23 ديسمبر، 2024 7:04 م

للكاتبة جنى فواز الحسن
تداعيات الماضي بحثاً عن الذات والوطن والهوية .
منشورات ضفاف /منشورات الاختلاف

الطبعة الاولى 2014

رواية مرشحة عن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية

عتبة المدخل

“ربما ليس الوطن مكانا ولكن شرطا لايمكن انكاره” جيمس بالدوين .

اختارت جنى الحسن هذه الجملة لتكون عتبة اولى قبل الدخول الى عالم روايتها،مما يفرض على القارىء ان يتوقف عندها،لتكون بمثابة مفتاح دخول الى عالمها السردي .

ماذا يعني الوطن ؟ . .سؤال جوهري يحاصر الشخصيات الرئيسة،كل واحد منهم يسعى من خلال طرحه على نفسه الوصول الى معنى مطمئن يوقف دوامة قلقه وبحثه وهو يمضي في ترحال بعيد يأخذه إلى خفايا الذات والماضي والأمكنة بحثا عن حقيقة الوطن الذي ينتمون إليه،فالوطن هو الحضور الطاغي الذي يسكننا،وهو الذي نهجره،ونهاجر اليه،ونعشقه،ونلعنه،وهو الماثل فينا،والغائب عنا .

بنية الزمن السردي

يقول بول ريكور في كتابه الزمان والسرد”يصير الزمن انسانيا مادام ينتظم وفقا لانتظام نمط السرد،وان السرد بدوره يكون ذا معنى مادام يصور ملامح التجربة الزمانية”. وبماأن الزمن يشكل وعاء تُبنى الاحداث بين تفاصيله،لذا لايمكن الفصل مابين الزمان والسرد سواء في إطار البناء لدى المؤلف او في

اطار تفكيك هذا البناء وتأويله ضمن مسار النقد،فالتلازم يبقى شرطا قائما مابين رواية قصة والطبيعة الزمنية للتجربة الانسانية ــ حسب بول ريكور ــ وعندما نقترب من تفكيك شبكة العمليات التقنية في حركية الحبكة التي ينهض عليها نص هذه الرواية والتي تؤطر جوانب انسانية تحت اقنعتها،فاننا نجد جنى الحسن قد ارتأت ان يكون شكل بناء الزمن ــ الذي سوّغت من خلاله نمو وتطور الاحداث حتى يبدو انسانيا ــ يتحرك مابين الارتداد والاستباق في تداعي الاستذكارات الذاتية للشخصيتين الرئيستين (مجد وهيلدا) وهما تتنقلان خلال الفصول الاربعة للرواية مابين مذبحة صبرا وشاتيلا عام 1982 وبين عام 2000 وكأن الزمن توقف لديهما مابين هذين التاريخين ولم يتحرك. فمَجد كان قد ارتقى بعمله ووجوده ونجاحه حتى أن مكتبه الفخم والانيق يربض في الطابق 99 من احدى ناطحات سحاب مدينة نيويورك وهي علامة على ماوصل اليه من نجاح ومكانة وقوة،كذلك هيلدا،هي الاخرى تعمل في مكتب للأزياء في نفس المبنى،اضافة الى احترافها لفن الرقص الحديث .وكأن أميركا لم تستطع بكل فضاءاتها وحيوتها والفرص الهائلة التي منحتها للدخول الى افاق الحاضر والمستقبل من أن تجعلهما قادران على مغادرة الماضي،ليبقى يلاحقهما ويفرض سطوته على بهجة ونشوة الحب الذي جمعها،بل إن الماضي قد تمكن إلى حد كبير في ان يضع حواجزه واسلاكه ونقاط سيطرته بين مشاعرهما المتدفقة الى حين .

