18 ديسمبر، 2024 8:01 م

رواية (س ع) الرمزية في دلالات المعنى وتوهجات الانتماء

رواية (س ع) الرمزية في دلالات المعنى وتوهجات الانتماء

لعل رواية (س ع) للكاتب العراقي الدكتور اياد طه والتي صدرت في عمان عن دار الايام ، تطرح نموذجا للعنفوان الثوري في زمن اصيب هذا العنفوان بالشلل التام والعجز الذاتي في مواجهة كل التحركات والادوات التي تمارس لاستباحة الاوطان والشعوب ، ومن جانب اخر فهي نموذج لاظهار قوة الارادة والعزم والاصرار على تحدي مصاعب وظروف الامكنة المعقدة وخيانات البعض المباغتة .

(س ع) رمز لبطل الرواية ، وربما كان هذا الرمز هو تعبير عن ذات الكاتب ، الذي تأمل سيناريو الرواية وبنى احداثها كما لو كان هو (س ع) ولذلك جعل من روايته اقرب الى الرمزية من حيث الامكنة والشخوص ، ومن ذلك تبرز اهمية هذه الرمزية بجعل احداث الرواية تعني كل الاوطان ولكنها لاتسمي الاحداث او الجماعات بمسمياتها وفق فرضية الكاتب التي عنى بها ان كل الشعوب تعرف حقيقة ماجرى ومايجري ، وهي اشارة واضحة للملامة من جهة ، ولايقاظ الضمائر والهمم من جهة اخرى ، مؤكدا ان ارادات الشعوب لن تقهر وحتما ستنهض ذات يوم معززا ذلك بقوله الذي تضمنه الغلاف الاخير للرواية :

” لكن عذرا لكم ايها الواهمون … فقد نسيتم ان الصخر لايلين حتى لو تدحرج الى اسفل الجبل وتبعثرت اجزاؤه وصارت حجيرات ، فالعثرات ماهي الى ثوابت الحياة وحقيقة لابد من تقبلها بهدوء وحكمة ، والزهور لطالما عهدناها حكرا على فصل الربيع .

واعلموا جيدا انكم مهما حاولتم واوجدتم العثرات في طريق من وثقوا بكم ، فهي لن تزيدهم الا قوة وصلابة من الداخل وتجعل منها فوزا عظيما فيما بعد”.

الوطن محور الاحداث

تنطلق احداث الرواية من مكان اسمه وطن ، تعرض الى الاستباحة من قبل جيوش اجنبية اسقطوا نظاما سابقا واستولوا على موجودات هذا الوطن ، وجيء بمجموعات بشرية موالية لتلك الجيوش لتحكم الوطن ، وفق عقائدهم وسياساتهم ومخططاتهم التي سرعان ما عرف اهل الوطن نوايا هذه المجموعات واهدافها والى اين تريد ان تصل ، فعمت الفوضى والارباك وانتشر السوء وتقوضت الحقائق وتحسس الناس الحجم الكبير للخديعة والوهم.

(س ع ) كان من اكثر الذين فكروا بكيفية مواجهة هذا الطوفان الذي دمر كل ما في الوطن ، وهو مازال في بداية عمره الشبابي ، والمتزوج حديثا من امرأة من اقاربه وفي انتظار مولوده البكر ، هو شاب طيب ومتواضع يحب اهل الحي ويحبوه ، وليس لديه اية نشاطات سياسية او انتماءات حزبية منذ نشأته ولحد يوم التغيير ، وهو الى جانب ذلك انسان يتملك مشاعر واحاسيس انسانية ويتعامل بحب ومودة مع الاخرين وتختزن روحه عواطف جياشة تتوازى مع مبادئه الثورية وقيمه النضالية ، كان لديه محل صغير يعرض بضاعته من اجل لقمة العيش ، ويتمتع بعلاقات صداقية طيبة مع اكثر الناس ، ويعيش بشكل هاديء ومتجانس مع الحياة ومستلزماتها ، لكن ثمة متغير كبير قد حصل له عندما فاتحته احدى الجهات الامنية المعنية بشؤون الامن القومي التي تعمل ضد من استباح الوطن وضد المجموعات الارهابية التي انتشرت مستغلة الفوضى التي عمت الوطن وطلبت منه الانضمام اليها ، لم يفكر طويلا ، بل اتخذ قرار الاستجابة فورا وبدأت مرحلة جديدة في حياته كادت ان تودي بها ، في وقت كان يتعرض الى خيانات وتسلكات شائنة من قبل بعض اقاربه وفي مقدتهم نسيبه اخت زوجته الذي غرر به واستولى على تجارته وقدم عنه بلاغات كيدية ليودع في نهاية الامر السجن بعد ان خسر زوجته وابنه واقاربه ، كل ذلك اجج في داخله ارادة النضال للمواجهة والتحدي بعد ان ادرك ان الحياة المقبلة بكل مافيها من مخاطر وربما مهالك هي قدره المقبل ولابد من خوض التجربة التي فسرها ذاتيا على انها من اجل وطن وشعب .

