23 ديسمبر، 2024 2:12 ص

رواية “حين تتشابك الحكايا”..وتشابك القلوب والرؤى

رواية “حين تتشابك الحكايا”..وتشابك القلوب والرؤى

أصدرت الكاتبة الفلسطينية المولد العراقية النشأة سلوى جرّاح روايتها السابعة والمعنونة “حين تتشابك الحكايا” في نهاية عام 2019.. وراحت تخطط لأحتفالية أصدار الرواية، الاّ أن جائحة الكورونا وما ترتب عليها من أغلاق للمدن ومنع للتجمعات، قد حال دون ذلك.
صدرت الرواية عن دار المدى العراقية ب 128 صفحة من القطع المتوسط، وقد تصدّرها أهداء الى جيل الكاتبة الذي تنتمي أليه، حيث عرّفته بأنه الجيل الشاهد على الحروب وخيبات الأمل…ولكنه جيل تعلّم، وأحّب، وأنجب، وكتب الشعر، والّف الموسيقى.. مؤكدا مقولة نيتشه “ما لا يقتلك يجعلك أقوى”.
ثم أن المؤلفة قد وضعت مقدمة لروايتها، وفيها البعض من صراحة القلم، وهو يشير الى غيرة المؤلفة من شخصية الرواية سهام، وهي تسجل على لسانها ذكريات الطفولة، ورؤاها، وصورها، ومعانيها. ولعلها الصدفة وحدها التي جعلت الحكايا تتشابك وتتناسل في رواية سلوى جرّاح، مع وقائع ما جرى على الأرض الفلسطينية، بعد ما يقرب من 21 شهرا من صدور الرواية، حيث شن العدو الصهيوني في مايس 2021 عدوانه الذي أستمر ل 11 يوما على غزة- الأرض التي ولد فيها السيد غريب عطا الله بطل رواية “حين تتشابك الحكايا” وشخصيتها المركزية.. يقول غريب: أنا من غزة.. أهلي لجأوا أليها من يافا.. هل زرتِ يوما غزة؟.
ولكل كاتب رواية هدف يتوخاه ويسعى أليه.. ولعل الرواية هنا أرادت لحكاياتها المتشابكة أن تصل للمتلقي ببساطة ويسر دون تعب.. فجعلت من غريب فاقدا للقدرة على الكلام بعد أن سقط أرضا.. فكأنه قد أصيب بجلطة الدماغ، فأدخل المستشفى بعد أن ظل يتساءل مع نفسه -كما بدا للراوي العليم- لِمَ هو مستلق على الصوفا الوثيرة فيما يجلس الجميع حوله صامتين.. في حين راحت سهام زوجته تقص (كما الراوي العليم) كيف بدأت علاقتها بغريب (لاحظ معنى الأسم لرجل فلسطيني-ظل غريبا أينما حلّ) المقيم في بريطانيا وأستاذ الهندسة المعمارية في جامعة لندن.. حيث تزور سهام لندن في دورة تدريبية أرسلها أليها المركز الثقافي البريطاني في عمّان حيث تقيم. وهكذا يكون للصدفة دورها في أن تصبح الفلسطينية -حتى نخاع العظم- سهام زوجة لغريب المولود في مخيم للاجئين الفلسطينين في غزة.
وكان لابد لغريب وسهام من أن يتعارفا عن طريق القص والحكي بما هو شخصي..فيسرد لها قصة زواجه من فتاة مصرية وأن له منها ولد وبنت..ولكنهما أنفصلا عن بعضهما لعدم تحملّه آراءها في السياسة التي تبتعد به عن أرض فلسطين، ومبادئه وما يؤمن به. كل ذلك بعد أشتداد الظرف السياسي عليه، حيث زار أنور السادات أسرائيل عام 1977 فصارت مصر الشقيقة الكبرى متصالحة مع العدو!… وبعد أن ظلت تقول له زوجته الأولى أنها لا تحب الحديث عن الأحتلال لأنه يعني المطالبة بالتخلص منه، وهذا يقود الى الحرب.
ولكن سهام تصّر على عدم تذكّر حكاية حياتها الخاصة الاّ بعد أن تفصّل في حياة غريب في مخيم جباليا، فحياة المخيم ذل تتوارثه الأبناء عن الآباء.
وراحت الحكايا تتشابك مع صديق غريب عبد الواحد الفلاح أبن الفلاح، والذي حصل على دكتوراه الزراعة وأستصلاح الأراضي، والذي أخرج عنوة من الضفة الغربية لأنهم-نسبة الى الأسرائيليين- ليسوا بحاجة لخبير زراعي فلسطيني، مصّر على زراعة أرض فيها نبع ماء قريبة من مستوطنة. وتتواصل فصول الرواية من غير ترقيم، وبأستهلال عن حالة غريب الصحية يمتد لأسطر قليلة..لتنطلق بعدها سهام متذكرة الماضي بشيء من التفصيل (تقنية الأسترجاع أو الفلاش باك)..وهو ليس تذكّر حَدَث فقط، بل تذكّر مشاعر ومواقف تفرض نفسها على الذاكرة، وهي تعاني الظرف الصعب من خلال أحتمال فقدان الزوج بعد المرض.