من هنا يأخذالزمن السردي معماريته السيمائية في تشكيل مسار الاحداث عندما يبدأ من نقطة الحاضر ليعود الى الماضي ومن ثم يعود مرة اخرى الى الحاضر،وهكذا تبدو لنا هذه المناورة في هيكلية التصميم لخريط بناء الزمن السردي ،ومحاولة من المؤلفة وهي محاولة لإيجاد معادل شكلي يوحي بما تعيشه الشخصيتان الرئيستان/ الساردتان للاحداث ــ مجد وهيلدا ــ من صراع دائم مع ذاتهما ومع بعضهما ازاء الماضي والحاضر، من هنا كان حضور صوتيهما يتعاقب في بوح متبادل بينهما او مع اصدقائهما ، ليعكس هذا التناوب صورة جيل آخر يقف حائرا ،غاضبا ،متسائلا ،مشككا ، بما ورثه من ماضي .

هذا السياق الفني الذي اعطى بنية السرد خاصيتها على هذه الصورة جاء مستعارا من تقنية المونتاج المتوازي في بناء الفيلم السينمائي “القت بجسدها على فراشها الأول،وأغمضت عينيها للحظات.كان مجد في سريره ايضا،مغمض العينين يحاول أن يجتاز المسافة ليتوحد بها،سريران منفصلان،ورجل وامرأة وحلم.ماعجز عن قوله لها هو كم أحبَّها،ومالم تقله له،هو أنها ستشعر بأن المكان يضيق من دونه،بأنها ستمد أصابعها في الفضاء لتلتقطه وتشده إليها،ولن تجده” .

المتن الحكائي

عام 84 يصل الصبي الفلسطيني مَجد الى اميركا برفقة والده بعد رحلة هروب من جحيم مجزرة صبرا وشاتيلا التي حدثت عام 82 في لبنان ضد اللاجئين الفلسطينين المقيمين بهذين المخيمين.ثم تلعب الصدفة دورها في أن تنشأ علاقة حب حميمة في منتصف تسعينات القرن الماضي بين مجد الذي اصبح شابا في منتصف العشرين من عمره،وهيلدا الشابة المسيحية اللبنانية،عندما سمعها تتحدث بالهاتف في مدخل المبنى الذي يتمركز فيه مكتبه في الطابق 99 لصنع العاب الفديو وهذا ماشجعه على الاقتراب منها ليسألها من اين اتت ؟ وليعرف انها لبنانية ولتعرف انه فلسطيني ” لم أكن مُعتادا على الحفاوة التي كلمتني بها،ولاأعرف لماذا فعلتْ ذلك،شجعني الأمر على دعوتها لارتشاف القهوة “.هذه العلاقة لن يعكر صفوها سوى التاريخ،سوى الماضي،بحروبه،بعبثيته،بتداعيات مآسيه التي تحملها ذاكرتهما عن الحرب اللبنانية التي كانت قد ابتدأت في منتصف سبعينات القرن الماضي،والتي استمرت اكثر من 15 عاما،خاض فيها حزب الكتائب مواجهة عسكرية شرسة ضد الفلسطينين،لانهم وحسب قناعة الحزب الذي تنتمي له عائلة هيلدا يتحملون جزءا كبيرا من مسؤولية ماجرى من دمار في لبنان .

وتحت تأثير الماضي على هذه العلاقة،يتشكل في داخلهما دافع قوي لإ عادة التفكير والبحث في ماهية العلاقة التي تربطهما مع الماضي والحاضر،مع اميركا،مع الوطن .

مجد:”أعتَرفْ بأني لمْ أشعر بحنين جارف إلى موطني سوى بعد تعرفي بهيلدا، وجدتُ نفسي أروي لها تفاصيل كنتُ أنا نفسي غير مدرك لوجودها في ذهني ..كنت استرجع زوايا والوانا ظننت انني دفنتها الى غير رجعة،ولكن حتى لون ثوب خالتي الاسود،ووشاحها الابيض كنت استطيع أن ارى قماشه كأن الزمن لايزال هناك ” .

