23 ديسمبر، 2024 9:25 ص

للكاتبة لطفية الدليمي
اشتباك الأزمنة في بنية السّرد
بتسعة فصول تنهض رواية سيدات زحل مستندة على 35 كراسة شخصية تجمعها الصحفية حنان البابلي، وهي سليلة اسرة بغدادية عريقة تمتد جذورها عميقا في تاريخ المدينة الاجتماعي والانساني، والكراسات ماهي إلاّ مذكرات تولى كتابتها عدة شخصيات في المقدمة منهم حياة البابلي وهي الشخصية المحورية الساردة للأحداث وعدد من صديقاتها،واشقائها بالاضافة الى عمها الشيخ قيدار،ترتبط هذه الكراسات بسياق مشترك قائم على استعادة صور الحياة في بغداد عبر كتابات شخصية من بعد أن تشظت المدينة بفعل الحروب التي توالت عليها : ” غدت سماء المدينة سوادا موشحا بلطخات دموية واتخذ الدخان اشكال تهاويل ووحوش وتنانين تقذف اللهب من افواهها وبغداد تتنفس هواء مسموما والناس تشرب من ماء الجحيم وتهرس تحت العقب الساحقة لجيش الغزاة ” .

تقودنا الكراسات الى الدخول في عوالم ذاتية لهذه الشخصيات من خلالها نتوغل في عالم آخر يزداد اتساعا وعمقا كلما توغلنا فيه لتصبح رؤيتنا مفتوحة أمام ازمنة وشخصيات اخرى كثيرة تشكل مدينة بغداد مدارا لها تدور فيه.

صورة بغداد المدينة،وما كانت عليه من انفتاح وتنوع في الاعراق والاصول طيلة تاريخها،يعكسها بشكل واضح المسار الحياتي لجَدِّ جَد حياة البابلي رشيد ابن الشيخ نعمان التميمي وكذلك ابناءه، فقد تزاوجوا من نساء ينتمين لأصول واعراق مختلفة،مصرية وتركمانية وكوردية وارمنية وعربية. وعمها الشيخ قيدار خصَّها هو الآخر بكراسته التي أرَّخ فيها جوانب مضيئة من تاريخ بغداد الثقافي،وذلك برصده لمسيرة علمائها ومتصوفيها،فترك لها الكراسة محفوظة في سرداب بيته قبل

أن يهجر الدنيا بعد أن اختطفت زوجته فتنة من قبل حماية احد المسؤولين الكبار في الحكومة قبل العام 2003،وبعد أن اعتقل هو الآخر بذريعة انتمائه لمنظمة سرية.

المتن الحكائي

من الجملة الاولى تضعنا لطفية الدليمي في محنة الشخصية الرئيسة(حياة)إبنة الاستاذ الجامعي البرجوازي اليساري عدنان رشيد البابلي،التي باتت تعاني ذاكرتها من التباس وتشوش كبير،وبسبب ذلك أمست عاجزة عن تحديد هويتها وحضورها الانساني،وهذا مايشكل من الناحية الفنية معادلا موضوعيا لما اصاب مدينة بغداد ـــ التي تموت عشقا بها ـــ من التباس وتشويه في هويتها وحضورها الانساني،وهي تغرق في زمن اشبه بمتاهة بات يلفُّها كل لحظة بدخان من الجحيم:” أأنا حياة البابلي،أم أنني أخرى ؟؟ “.

تعيش البابلي لحظة نفسية ووجودية قلقة لامكان فيها للشعور بالهدوء على وقع انغام حرب مجنونة تسحق المدينة ما أن تجتاحها الدبابات الاميركية ويستبيحها مسلحون ملثمون متتطرفون.ورغم هذا تبقى حياة مُصرَّة على الاحتفاء بالأمل :”مالذي يمنح الروح قدرتها على مجالدة الألم ؟ أهو الحب ؟ أم جرثومة الحياة العنيدة ؟أم هي الأحلام التي نستولدها من شحنات الأمل والحب “.

الاسماء هي أول ضحايا هذه الحرب،وفيها تكمن معاني الاشياء كما اشارت الينا الجملة التي وضعتها الدليمي في الصفحة الاولى قبل بدء الفصل الأول لتكون عتبة دخول الى عالم الرواية،كانت قد استعارتها من فيلسوف التصوف عبد الجبار النفري:”وقال لي لكل شيء شجر،وشجر الحروف الأسماء،فاذهب عن الأسماء تذهب عن المعاني.وقال لي إذا ذهبت عن المعاني صلحت لمعرفتي “.

