5 نوفمبر، 2024 10:37 م
Search
Close this search box.

رواية “حياة الكاتب السرية ” : نفحة حياة في ظلال صور من الذاكرة !

رواية “حياة الكاتب السرية ” : نفحة حياة في ظلال صور من الذاكرة !

مقدمة

في احيان كثيرة , يلجأ الكاتب الى صور من بيئته , فيأخذ منها إنطباعاته ليصوغ منها قصة قصيرة او رواية او قصيدة شعرية او حتى فلمآ , كما هوحال العديد من الأفلام المأخوذة عن مسرحيات وقصائد ملحمية أو مأخوذة من الحياة اليومية , كفلم ” الوجه ذو الندبة ” الخاص بإعادة الحياة الى توني مونتانا للمرة الثالثة بعد النسخة الأولى التي قدمها عام 1932 المخرج هوارد هوكس .

الملفت للنظر ان بطل النسخة الثانية من الفلم ال باتشينو قال عن الفلم : “طبيعي أن تعاد تجربة مثل هذه ، إنها مهنتنا أن نعيد تصوير الأحداث والعالم “.

وأحيانآ اخرى يتأثر الكاتب بمخزونه الروائي او القصصي او الشعري الذي ينجم عن قراءات عديدة لهذه الأصناف من الآداب فتبقى بمرور الزمن عالقة في ذهنه ثم يلجأ إما ; أولآ , الى صياغة رواية لها خصوصية سردية لاتمت بصلة مع أي نص روائي اخر ,

اي لايلجأ الى فكرة التناص المعروفة فيملأ نصه الروائي بأسماء شخصيات روائية سابقة واجزاء من الحبكة تكون على العكس من الحبكة الأصلية , وإما يلجأ ثانيآ ; الى المخالفة المطلقة في كل شيء , سواء بالأسماء أو الحبكة . ولكن مهما اباح الكاتب لنفسه ان تفعل ذلك في الرواية الجديدة من تعديل وتغيير,

فإنها تبقى تحتفظ بدرجة ولو ادنى من صدى الرواية الأصليةالمهيمن الذي يدفع النقاد الى الربط بينها وبين البناء الروائيالجديد ,

فبعد قراءة رواية غيوم ميسو ” حياة الكاتب السرية “ , نجد ان  الروائي  صنع لنا نصآ روائيآ غير اصليآ من الناحية الروحية التي نستبين في ثناياها صدى رواية ” الحارس في حقل الشوفان “ التي قابلها بالشبه رواية فاولز ” لورلاي ستراينج ” . فالرواية لاقت مالاقته رواية سالنجر ” الحارس في حقل الشوفان ” سواء من تردد دور النشر في نشرها , أو من قبل المراهقين الذين جعلو منها رمزآ للثقافة المضادة لزيف المجتمع الأمريكي .

ان ظلال رواية سالنجر قد بدا صداها واضحآ على نفس غيوم ميسو , فحين توفرت الفرصة وفقآ لمفهوم كايروس اليوناني(ص221) , الذي يحثّ على عدم تفويت اللحظة الحاسمة التي تمنحها السماء , والذي تكرر العمل بهذا المفهوم عندما عرضفاولز دعوة للطبيبة صويزيك ان ترافقه الى جزيرة بومون بحجة توقيع كتبه واهدائها , قام ميسو في بناء روايته من صور وظلالتلك الرواية المخزونة في ذهنه برؤية شخصية تجسدت لتكون امتدادآ لعزلة وقطيعة الروائي سالنجر من الناحية الإجتماعية والمكانة في الحياة , مندفعآ , ايضآ , برؤية الروائية الإيطالية ايلينا فيرانتي (ص161) المطبوعة في ذهنه .  

المعروف ان عين الإنسان هي كعين الكاميرا تسجل المشهد وتوثق الحدث من كل حدب صورة بحسب الحس الفني الذي يمتلكه , ثم يحتفظ بها في ذاكرته التي تعمل في احايين متفاوتة على إثارة أحاسيسه فينجم عنها عملآ سواء كان دنيئآ او على النقيض منه , تبعآ للظروف التي يمر بها وسمة الافكار التي يحملها .