مواجهة الماضي

ورغم ألنفوذ الكبير الاجتماعي والسياسي الذي تتمتع به عائلة هيلدا حتى ان والدها يتم ترشيحه لمنصب وزاري،إلاّ أنها اختارت ان تكون حرة في خياراتها،المرّة الاولى عندما تغادر لبنان بارادتها الى اميركا بحثا عن ذاتها في عالم الرقص الذي ستدرسه هناك.والثانية عندما تعود الى لبنان بحثا عن ذاتها بين ركام الاحداث والحكايات المكدسة في ذاكرة المكان والشخصيات التي كانت جزءا من الماضي الذي يمشي ورائها وكأنه ظلها،والثالثة عندما تقرر مغادرة لبنان للمرة الاخيرة والعودة مرة أخرى الى اميركابعد أن ادارت ظهرها للماضي بكل اكاذيبه عائدة الى حبيبها ،إلى من اختارته أن يكون حاضرها ومستقبلها .

هيلدا :”عندما تقرر أن تدوس الأرض،التي ولدت فيها،بعد غياب طويل،يتطلب الأمر شجاعة قصوى.انت لاتعود إلى ذاكراتك فحسب،بل تنبشهابحثا عن الصواب والخطأ فيها.كانت تلك علّتي طوال عمري،عدم قدرتي على التسليم للأشياء كما هي .ربما لو استطعت أن اكون هذه الأنا المُفترض أنْ أكونها،لكانت الأمور أسهل بكثير .ولكن أقول مُجددا ربما “.

الكراهية ضد الفلسطينين، تلك التي زرعها والد هيلدا في ابنته مُذ كانت طفلة لم يكن من السهل محوها رغم ابتعادها عن العائلة واقامتها لمدة سبعة اعوام في اميركا،لذا كان عليها ان تبذل جهدا حتى تزيح ماضٍ ثقيل عبَّأه عندما كان والدها يسرد لها قصص معاركه وبطولاته برفقة عمها جورج وهم يقاتلون الفلسطينين،الذين سيكونون سببا في انتحار عمها ــــ حسب مايزعُم والدها في تفسير قرار الانتحار ــــ بعد أن كانوا قد اعتقلوه عند احد الحواجز وحاولوا ان ينتزعوا منه سلاحه،إلاَّ انه رفض ذلك لأن سلاح المقاتل شرفه فقاومهم وتمكن من قتلهم، ،وعندما عاد الى البيت قرر الانتحار،لانَّه لم يتحمل فكرة ان يكون قاتلا ! !

لم يكن أمام هيلدا من طريقة مُجدية لتصفية حسابها مع ماضٍ ثقيل يطارد علاقتها بمن تعشقه سوى المواجهة معه،هذا إضافة إلى مايضعه الماضي من جدار عال يفصل مابينهما بحجة الدين والهوية الوطنية التي تميزهما عن بعضهما،والمواجهة مع الماضي لن تتم وتكتمل بكل شروطها إلاّ بالعودة الى لبنان،إلى المكان الذي شهد تفاصيل هذا الزمن الذي يسكنها مؤثثا بالدم والرعب..

فالعودة الى المكان/الماضي ماهي إلاّ إعادة اكتشافه من جديد ” إريد ان اعرف لماذا غادرتْ،وهل ستكون يوما عودتي النهائية الى هذه الارض مستحيلة ؟ “.فالعودة كانت بهدف اكتشاف حقيقة الحب العميق الذي يجمعها مع قاتل/ فلسطيني ـــ حسب قناعة والدها ـــ وستكون فرصة لتعرف تماما من هو القاتل؟ ومن هو القتيل؟ ومن هوالجاني ؟ ومن هو المجني عليه؟ .

هيلدا:”كنتُ هنا بسببك يامَجد.كنتُ اريد ان اعرف إن احببتك بسبب جراحك،لأثبت أنّي امرأة حنون ومعطاء،أو إن كنتُ قد أحببتكَ لأننا نحب هكذا من دون أن نفهم السبب.عدتُ ايضا لأنك كنت خائفا من عودتي،لأقول لك انك إنْ قررتَ أن تأخذني مجتزأة،ستكرر السبب الذي جعلني أرحل من هنا في الأساس “.