البابلي فقدت القدرة على معرفة حقيقة الاسماء التي تختلط في ذاكرتها،فلم تعد نعرف من هي(راوية)التي تبعثت لها برسالة تعبر فيها عن دهشتها بعودة حياة من قبرص وهي بين يدي حبيبها ناجي الحجالي الى بغداد مرة اخرى بعد أن كانت قد بذلت مجهودا كبيرا في سبيل الخروج من جحيمها ؟ ومن هي مَها ؟ ولمى ؟ وحامد المدرس ابو الطيور؟ وآمال ؟ وناجي ؟ وحازم ؟

من هؤلاء الذين يتكررون في الاحداث التي تُستعاد في ذاكرة مشوشة عاجزة عن التمييز،حتى أنها تخيلت نفسها وكأنها فقدت القدرة على الكلام،مثلما هي فقدت الاحساس بالزمن:”هل مر يوم ؟ يومان أم ثلاثة وأنا عاجزة عن الكلام ؟ ” .

عالم شاسع بات محجوبا عن حياة بعد أن لفَّتها الكوابيس في عتمة سرداب البيت محتمية به من موت همجي يدور بين الازقة والشوارع بحثا عن ضحايا وقد يطرق بابها في اية لحظة،فالذاكرة خذلتها وهي خط دفاعها الأخير،وباتت تتوسل إليها أن تكف عن أن تكون نشيطة:”توقفي عن تعذيبي،إهمدي إلى الأبد ودعيني ..”.

كانت تنطق عبارات طويلة ضالة وحكايات مبتورة واغان واشعار وعبارات عشق لارابط بينها يتخلل ذلك عشرات الاسماء وهي في حالة من الهذيان،فايقظها من تشوشها اسم الشيخ قيداروصوته الذي كان يتردد في وحدتها الموحشة وهي تقف أمام المرآة،ويحثها على عدم الاستسلام للموت،وان تقاوم،وان لاتدع هذا الجنون المستفرد بالحياة يفسد حلمها،فاضاء لها ذاكرتها في عتمة السرداب،ومن خلال اسم عمها الشيخ قيدار انكشف عالم شاسع كان محجوبا عنها وهي مختبئة في وحدتها خلاصا من الموت والجنون:”لاتيأسي،إبحثي عن عمك الشيخ قيدار، ابحثي عنه في الجهات والكتب والاسماء والرؤى …” .

الحرب تمر على كل شيء جميل في بغداد يؤرخ نبرة النهار وفيء النخيل ورائحة الحب فيها،وتتداخل بذات البابلي مشاعر مختلفة ومتناقضة تتأرجح،مابين التوق الى الاستفاقة من هذا الكابوس أوالبقاء في اللحظة الغائبة المغيبة من الذاكرة .

شخصية حياة البابلي حملت في داخلها تحدي كبير وحبا صادقا،هو بمثابة أمل بلقاء قادم مع الحبيب المنتظر ناجي الحجالي المقيم خارج العراق ،فالحب كما تراه “إعادة خلق الزمن والمصير بأصابعنا المشتعلة ” .

كان لديها اصرار على البقاء في لحظة لابقاء فيها للحب،كل شيء مهدد بالموت بالرعب بالتوحش بالخيانات،فكانت هي ايضا مهددة ومطاردة من قبل المتشددين بسبب ماتكتبه من تحقيقات صحفية،لكنها كانت تزداد اصرارا على البقاء وعلى الامل،لعلها تلتقي بحبيبها الذي لم تكف عن الايمان بلقاءه:”كلانا كان بانتظار

الآخر،كلانا كان يبحث عن روح تكافىء روحه،وتغض الطرف عن نقائصنا الانسانية “.

حياة البابلي كائن له ذاكرة وحلم،كانت تؤمن بأن الجمال هو حقيقة الانسان الوحيدة في الحب وفي الموت،لذلك كان يقول لها حبيبها ناجي الحجالي:” انت تملكين مزيجا متساويا وغريبا من البراءة والغواية “.