وفي تداخل زمني فيه تقطيع سيناريست، ينتظر المتلقي مع سهام ما ستؤول أليه صحة غريب الذي دخل غرفة العناية المركزة..وهو المكان الذي يقرر الأطباء أدخال المريض أليه في حالات الحاجة الى دعم جهازه التنفسي ودورته الدموية.. وكل ذلك يجعل الأنتظار صعبا على الزوجة التي راحت تحكي لنفسها وتتذكر لندن ودورتها التدريبية فيها، ومحل ضخم لبيع الكتب (فويلز)، وكتاب حريق لندن، لتعترف لنفسها أنها يوم جاءت الى لندن هذه كان الحب آخر ما يشغل البال.. لتقول: ثم وجدتني بلا مقدمات أكسر كل قيودي وأخرج من سجني طائعة كما دخلته…وجدتني أقّر وأعترف أنني أعيش حبا غيّر ما بي، وأختزل الزمن، ووضع نهاية لأسر ذاك الماضي البعيد.
وحين تتشابك الحكايا الرواية بعد ذلك كانت قد أخذتنا سردا في فضائها المكاني من غزة ولندن وبغداد والقاهرة وعمّان الى أشهر مخيمات اللاجئين الفلسطينين في محافظة طول كرم –مخيم نور الشمس- ورام الله وسلفيت والتي تعني (سلة العنب) لتحط بنا في ردهة الأنعاش في نهاية المطاف بمسشتفى أنكليزي حيث غريب الذي بدأ يستجيب للعلاج، فها هو يطلب أن يحكي مع سهام زوجته.. فلقد صحصح..
وعندي فأن عودة الوعي لغريب وأرادته على الكلام أنما هي عودة الوعي الى أمة تستعيد قدرتها على قراءة تاريخها.. فغريب الرمز في زمن الرواية الدائري هذا (بداية السرد به ونهايته) هو الذي يمثل الأنسان العربي الذي قد يسكت ولكنه لن ينسى.. ثم أنه لابد من أن يتكلم ويصحصح. وعندها فقط سيكون للتاريخ شأن آخر.. وسيكون لغريب ذاكرة جديدة وحكايا أخرى قد تتشابك من جديد.
لقد أعتمدت الروائية سلوى جرّاح لغة سهلة شفافة واقعية، ليس فيها أطناب أو أسهاب في غير محله.. فأبتعدت عن المجاز والأستعارة والشاعرية لتضع القاريء في صلب الحكاية. وعليه ففي لغة الرواية أقناع وأنسجام يعطي للمتلقي القدرة على الفهم والتأويل.
أن رواية “حين تتشابك الحكايا” وهي تستخدم الجغرافية للتعريف بالتاريخ الفلسطيني عبر تقنية الحكي فيها، أنما تحاول أن تظل للقضية الفلسطينية مركزيتها من خلال أطلاع الجيل المعاصر من المتلقين على تفاصيل هذه القضية وتعقيداتها. وفي هذا فهي تتواصل مع روايات فلسطينية أخرى بنفس الهم رغم أختلاف الرؤى. وكأني بالروائي الفلسطيني وهو يكتب روايته أنما أجده يتمثل بقول الراحل الكاتب جبرا أبراهيم جبرا والذي قال عام 1988 “أنه يجب عليه أن يكتب ليتفهم أولا لماذا يحاصره العالم ثم هو يكتب ثانيا على أمل الهروب من هذا الحصار.. وثالثا لابد من أن يكتب على أمل أيجاد مخرج للعالم كله من هذا الحصار”.
أن الروائية سلوى جرّاح هنا أنما تكمل مسيرة أميل حبيبي (المتوفي في حيفا 1996) وغسان كنفاني (أستشهد في بيروت عام 1972) وجبرا أبراهيم جبرا (توفي في بغداد 1994) والروائية سحر خليفة المولودة في نابلس عام 1942.
أن رواية “حين تتشابك الحكايا” ليست مجرد سرد للتاريخ الفلسطيني والعربي في المعاناة والهزيمة والأذلال، ولكنها أيضا لها سماتها الجمالية المميزة في تسجيل قصة التحوّل التاريخي الفلسطيني والعربي بعد النكبة. وكما قال الفيلسوف لوكاش فأن المثقف الحقيقي هو من يقف بثبات في مواجهة التاريخ بالأدب ومواجهة الأدب بالتاريخ.