والذي يتبنى هواية كتابة مثل تلك الاصناف الادبية , لابد ان تتوفر فيه المصداقية والثقة عند التعبير عما يراه في جوانب الواقعالعديدة , ولكن من دون أي انتهاك اخلاقي لأي جانب منها على حساب الحقيقة , اما في حالة التعبير بشكل خيالي , فيكون عندئذ بريئآ ولايرمى بأشواك النقد الخادشة .

في رواية ” حياة الكاتب السرية “ المطعّمة بوابل من الأسماء وخاصة الأدباء , فضلآ عن الاقتباسات التي بدأها غيوم بمقولة من الروائي الهايتي داني لافيير , كانت بلاشك مطبوعة في ذاكرته بعد قراءة روايات عديدة لهم , ولاشك انها اشغلت باله فشكّلت في نفسه نزعة استحضارها في كتاباته اللاحقة كمدلولات تعاطف معها فوضعها امام القاريء , لتكشف عن ايحاءات لحقائق يقاس بها النص الروائي بالمقارنة مع تلكالأقوال او الاقتباسات .

لذلك فالرواية , كمايبدو , تركّز على انتهاج ارشيف من الصور الإنطباعية وخاصة عن حياة الروائي سالجر وعن روايته ” الحارس في حقل الشوفان ” بحسب ادراكنا , وقد تم توظيفها لتؤلف رواية ذات وجهين لبنية روائية واحدة بطلها فاولز الذي يحاكي سالنجر كما يحاكي نموذج التدخين الآلي تجربة التدخينالواقعي بالسيكارة .

بنية الرواية

1. الجانب الواقعي ( ظلال حياة جي.دي.سالنجر)

من نمط التلاعبات والتناص والكولاج الروائي كما يحلو للبعض أن يسميه في فن كتابة الروايات , خرج علينا منذ زمن بعيد الكاتب الفرنسي الشاب غيوم ميسو بروايتة ” حياة الكاتب السرية ” التي كتبها في 1999 , وصدرت عن دار نوفل – هاشيت انطوان عام 2020 بترجمة رانيا الياس الغزال .

فكانت اعلانآ واضحآ لرواية بُنيت بملامح وصور منسلة بإمتيازمن ظلال حياة الروائي الأمريكي دي.جي.سالنجر ومن روايته ” الحارس في حقل الشوفان “ , استلهمها غيوم وتبناها ليوظفها بذكاء ومهارة في كتابة روايته , وربما تبنى بها , ايضآ , ظلال صور من الأدب البوليسي وخاصة من اعمال ستيفن كينغ ومايكل كونيلي وجورج سيمنون وآخرين وطعّم بها روايته .

ولكن مايهمنا هنا هو تأثير سالنجر بالكاتب وبروايته , فصورة الفظاظة والضجر والازدراء مما قرأ وبقى عالقآ في ذهنه بعدما تمتع بها بطل رواية سالنجر  “هولدن كولفيلد ” قد بدت ملامحهاواضحة في شخصية فاولز وهي الشخصية المعاكسة والجديدة لسالنجر وبنص وقصد روائي جديد.

وهناك صورة اخرى منسلّة وخاصة عندما ترك سالنجر الكتابة بعد روايته تلك وأعتزاله الشهرة والأضواء وهو في سن الخامسة والثلاثين في منزل بولاية نيو هامبشاير شمال شرق الولايات المتحدة ذات الغالبية الكندية التي تتحدث باللغة الفرنسية حتى وفاته فيها عام 2010 , مما اثار الجدل بين الأوساط الفنية عن دوافع واسرار تلك العزلة الزاهدة .

ويبدو ان شطر الحياة التي عاشها سالنجر في معتزله قد حفّز غيوم لخلق عمل ادبي ارتكز على ظلال سالنجر الذي القاها في نفسه اولآ وفي نفوس الاوساط الأدبية داخل الولايات المتحدة ثانيآ .  

فمن تلك الصور الملتقطة والمخزونة بالذاكرة , انطلق غيوم ميسو ليمنح نفسه الحق في ان ينفخ بها بالسرد المتقطع لتكون روايتهيوصلها الى بطله ناثان فاولز , ليجعل منها صورة أخرى وليس نسخة اخرى لرواية سالنجر , بأسلوب تلقاه من الروائي المجهول برنارد دوفي عندما كتب بلسانه يقول : يجب ان يرتكز عملك كلّه على اللغة لا على القصة , فالقصة موجودة فقط لخدمة اللغة .