كانت تعيش على امل كبير لاخلاص منه،كما هي متشبثة بحبها الذي لن تتخلى عنه،ومثلما هي متشبثة بعشقها لبغداد:”لبثت احرس الصمت وكراسات الغائبين وقصص البنات،متشبثة بيقين حبي وانتظاري لناجي وأمل ظهور عمي الشيخ قيدار”.

تقانة السرد

في كتابه المعنون (الزمان والسّرد)يقول بول ريكور:”إن وجود الزمن في السرد حتمي،إذ لايوجد سرد من دون زمن،وهذه الحتمية هي التي تجعل من الزمن سابقا منطقيا على السرد،إذ انَّه بالإمكان رواية قصة من دون تحديد المكان الذي تدور فيه الاحداث،واستحالة اهمال العنصر الزمني في النص السردي الذي تنتظم بوساطته العملية السردية”. وفي تعاملها مع الزمن وهي تبني مسار الاحداث ومصائر الشخصيات عمدت الدليمي الى ايجاد إطارين من الزمن لسرد الوقائع :

1-زمن فيزيائي ( خارجي) 2- زمن نفسي ( داخلي ).

في اطار الزمن الفيزيائي /الخارجي انتظم ترتيب الكراسات،فجاء سياقه منتظما بشكل تراتبي تراجعي،منطلقا من لحظة الحاضر مرتدا الى الخلف لان ذاكرة الشخصية الساردة حياة البابلي كانت تحاول الهروب مِن الحاضر،من النهارات والليالي المروعة :”كان الشَّر يتنزه حولنا ويسخر منّا،يغير سحنته كل برهة،يصير صاروخا أو رجلا ملتحيا،أو عبوة ناسفة أو صديقا يخون ماأن نحدس اقترابه ونتحسب له حتى يغير سيماءه كحرباء ويكمن لنا بهيئة لانتوقعها “.

الدليمي اختارت أن تتخفى خلف قناع الشخصية المحوررية مستعيرة صوتها وضميرها المتكلم في بناء رحلتها السردية الطويلة المتشعبة في تاريخ وحيوات مدينة بغداد،منطلقة من الزمن الحاضر المؤرخ في اعلى الصفحة الأولى للكراسة الاولى بشهر نيسان 2008 ولترتد الى الوراء كراسة بعد أخرى مارّة بالاعوام التي شهدتها بغداد من خلال ما شهدته الشخصية التي كتبت الكراسة من احداث ذاتية،ولتستمر رحلة السرد باصوات ووجهات نظر مختلفة مع تعاقب الكراسات، رجوعا في مسار الرحلة الزمنية التي يتداخل فيها الزمن العام/ الفيزيائي/ الخارجي مع الزمن الخاص/النفسي /الداخلي،حتى تصل الرحلة الى اللحظة التي لم تكن فيها مدينة بغداد موجودة بعد على الارض،إنما كانت في مخيلة ابو جعفر المنصور فقط عندما كان يحلم بها ويفكر في بنائها،ومن ثم تعود بنا رحلة السرد الزمنية من حيث انطلقت بعد أن سردت لنا حكايا عن الحب والموت،تعود بنا الى نقطة البدء،الى السرداب،حيث حياة تقف امام المرايا تتساءل مع نفسها في محاولة منها لمعرفة “أين الجهات ؟ أين الاصوات ؟ خرست الساعات ووجدتني في عراء والزمن عماء ،المكان معتم لكنني ابصر ضوءا ” .

في اطار الزمن الداخلي/النفسي انتظمت الاحداث داخل كل كراسة لوحدها،وهيكلت الدليمي مساره بصورة يبدو فيه للقارىء مشوَّشا وغير منتظم فيزيائيا،معتمدة في بنائه ــ وفق هذا الشكل ــ على ماأصبحت عليه ذاكرة حياة البابلي من تشوش واختلاطات بسبب مايحيطها من عنف وقتل باتت تشهده مدينة بغداد،فماعادت بسبب ذلك تملك قدرة على فك اشتباك الازمنة والاحداث حسب تسلسها الفيزيائي ،لذا جاء بناء الزمن السردي على هذا الشكل الداخلي /النفسي .

