استحالت العلاقات الاجتماعية مابين مكوناته الى صورةٍ مُرعبةٍ قوامها التشظي والتفتت،وفي خضم هذه الفوضى،لم يعد من السهل التكهن بعودتها الى ماكانت عليه من صور الألفة والتعايش والتسامح،هذه القتامة في تفاصيل الصورة بكل انشطاراتها وتداعيتها بدت منعكسة بشكل واضح في حبكة الرواية.
النص الحكائي
(ورديّة اسكندر)طبيبة شابة نحيلة خجولة،لم تكن تعرف مدينة أخرى غير مدينة بغداد قبل العام 1954،تذهب بها قرعة التعيين بعد تخرجها من كلية الطب ذاك العام الى مستشفى مدينة الديوانية في جنوب العراق.ودون أن يكون ذلك وارداً في حساباتها تقضي ربع قرن من عمرها في الديوانية،قبل أن تعود إلى بغداد،وهناك في الديوانية،ستلتقي بمن سيكون شريك حياتها،الطبيب جرجس،ولتنجب منه ابنائها،برّاق وهندة وياسمين.
خلال رحلتها الطويلة التي قضتها داخل مجتمع غريب عليها ــ ديانةً وثقافةً وطقوساً ــ بحميمية وتفاعل كبيرين،ستشهد تحولات جذرية في وعيها الذي شكلته مفاهيم الطبقة الوسطى بثقافتها المدنية المنحازة للتحرر والتحضر والانفتاح على العالم،وبقدر ماتتسم البيئة الجديدة من بساطة
ودفء وعفوية،بقدر ماتختزن فيها عادات وتقاليد واعراف دينية واجتماعية ثقيلة تقمع بقوة وعنف عواطف ومشاعر الانسان،ومامن سبيل للخلاص من سلطتها:”مدينة هادئة ومتقشفة ومحافظة وتشبه شخصيتها. مضت اليها،أول مامضت،بكثير من التهيّب،وكأنها تنهض من مهد ميلادها وتسير إلى نعشها.كل ماعاشته قبل الديوانية قشرة بصل،وكل ماستعيشه فيها سيمدُّ جذوراً ويرسخ وينمو ويتفرع ويخضوضر ويبرعم ويطرح الثمار ” .
(ورديّة)التي فضلت البقاء وحيدة في العراق،بعد مغادرة إبنهاالمهندس برّاق إلى إحدى مدن البحر الكاريبي بسبب عمله،وابنتها هندة الى كندا، وابنتها الصغرى ياسمين الى دبي،مُرغمة تترك بلدها العراق،بعد أن تخطت أعتاب العقد الثامن من عمرها،لتحطَّ بها رحلة اللجوء بكل مشقاتها في مدينة باريس،مُقيمة ولفترة مؤقتة ــ قبل أن يتم نقلها الى سكن خاص بها ــ في شقة إبنة شقيقها التي تعيش مع زوجها وابنها الشاب اسكندر :”ظلت تأمل أن يجتمع شملهم في مكان واحد،بلد واحد أو حتى قارة واحدة،ودحضت كوابيس الليل آمال النهار.وهي قويّة وحكيمة ومجربة ،لكنها أضعف من أن تضبط عقلها اللاوعي.لايمكنها أن تبرمج الأحلام والمنامات “.
مقبرة الكترونية
(اسكندر)يدرس في المرحلة الثانوية ولايعرف شيئا عن وطن اباءه واجداده،يبتكر مقبرة الكترونية في حاسوبه الشخصي،يُلملم فيها عظام العراقيين:”من مقابر الخليج والشام وديترويت ونيوزيلندا وضواحي لندن وينفخ فيها من موهبته لتستريح في أرض محايدة.يجمع شمل الرجال والنساء الذين وضعوا الرؤوس على مخدة واحدة لعقود من الزمان ثم تفرقوا وهم أموات في الترب الغريبة،طواهم طير اليبابيد الذي حلّق فوق العراق ورماهم في بلاد الله الواسعة “. يكبر اسكندر بأسرع مما تتوقع والدته وهو يصغي لأحاديث(ورديّة)عمّة والدته،أثناء مايجمعُ عظام الموتى بعد أن فرقتهم الحروب والمنافي والعنف الطائفي،يرسم لهم اضرحة، وينحت لها الشواهد،ويزرع حولها ازهاراً تختارها كل عائلة لميّتها.كما
يرفق معها صور الموتى مع موسيقى واغنياتٍ كان الموتى يحبونها.ورغم إعتراض البعض من المهاجرين على فكرة المقبرة الالكترونية “إذ عدّوها مخالفة للإيمان إلاّ أن الكثيرين تحمسوا لها ووجدوها حلا سحريا ولطيفا لمواجهة الشتات .”