مَجد لم يكُن واثقا من عودة هيلدا اليه مَرّة اخرى بعد ان اتخذت قرار السفر الى لبنان،كان يشعر بالخوف من هذه الرحلة،لانه كان يدرك مدى الصعوبة التي وضع نفسه فيها عندما ارتبط بعلاقة حميمة مع امرأة مسيحية تنتمي عائلتها الى حزب كان بينه وبين الفلسطينين علاقة عداء معمدة بالدم،وهيلدا كانت “جزءاً من منظومة تنتمي الى السلطة،من قوم عاشوا في مَجدِ العائلة والحزب” فليس من السهل ان تُغتَفَر هذه العلاقة من قبل عائلتها،لذا كان يشعر ان عودتها الى لبنان يعني عودتها الى خندق الاعداء الذين لايمكن لهم ان يتسامحوا مع ابنتهم فيما لو واجهتهم بهذه العلاقة.ولم يكن مَجدْ مدركا أن قرار عودتها الى لبنان كان فرصته هو الآخر لكي تخرج روحه الجريحة من اسر جسد منهك بشظايا حرب مجنونة مازالت تدور رحاها بين النفس والمشاعر والاحاسيس.

” إن الدودة لا تتحول إلى فراشة إلاّ عندما تخترق شرنقتها ” هذا ماكانت تقوله هيلدا دائما امام مجد ،لذا كانت عودتها بمثابة اكتشاف للذات مثلما هي اكتشاف لحقائق الماضي والتاريخ،وذلك بالتعرف على ماهو مخبوء من حقائق تحت حكايات متوارثة ظلت تتردد على شفاه المتقاتلين،وهذا ما يحصل فعلا عندما تكتشف هيلدا زيف الكثير من تلك القصص التي كان يحرص والدها على ان يعيد سردها على مسامعها،كما هي قصة انتحار عمها،لذا ما كان عليها إلاَّ أن تدير ظهرها لماضي ظل يلاحق عواطفها تجاه من احبته،وبعد أن تكون قد انتهت من تصفية حسابها معه تعود مرة اخرى الى اميركا .

مجد هو الآخر كان اسير ماضٍ حمله معه على شكل ندبة ظاهرة في وجهه،وعوَقا في قدمه عندما كان طفلا ،بعد ان اصيب بشظايا قذيفة سقطتت امام بيتهم في المخيم عام 82 قبل بدء المجزرة بدقائق،فما كان من والده إلاَّ أن يحمله ويركض به الى المستشفى تاركا خلفه زوجته الحامل التي لم يرها من بعد ذلك اليوم،لانها قُتلت من ضمن مئات المدنيين الذين حوصروا وقتلوا بدم بارد في المخيم .

والد مجد كان مدرسا في منظمة الاونروا المسؤولة عن اغاثة اللاجئين الفلسطينيين ،إلا انه اختار ان يتخلى عن الوجاهة التي كان يتمتع بها لكونه يعمل مدرسا،ليرتدي ثياب المقاتل بدلا عن اناقة المدرس،وبعد حصول المجزرة وفقدانه لزوجته والجنين الذي كانت تحمله في بطنها،يصاب بالياس والعجز:”كان أبي قد فقد حماسته للقتال ،واينما مشى بدا وكأنه يجر الخيبة وراءه،كأنه هرم في يوم واحد،وازداد عمره اضعاف السنوات بين ليلة وضحاها فيقرر والد مجد التوقف عن القتال،وبات مقتنعا بأن من يقاتل خارج ارضه “مثل اللي عمَّال يفلح ترابات غيره “. لذا يقرر الهجرة بعيدا عن لبنان متجها الى اميركا من اجل ان يحيا مع ولده في بقعة آمنة بعيدا عن الموت والقتال الذي لم يعد يجد فيه املا بالنصر او العودة الى فلسطين،وبعد أن يطمئن على نجاح ابنه في اميركا الذي اجتاز فيها الدراسة الجامعية بنجاح واسس له شركة لتصنيع العاب الفديو،يموت هناك مِن بعد أنْ يحمِّلَ ولدهُ مَجد وصيته بأنْ يعود في يوم ما إلى الوطن ليطمئن على والدته،وكأنها في قناعته لم تمت،ومازالت حية تنتظره،وهي اشارة واضحة الى أن الوطن المُستلب لن يموت في الذاكرة .