آلية البناء السردي

استعانت لطفية بتقانة المذكرات أوالكراسات الشخصية،وهي صيغة بنائية حميمة في آليات السرد،وهي اقرب التقانات الى الذات لكشف مكامنها وعوالمها الداخلية،لذلك تعددت الاصوات الساردة بصيغة ضمير المتكلم في كشف المشاعر والاحاسيس المخبوءة،بعدد الاشخاص الذين كتبوا الكراسات،فجاءت عديد من الكراسة تحمل عنوانا يشير الى شخصية محددة تشكل محور الكراسة.وكانت الاصوات النسائية

القاسم الأكثر حظورا وهيمنة في مسار السرد(التبئيري)حسب مصطلح الناقد جرار جينيت.

سيدات زحل مصابات بلعنة زحل تطاردهن من ارض الى ارض ومن زمن إلى زمن ــ كما تقول حياة البابلي ــ عكسن وجهة نظر نساء حالمات في زمن لامكان فيه للأحلام،وكل الرجال الذين مرَّوا باحلامهن كانوا مجرد أطياف،فالمرأة في زمن تسوده صور الحرب والعنف والقتل على الهوية تصبح فيه طريدة وفريسة سهلة لأمراء الحرب،يتم التعامل معها بابشع صور الاذلال والاحتقار الجنسي والانساني، وهذا ماكانت عليه مصائر سيدات زحل فشخصية هالة المهندسة المعمارية على سبيل المثال كان لها حلم كبير ظل يراودها:أن تصمم مَرقداً مُبهرا في معماريته للحلاج،لكن غزو الكويت اوقف المشروع،والنتيجة ان ضاعت الاحلام في مسافات التشرد بين البلدان بعد أن فقدت عذريتها داخل سجن ابو غريب من قبل الاميركان،وشخصية راوية التي انتظرت حبيبها نديم اعواما طويلة على أمل أن يعود في يوم ما من بريطانيا بعد أن يسقط النظام لتتفاجأ به وقد تحول الى مسخ،بل إلى قواد،بعد أن تخلى عنها وتزوج من بريطانية لعبت دورا كبيرا في مساعدة فصائل المعارضة العراقية قبل العام 2003 في تحقيق اتصال مع الحكومة البريطانية،ولايجد نديم حرجا في ان يعرض على راوية استعداده لتزويجها من مجنَّد اميركي شاهد صورتها وابدى رغبته بالزواج منها ومكافأة نديم فيما لو اقنعها بذلك .

مفارقة اللغة

لغة لطفية كما يعرفها جيدا قراءها منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي تنتمي الى مناخ سردي له معطيات انثوية بامتياز يتماوج بشفافيته مابين وقع الجملة الموسيقية في بنائها الهارموني وتجليات العشق الصوفي، وفي هذا العمل يتدفق شلال مفرداتها منفتحا على عالم الزهور والنباتات في مواجهة عالم بشع متوحش:” أشذاء الورد والياسمين وعبير طلع النخل يضوع من الحدائق والمتنزهات المهجورة وبساتين الضواحي في مناطق الدورة والتاجي والفحامة وسبع ابكار،موَّهت الأشذاء لبعض الوقت روائح الجثث المتحللة الملقاة على الارصفة ثم فضحت الشمس نتانة الموت”.

الدليمي اعتمدت المفارقة في ازاحة الدلالة بمعناها اللغوي عندما نثرت في بنيتها السردية زهورا ونباتات باصناف وانواع مختلفة كانت جزءا من ذاكرة بغداد نثرتها بين سطور الرواية وفصولها وهي تتحدث عن زمن يمتد فيه الموت والرعب متوغلا في الهواء والاصوات والاشياء،وكأنها كانت تحاول عبر صوت حياة البابلي أن تعيد لبغداد حياتها المفقودة بنكهتها والوانها ورائحتها التي تعرفها كما لو انه لم يعرف بغداد بهذه الصورة كاتب عراقي آخر :”احترقت اشجار اليوكالبتوس والصفصاف والارجوان،بعضها قاوم الإهمال والظمأ،المروج جفت وتحولت بعض الشجيرات إلى لون ذهبي محروق،أتراها ماتت ؟؟ ألوانها النورانية تجمل الخراب الذي حاق بالمتنزه،جذوع اشجار التوت العتيقةكانت رحيمة ومتينة ليتوارى وراءها عاشقان يتبادلان القبلات تحت المطر أو غسق الخريف قبل أن يضبطهما شرطي أو عابر متشدد “.