تبدو فكرة المقبرة الألكترونية اشارةً تحملُ في مدلولها معنىً تشائميا،وكأنّ المؤلفة(كجه جي)أرادت من خلالها أن توصل فكرة مفادها:إستحالة العودة الى الوطن في الواقع،حتى لو كان العائد جثةً،إلاّ إذا كانت العودة افتراضية في مقبرةٍ افتراضية.بنفس الوقت هي تحمل اشارة أخرى مضادة في المدلول توحي بتفاؤلٍ يتم تمريره برشاقة ونعومة،شيئا فشيئا،عندما نجد اسكندر يسقط هو الآخر:”في فخ السلالة،وصار خبيرا في العمَّات والاعمَام والاجداد والراحلين.واكتشف تفاصيل مُسلية عنهم وهو ينحت قبورهم ويسطِّر العبارات اللائقة على شواهدها “.إسكندرالذي لم يكن يعرف شيئا عن عائلة أبيه وأمه قبل أن تحل ورديّة ضيفة في بيتهم.
احتفاء بالمرأة
خطاب الرواية يفصح عن نبرة احتفاء واضحة بنماذج متنوعة للمرأة العراقية،بمستويات طبقية وبيئية متباعدة تتوزع مابين شخصية الطبيبة(ورديّة اسكندر)وشخصية المرأة الأميّة المعطاء(بستانة)القادمة من جنوب العراق والتي تتولى إرضاع بنات الطبيبة ورديّة والاهتمام بهن وكأنهن بناتها،كذلك شخصية(شذرة العلوية)التي لها حظوة وسطوة في مجتمعها القبلي بما تملكه من قدرة على كشف المخبوء،هذا إضافة إلى نماذج أخرى ثانوية تمرُّ مروراً عابراً بعد أن تترك تفردها الانساني في بيئة قاسية،كماهي شخصية تلك الفتاة العذراء التي لم تبلغ العشرين من عمرهاوهي حامل بشهرها الثامن بشكل غير شرعي من حبيبها،وهنا عبر هذه الشخصية نجد المؤلفة قد نجحت في أن تقدم لنا نموذجاً جسوراً لفتاة في اوضح صورة للتمرد على التقاليد والاعراف عندما ترفضُ أنْ تَقمَعَ شبابها وأنْ تَعتَرِفَ بخطيئتها،وهنالك ايضا شخصية الفتاة المذعورة التي ترتدي حزاما مفخخاً وتدخل به عيادة الطبيبة وردية وهي ترتعش،فتقبضُ على ذراعي الطبيبة باصابع متخشِّبة متشبثة بحلاوة الروح،متمردة على
موت مُبرمج،وهي توشكُ أن تتهاوى على الأرض وترددُ مستنجدة بها:”ماأريد أموت..ماأريد أموّتكم وأموت”.
ألابتعاد عن الأنماط
الرواية قدمت لنا شخصيات مختلفة ومتنوعة تنبض بالحياة من غير الشخصيات الرئيسة،إبتعدت كجه جي في بنائها عن الصورة النمطية، فجاءت مبنيّة بشكل عميق ومؤثر،متجاوزة في تقديمها وصف الوضعية الخارجية،بل انساقت في رسم ملامحهاالداخلية،كما هو الحال في شخصية(بستانة)المربية القروية التي تتولى مسؤولية الاهتمام بأبناء الطبيبة(وردية)كذلك شخصية الطفل الفلسطيني(غسان)ذي الاصول الافريقية،وشخصية(فرنجية)اللبناني رئيس صحة الديوانية،وشخصية(أبو يعقوب اليهودي) صاحب معمل الطابوق في الديوانية.
ولعل الشخصية الأبرز من بين النماذج النسائية التي حفلت بها الرواية الطبيبة(هندة)إبنة الطبيبة ورديّة اسكندر،من خلالها كشفت المؤلفة جوانب عميقة في تركيبة المرأة العراقية وهي تتابع رحلة كفاحها لإثبات كيانها الانساني وتفوقها المهني في قرية نائية تابعةٍ لمدينة مانيتوبا الكندية وسط محميّات السكان الأصليين من الهنود الحمر،الذين جاء حضورهم في الرواية ليشكل معادلاً رمزيا لسكان العراق الاصليين من المسيحيين بعد أن تعرضوا لعمليات قتل وتهجير منظم،بسببها تناقص عددهم بشكل خطير الى الحد الذي باتوا فيه أقرب إلى أن يكونوا صورة تراثية ــ كما هو حال الهنود الحمر ــ إن لم يكونوا أقرب إلى الإندثار .
صفحات الرواية التي وصلت إلى 251 ص حاولت فيها كجه جي أن تَكتشِفَ وتكشِفَ طبقات عميقة لأنطباعتها الذاتية أزاء لحظاتٍ مهمةٍ من تاريخ العراق المعاصر،تبدأ منذ مطلع ثلاثينات القرن العشرين وحتى العام 2013.بما حفلت به مِن تقلبات سياسية وتحولات إجتماعية.
اخيراً،عنوان الرواية(طشّاري)قد جاء دلالة على تناثر وتشتت افراد عائلة الطبيبة المسيحية العراقية(وردية اسكندر)في بلدان وقارات مختلفة،خلال
الاعوام التي أعقبت سقوط بغداد تحت الاحتلال الاميركي عام 2003:” تطشَّروا مثل طلقة البندقية التي تتوزع في كل الاتجاهات ”
منشورات دار الجديد/ الطبعة الاولى