والروائي غيوم يدرك ماذا يقول ويصرّح , فقد وجد القصة جاهزة وما علية إلا ان يتلاعب باللغة ليقدم لنا رواية كما يراها في احلامه , لكنه لم يحجب في جزء منها رنين مجموعة إيماءات او يتجنب اصداء عن سيرة سالنجر الواقعية  بدءآ من (ص15) عندما نوّه عن قرار اعتزال فاولز للكتابة وامتناعه عن اي مقابلة صحافية ورفضه لجميع العروض الخاصة بإقتباس روايته للسينما او التلفزيون رغم المبالغ المالية المغرية . وما برنارد دوفي إلا اسمآ من صنع خياله ,

فالصور الأصلية لسيرة الروائي سالنجر بعد عزلته , قد الصقها غيوم بفاولز وفي بنية روايته وإن تميّز شكلها بثلاثة اقسام كل منها بفصول ذات عنوانات مختلفة تخالف بنية الحارس في حقل الشوفان , فضلآ عن احداث تصف سلوكه وممارساته وتصرفاته غير الطبيعية ,

ومقدمة تتصدرها بقلم جان ميشيل دوبوا , وهو كاتب من نسج الخيال  , ثم تنتهي الرواية بخاتمة  من جزئين , بسرد روائيواقعي وخيالي , انتجه بلغة خالقة وبشكل سريع , استنبطه وصممه  ليلتصق بالفظاظة النادره لبطله الجديد .

مما يبدو , ايضآ , ان الصور معاكسة للصور الاصلية التي افترضها غيوم ناقصة لعزلة “سالنجر فأراد ان يعيد بها الجدلثانية عن السر وراء عزلته وطويه صفحة الكتابة بعد كتابة ” الحارس في حقل الشوفان” وهو سّر ناتان فاولز نفسه .

بتعبير ادق أن غيوم ميسو البس ناتان فاولز ثياب سالنجر ليقوم بدوره في اكمال قصة عزلته التي جعلها في جزيرة بومون بدلآ من منزله في نيو هامبشاير , وما عبارة : ” غالبآ ماقورنت رواية ” لوريلاي ستراينج ” برواية ” الحارس في حقل الشوفان ” التي نطق بها جان ميشيل دوبو (ص15) في مقدمته إلا اعترافآخطيآ من غيوم ميسو عن إحدى صور الظلال الأصلية التي القى بها سالنجر وروايته ” الحارس في حقل الشوفان “ في نفس غيوم  نفسه , وهو جزء من حوار يدل ويرتبط بالإلتباس الذي نتحدث عنه الآن .

ولكن بالطبع فاولز ليس سالنجر , كما صرّح غيوم على لسان كاتب المقدمة جان ميشيل دوبوا , فقد جعله  بلا صندوق مليء بالمخطوطات ليتعاكس مع سالنجر الذي ترك لإبنه الحقيقي ماثيو البعض من القصص التي كتبها اثناء العزلة , وليسحب مسار السرد خارج محيط سالنجر للقاريء الذي لم يستطع ان يميّز ظلال سالنجر في الرواية او يتغافل عنها  .

ولكن مهما حاول غيوم من ارباك القاريء بلغته السرديه من اجل ان تكون  بنية روايته بالصورة والشكل البعيد عن صور وظلالحياة سالنجر وصوره السردية , إلا انه لم يستطيع ان يحوّل عن إدراكه رنين ذلك الظلال الذي لايقل ثقلآ عن الصور الأصلية لأنها باقية حيّة في إدراكه ولم يتوان عن دفعها في الرواية ومعها كل العبارات التي افلح في اصطيادها .

