تعتبر هذه الرواية الثالثة للكاتبة العراقية ( انعام كجه جي ) الاولى رواية ( سواقي القلوب عام 2005 ) والثانية رواية ( الحفيدة الاميركية عام 2008 ) , وقد صدرت رواية ( طشاري عام 2013 . عن دار الجديد , بيروت ) وهي تروي بلهفة الشوق والمرارة الحزينة . عما يكتنفها من احداث موجعة مرت على تاريخ العراقي السياسي , من الهدوء والتعايش والامان , الى عواصف المدمرة , التي تجرعها الانسان العراقي , وخاصة الاقليات الدينية ومنهم المسيحيين , فهي تتحدث عن ثلاثة اجيال متعاقبة , اختلف لكل منهم بالهموم والهواجس والمعاناة , ضمن المناخ السياسي وتحولاته الانقلابية , من بلد رمز التسامح الديني , الى بلد رمز التعصب الديني والغاء الاخر , ومن بلد رمز التعايش السلمي بين مكوناته واطيافه الدينية والمذهبية والطائفية , الى بلد رمز الاحتراب والانشقاق والتناحر والانقسام في مكوناته واطيافه , مما فجر مظاهر التشتت والتبعثر والتفريق , الذي تحمل العبء الاكبر الاقليات الدينية ومنهم المسيحيين في الهجرة والغربة خارج العراق , بالهجرة القسرية , وتحول الدولة العراقية الى دولة الجماعات الدينية المتطرفة والمتشددة , وبلد تحكمه ( حواجز وسيطرات تفتيش طائفي , والطلقة بفلس ) ص176 , وضاق العراقي مرارة الغربة والشتات في بقاع العالم المختلفة , ومنهم عائلة الطبيبة ( وردية اسكندر ) لينتهي بها المطاف اخر عنقود من العائلة ظلت تتشبث بالبقاء في العراق , لكن الظروف دفعتها قسراً . ان تشد الرحال الى فرنسا , هذه التحولات الانقلابية في المجتمع العراقي , تسير عليه خطى احداث الرواية , ولتوضيح المشاهد الكاملة لهذه المعاناة , استخدمت الروائية اسلوب التقطيع في المونتاج السينمائي , ومن خلال استحضارات ومضات الماضي ( فلاش باك ) وبما تحمله خزين الذاكرة العراقية طوال ثماني عقود , من خلال شخصية الرواية المحورية الطبيبة ( وردية اسكندر ) التي دفعها القدر الى الهجرة ليحط بها الرحال في فرنسا .
بداية الرواية :
تبدأ في وصول الطبيبة العراقية ( وردية ) ذات العقد الثامن وشبه مقعدة ,الى قصر الاليزيه ( القصر الرئاسي ) ضمن الدعوة الموجهة الى اللاجئين المسيحيين العراقيين , على شرف زيارة قداسة بابا الفاتيكان ( بيديكتوس ) بدعوة من الرئيس الفرنسي ( نيكولا ساركوزي ) , وحين تدخل الى داخل قصر الاليزيه , ياخذها من يدها الرئيس الفرنسي ويساعدها في المشي ليقدمها الى قداسة بابا الفاتيكان , تلك اللحظة الانفعالية المضطربة والمرتبكة , تشوقت بلهفة ان يكون بجانبها زوجها المرحوم الدكتور ( جرجيس ) , ثم تبدأ انثيالات احداث الرواية من هدوء العاصفة , الى الى حالة العواصف المجنونة والعاتية , من خلال سيرة حياتها الذاتية بالتشويق الروائي , حين بعثر الدهر اللعين اولادها الثلاثة ( هندة وبراق وياسمين ) في شتات الغربة والاغتراب , كأنها عملية تقطيع اوصال الجسد , او حسبما تقول باللوعة المريرة كأن ( جزار تناول ساطوره وحكم على اشلائها ان تتفرق , في كل تلك الاماكن , رمى الكبد الى الشمال الامريكي ( هندة ) وطوح بالرئتين صوب الكاريبي ( براق ) وترك الشرايين طافية فوق مياه الخليج ( ياسمين ) . اما القلب فقد أخذ الجزار سكينه الرفيعة الحادة , تلك المخصصة للعمليات الدقيقة وحز بها القلب رافعاً اياه , باحتراس من متكئه بين دجلة والفرات , ودحرجه تحت ايفل , وهو يقهقه زهواً بما اقترفت يداه ) ص17 , هكذا حطت رحالها في فرنسا بعد الاحتلال عام 2003 , وبتحول العراق الى ( بلد مدسوس بين فكي الشيطان ) في تمزيق الموزائيك العراقي , الذي عرف وذاق طعم التعايش والتسامح لقرون طويلة في الحقب التاريخية التي مرت على العراق . نتعرف على نبذه السيرة الذاتية للطبيبة ( وردية اسكندر ) بانها مولودة في مدينة الموصل , واكملت دراستها في كلية الطب في بغداد , في التخصص في الامراض النسائية والولادة , ثم التعيين في مدينة الديوانية , التي عرفت بالانفتاح الديني والتعايش بين الاهالي دون المسائلة عن الدين والمذهب والطائفة والمعتقد , هكذا حظيت الطبيبة المسيحية التي جاءت بمفردها من بغداد , بالحب والاحترام والتقدير , وانسجمت بشكل كلي بالاهالي والمجتمع بالعلاقة الوثيقة , حتى صارت معروفة والكل يعرف اسمها ( يقف سائق سيارة الاجرة في كراج الديوانية , ويصيح . دختورة وردية , بعد ثلث ركاب ونقبط .. دختورة وردية …. ) ص23 . هذا الاحتضان الشعبي دفعها الى الاندماج الكلي بالاهالي , ورغم انها مسيحية مؤمنة بيسوع وشفاعة مريم , لكنها ( تحضر القرايات على الحسين في عاشوراء . كان الامر طبيعياً في الديوانية لصداقتها مع العلويات ) ص 171 . وظلت تتردد على المواليد سواء في الديوانية , او اثناء وجودها في بغداد التي تقيمها جارتها ام محمد . وكذلك علاقتها الوثيقة مع العلوية شذرة , من احد وجهاء مدينة الديوانية , هذا الاطمئنان الروحي ساعد على الاستقرار النفسي والمساعدة المتبادلة , حتى تترك لااطفال الرضع بايدي القرويات للرضاعة والرعاية والتربية , حتى نشأ ابنها ( براق ) وحتى حين كان صغيراً كان يشترك في المواكب الحسينية وضرب الزنجيل ( مسيحي ويضرب زنجيل , الله الله الله اكبر )ص234 , بهذه الشفافية من التسامح الذي كان عنوان العراق العريض , في صورته المشرقة من التآلف والانسانية , لذلك تكرر العبارة الدائمة مع نفسها بان ( كل ما عاشته وردية قبل الديوانية . قشرة بصل ) اضافة الى الصورة الاخرى المزروعة في القلوب بحب الوطن والتفاني له , وتتحدث ( وردية اثناء وجودها في المدرسة الثانوية , في العهد الملكي ( كان في صفها اربع طالبات مسلمات واثنتان مسيحيتان , وسبعة عشرة يهودية , وانها مكلفة بجمع التبرعات لضحايا المظاهرات , من الطلبة الجرحى برصاص الشرطة , لاتتأخر في الذهاب الى اليهوديات فيتبرعن مثل الاخريات ) ص81 . . وتتزوج ( وردية ) من الطبيب ( جرجيس ) الذي يعيش في مدينة الديوانية , الشاب المسيحي المتفاني بحب الوطن العراق وفلسطين . ثم تنهال الاحداث الرواية المقترنة بلهيب الاحداث السياسية التي مرت على العراق من العهد الملكي , الى الى العهد الجمهوري , الى دخول العراق في حالة الاضطراب السياسي العنيف , في اشعال النار والقيام القيامة ( الدبابات تحركت من معسكراتها , ومضت للسيطرة على اذاعة بغداد وتحويط القصر الجمهوري ( قولوا معي .. قولوا معي . الله الله الله اكبر , فلا يبقى مكان للشك , بان البيان رقم واحد , دائما ذلك البيان المسعور رقم واحد , وبعدوه ينهمر الرصاص , وتتبدل السحنات وترتجل المحاكمات وتنصب المشانق , وتصل الدماء الى الركب ) ص35 . ثم الغزو العراقي الى الكويت , وتبعيات الحصار الدولي , حتى الانزلاق الى اعماق الهاوية السحيقة الى الاحتلال , وتفجير العنف الطائفي والخراب العراقي , من قبل الجماعات الدينية المتطرفة والمتشددة , حتى وصلت الاحزمة الناسفة الى عيادة الدكتورة ( وردية ) التي ظلت اخر عنقود من العائلة ترفض الهجرة والغربة خارج العراق , ولم يبق لها سبيل من هذا العنف الطائفي والديني المسعور , الذي اصاب ابناء العراق من الاقليات الدينية ومنهم المسيحين , الذين وجدوا انفسهم غرباء غير مرحب بهم في وطنهم العراق .
المقبرة الاكترونية :
هي لعبة روائية ذكية في مغزاها في رواية ( طشاري ) في الاقرار بان هذا التشتت والتبعثر لعائلة ( وردية ) لا يمكن ترميمه بلم الشمل شجرة العائلة , من خلال هذه البعثرة في بقاع العالم المختلفة , لذلك قام ( اسكندر ) ابن بنت اخيها , المولع ( بالانترنت ) في اختراع المقبرة الاكترونية الافتراضية , بجمع شتات العائلة في مقبرة افتراضية واحدة , لاشك هذه الفطنة من الكاتبة زادت من جمالية الرواية بتقديم شيء لم يخطر على بال احد , وانشداد القارئ الى المتابعة بالانشداد والتشوق المطلوب.