مهمة خارج الحدود

يمضي (س ع) سنتين في السجن ، ليخرج بعدها على اثر تدخلات وتأثيرات من الجهات التي انظم اليها ، والتي كلفته بمهام جديدة تقضي على اختراق المنظمات الارهابية التي انتشرت في البلد وبدأت تفتك بالناس والممتلكات ، وتزويدها بالمعلومات التفصيلية عن نشاطاتها واهدافها ، ويصادف في هذا الوقت تسرب معلومات مؤكدة لتلك الجماعات من ان شحنة من الاسلحة المحرمة دوليا قد تم الاستيلاء عليها من قبل الدولة الجديدة بعد سقوط النظام السابق واصبحت بيد المليشيات المسلحة ، وبحكم علاقاته مع بعض عناصر تلك المليشيات فقد اكتشف ان هذه الشحنة قد تم بيعها لجهة اخرى تابعة لدولة مجاورة ، وخلال تلك الفترة تتوثق علاقته بالمنظمات الارهابية بعد ان تأكدت هذه المنظمات من سلامة موقفه وشدة التصاقه بهم ، الامر الذي اوصله للالتقاء بأحد امراء المنظمات والاعتماد عليه ببعض المهام والواجبات مكتشفا من خلال تلك اللقاءات من وجود اسلحة مدمرة مدفونة ومحصنة بأراضي دولة اخرى لم يسميها الكاتب ، ومهيأة للانطلاق بهدف لتدمير تلك الدولة وزعزعة الامن والستقرار فيها ، وكان (س ع) يوصل كل تلك المعلومات الى جماعته التي كانت تراقب كل الاوضاع عن كثب وتتخذ الاجراءات الفورية لمعالجتها ، ومن بين اهم تلك الاجراءات تكليفة بمغادرة الوطن والسفر لتلك الدولة التي تخبيءالسلاح والعمل على تدميره ، على ان يجري تنسيقا مع المنظمات الارهابية وايجاد الوسائل المقنعة لهم بالسفر من خلال تكليفه ببعض الواجبات ، وهنا تبدأ صفحة جديدة من احداث الرواية.

بعد وصوله لهذه الدولة ، يلتقي وبتنسيق مسبق مع ضابط من جماعته مزروع ايضا في احدى المنظمات ، وتبدأ بينهما احاديث متشعبة حول انجاز المهمة ، وتتحقق له عدة لقاءات مع اعضاء وامراء في المنظمة في تلك الدولة ، ولكي يبعد الشبهات عنه اوجد له صديق الضابط واسمه مصطفى عملا في احدى مكتبات بيع الكتب ، وباشر بالعمل فرحا به واستمر لحين تمكنه من شلااء المكتبة ، وصادف ان يتعرف على فتاة كانت تتردد على المكتبة ، لتتطور العلاقة بينهما وتتحول الى اعجاب ثم حب له من قبل هذه الفتاة والتي تدعى ندى ، وهي من اسرة متنفذة في تلك الدولة ، الا انه تعامل معها كصديقة وانسانة معبرا لها عن كل الاحترام والتقدير ، وفاءا لزوجته وانسجاما مع مهامه الثورية التي يجهل مايخبيء له المستقبل من مفاجأت ، وتستمر لقاءاته بمصطفى وكذلك الحال بأحد امراء المنظمة بعد اعرفوا بوصوله لهذه الدولة.

وفي احد لقاءاته بالامير يكلفه بنقل رسالة الى الخليفة بعد ان تلى عليه جملة من الاجراءات والتعليمات الاحترازية لسلامة موقفه وموقف الخليفة تتضمن الرسالة معلومات من مااسماه العالم حول كيفية صنع السلاح ، واخبره الامير بان مجموعة صواريخ ستنطلق غدا لتدمير احياء في تلك الدولة ، هذه المعلومات كانت بمثابة الصيد الوفير لكي يوصلها الى مصطفى الذي قام بدوره لترتيب خطة مع المتحالفين معه لتدمير منصة الصواريخ والقضاء على الخليفة بعد ان عرف عنوانه من (س ع) .