ومن ناحية اخرى , نجد في ادراك غيوم انه تعمّد بشكل واضح في خلق نمط روائي تشويقي , ظنه سيكون جديدآ إذا اضاف اليه صورآ متزاوجة ومتناسقة من تصوراته عن سالنجر ليلصقها بفاولز , وهذا مافعله بالضبط  وإن لم تكن كافية من ناحية الخلفية التاريخية والاجتماعية والنفسية , لسبب بسيط اراده ان تكونالصور عن فاولز فيها شيء من التجريدية الخافتة وليس بالتفصيل , وهذا ربما , مخافة ان تزيد من سمنة الرواية بين الغلافين عند طبعها من ناحية ,

او لانه اكتفى بخياله عن الصور التي تليق بفاولز فحسب من ناحية اخرى . فعندما وصف فاولز في روايته اكتفى غيوم بستة اسطر فحسب , ثم ذكر اصدار روايته الأولى ” لوريلاي ستراينج”التي تقترن بالحدس فورآ برواية ” الحارس في حقل الشوفان “(ص13-14) .

اختتم غيوم ميسو مقدمة جان ميشيل دوبوا بجملة من اقوال الملك لير لشكسبير يقول فيها : النجوم , هذه النجوم في الأعلى , هي التي تتحكم في وجودنا ” , وهي جملة إيحائية تمجد وبشكلإيحائي  الروائي سالنجر كونه الروائي الذي تحكّم بعنان ادراكه وقاده الى كتابة هذه الرواية التي كرّسها بلغة مختلفة جعلها امتدادآ متخيَّل لحياة سالنجر بالدرجة الأولى , وما الجملة إلا بمثابة تمجيد من الأجيال الحالية للأجيال السابقة .

في هذه الرواية المدروسة والموحية بعناية فائقة الى ماذكرناه , لايمكن للقاري الحصيف ان يغفل  فكرة كتابتها بتلك الصور الجاهزة التي اختصت بها رواية ” الحارس في حقل الشوفان ” , فضلآ عن صور أخرى اختصت بحياة كاتبها جي .دي. سالنجر, وجميعها شكلت مرآة في ذهن غيوم , في جزء الخلايا العصبية لتعكس العلاقة المتبادلة بين الروايتين وبين الشخصيتين البؤريتين هولدن كولفيلد و ناثان فاولز .

فالراوي رافاييل باتاي يقول عن نفسه في (ص25)   انه تسجّل في دورة للكتابة الإبداعية من تنظيم دار نشر مرموقة , وبهذا يحيل القاريء فورآ الى انطباع ان غيوم ميسو في روايته مطارد بظلال سالنجر , لأن الأخير نفسه اشترك في دورة الكتابة الإبداعية عام 1941 في جامعة كولومبيا  ؟! وفي هذا يتحقق تطابق بحيث يبدوان وجهان لنشاط واحد .

وليس غريبآ ان يعلن غيوم ميسو تحت سطح السرد عن اعجابه بسالنجر اثناء الحديث عن فاولز وعن روايته ” لوريلاي ستراينج” , ليبرهن ثانية انها إحدى الصور الخاصة بظلال سالنجر وظلال روايته التي القيت عليه حين يقول : بدا لي فاولز يتوجه اليَّ مباشرة بكتاباته الفريدة , وكانت رواياته سلسة وحيّة وتخطف الأنفاس ….. ثم بدأت اطمح الى التواصل معه .. الخ (ص26) .وقد اثبت فعلآ ذلك التواصل العملي بينه وبين سالنجر برواية ” حياة الكاتب السرية ” .

حين وصل ميسو بالسرد الى (ص49) نراه  في محادثة مباشرة مفترضة مع سالنجر وليس فاولز , إذ اختتمها بقوله : لقد اعطاني موضوعآ رائعآ لتأليف رواية , ومنحني الطاقة التي احتاج اليها لكي اباشر كتابتها .

حقآ ان غيوم ميسو نطق برسائل من جوهره الذي كشف به وعن عمق تأثير سالنجر في نفسه وفي روايته , لتستمر الرواية بهذا المنحى .