وبعد انجاز المهمة ينتقل (س ع) لدولة ثانية للبحث عن العالم الذي صنع الاسلحة المدمرة وللالتقاء بجماعته المزروعين في تلك الدولة وترتيب سلسلة من الاجراءات لمواصلة عملهم الثوري ، ويصادف ايضا ان يتعرف على فتاة مقعدة عن طريق ابيها الذي التقاه بموجب توصية من احد اصدقائه ، والذي يساعده في ايجاد عمل في الجامعة لتتاح له فرصة اكمال دراسته العليا في نفس الجامعة ، ومن الصدف غير المتوقعة ان يعرف ان الاستاذ المشرف على رسالة الدكتوراه هو نفس العالم الذي جاء للبحث عنه ، وفي محاولة من الكاتب لتأكيد العمق الانساني لـ(س ع) يستطيع ان يقنع زهرة الفتاة المقعدة باجراء عملية لعلاجها منهيا معاناة اهلها من رفضا المتكرر لاجراء العملية ، وفعلا تنجح العملية وتعود زهرة الى المشي ، وكأن الكاتب اراد ان يذكرنا بموقفه الانساني مع ندى عندما اكتفى بصداقتها واخفى حبه لها لانه يدرك ان ثمة مسقبل غامض ينتظره ، وينهي الكاتب روايته بقتل العالم في بيته والتخلص من الخطر السلاح الذي يعرف تفاصيله هذا العالم .

دلالات الرمزية في النص

الرواية اعتمدت الرمزية الايحائية في النص للتعبير عن المعنى ، وكانت فعلا رمزية مصاغة بأسلوب سلس وبسيط بعيدا عن السفطسائية المعقدة ، والرمزية كانت لها ضرورة في اضفاء طابع التشويق والتصور ، وهي منسجمة مع احداث الرواية كونها مرتبطة بوقائع تستوجب التدخلات الاستخبارية من عدة جهات كان لها فعل ودور في مجمل الاحداث ، ولكنها ـ اي الرواية ـ هي ليست رواية استخبارية مخابراتية كما اشار اليها بعض من كتب عنها ، لأن كاتب الرواية الدكتور اياد وبحكم تخصصاته في القانون والقضاء استطاع وببراعة ذكية ان يوظف العنصر الاستخباري كجزء ملامس للاحداث التي كانت تتحرك في اطار العمل السري وتعدد الاماكن ووسط عدة جماعات متعددة الاهداف والعقائد والنوايا ، وازاء هذا التعقيد في مشهد الاحداث ، امتازت لغة الرواية بالقوة والعمق والاكتناز من خلال توظيف الكاتب لكلمات ترتعش لها النفوس والضمائر وتنفذ الى عمق الوجدان وتستهدف البعد الانساني في الكائن البشري وتدعوه الى الانكباب على التفكير في معاناة الاخرين واحتضان قضيتهم لانها قضية مشتركة .

وتبدو بوضوح رغبة الكاتب في تقديم صورة المناضل المكافح من اجل اهداف سامية عبر الرواية لتكون توثيقا تأريخيا يعكس من خلالها بعمق رؤيته الثاقبة للاحداث بعد صقلها وتشذيبها لتصبح جوهرة تزداد قيمتها مع الزمن ، بمعنى انها جمعت بين العمق الفني مع البعد عن الغموض لان الكاتب ارادها ان تكون مبسطة تخاطب وجدان القاريء العادي بسيط الاستيعاب الى جانب النخبة في ليتحقق من ذلك ضمن حساباته قدرا من التلاحم الجيلي مستقبلا في تعميق القضية وتحقيق الهدف .

” ثمن الحرية سيكون غاليا ، اعرف ، لكن نحن لها ، لنحررابناء امتنا ونخلصها من هذا الخذلان ، وليس نحن مجرد صوت ، احرار الامة معنا ، لن نخضع لاصحاب الهيكل والبرتوكولات في تنفيذ ما يريدون على ارض وطننا الكبير ، ولن نتهاون ابدا مع من باع القضية وانجرفوا واصبحوا اجندات اهل الهيكل ، وعلا صوتهم بسبب هوان امتنا ، ولكن زمجرتنا ، اعدكم ، انها سترعبهم ، وسيعلمون اننا لسنا كالعبيد الذين جعلوهم اسيادا على على امتنا …. ولتكن فكرة ان الموت في سبيل نهضة امتنا هو الخلود “، بهذه الكلمات خاطب ( س ع) مجموعته التي كانت بأنتظاره بعد ان انهى مهامه التي جاء لهذه الدولة من اجلها ، وهم رجال اشداء يبلغ عددهم (313)عنصرا في كامل استعدادهم للنضال والعمل الثوري ، وجرى تقسيمهم لعدة فرق صغيرة مع تحديد واجبات كل فرقة معلنين ابتداء مرحلة جديدة من النضال الثوري ولتبدأ ايضا صفحة اكثر اشتدادا والتصاقا بالقضية من اجل عزة وطن وكرامة شعب .