2. الجانب الخيالي ( السرد البوليسي)

بدأ غيوم بإستحضار البطل فاولز بشكل خيالي في فصل ( تعلّم مهنة الكتابة  ص41 ) , الذي اعده في روايتة بديلآ فنيآ للروائي سالنجر وهو يقابل الروائي المبتدأ رافاييل باتايالذي سلّمه غيوم مهمة الكشف عن سر عزلة فاولز منذ ان تهيّب اقتحام حياته الى ان اقتحمها وتفيأ بأفياء منزله وشرب من قهوته واعطى مبررآ لنفسه ان يقرأ رسائله الغرامية المرسلة الى فتاة قتلت قبل ثمانية عشر عامآ  وكانت سببآ في عزلته عن العالم (ص159) , وان يتدخل بشكل اناني في تفاصيل علاقته معها على امل ان يصنع منها مادة روائية (ص 156) .

ولكن رافاييل باتاي لم يكتف بالكشف عن ظلال الفتاة التي احبها فاولز , بل ذهب الى نبش اسرار الجريمة التي وقعتفي شقة بجادة بوسيجور لعائلة الكسندر فيرنوي , وهو إبن لضابط سابق بارز في الشرطة القضائية الفرنسية , وسياسي اعطاه غيوم بلغته المتخيلة  خلفية تأريخية ومنطقية لينسجم السرد مع النمط البوليسي في الإثارة والتشويق والدهشة.

ففي الفصل التاسع- مصرع الأحبة والعاشر روائيان ضد العالم فقد حفِلا بكشف الحقائق, إذ حقق رافاييل باتاي في رحلته للكشف عن لغز فاولز, اجابات مثيرة عن اسئلة تتعلق بتلك الجريمة وعن علاقة ماتيلد موني بفاولز , حيث تبين انها نفسها ماتيلد فيرنوي ابنة صوفيا التي هي ابنة باتريس فيرنوي , وقد كانت على علاقة غرامية منذ عشرين عامآ مع فاولز وتم تصفية عائلتها ليلة 11 حزيران 2000.

في هذا الفصل برزت حقيقتان , الأولى مقتل تاجر المخدراتكريم عمراني على يد باتريس فيرنوي والد الكسندر , ومقتل عشيقته ابولين شابوي  على يد صاحب المكتبة غريغواراوديبيرر بعد تعذيبها ومن ثم سمّرت جثتها على اقدم جذعلشجرة كينا في جزيرة بومون وعلى يد ماتيلد فيرنوي بعد ان اخرجتها من ثلاجة جدها غريغوار اوديبير ,

اما الحقيقة الثانية التي تقع خارج النص , هي ان غيوم ميسو قد تدخل بالنص الروائي بنفسه وتقمص دور رافاييل باتاي في مواجهة فاولز لينقلب السرد فيتطابق مع ماذكرناه في البداية من ان غيوم بدا واضحا في استراتيجية كتابة الرواية التي تضمنت صورا ذات اصالة وايحاء كبيرين الى جانب عناصر سردية دراماتيكية مذهلة , فهو من ناحية لم يضع عنوان الفصل العاشر روائيان ضد العالم اعتباطا لو لم تكن الرواية بهذه البنية عند الكتابة مهما سلكت سلوكا مستقلآ في الجزئين الخيالي والواقعي  ,

فهاهو غيوم ميسو يخاطبنا بلسان رافاييل باتي : كنت افكر في روايتي الثانية , التي بدأت كتابتها ” حياة الكاتب السرية ” كنت اعيش في هذه الرواية ..

ثم يضيف : اليس هذا بالضبط مانصحني به هو ( ويقصد فاولز الذي هو بديل سالنجر ) : ان اضفي نفحة روائية الى حياتي , وحياة الى رواياتي ؟ (ص189) .

بلى لقد بثّ غيوم ميسو نفحة الحياة بسالنجر وبروايته بكل مايملك من تقنية الكتابة , فهو يقول : كنت اعشق تلك اللحظات حين يمتزج الخيال بالحياة ….. ” ماجدوى الكتب اذا لم ترجعنا الى الحياة (ص190).  

     

اليس هذا اعترافآ كافيآ ثانيآ انه اعطى مفتاحآ ملموسآ لهذه البنية الروائية الفريدة في عرضها الواضح المبني على ظلال صور لروائي ورواية من الماضي لم يتأثر بها ميسو فحسب , بل شيّد منها رواية ابطالها روائيين ونزاعهما كان : هل الكتابة في يوم من الايام تحفّز المجتمع على الجريمة ؟ أم ترجعه الى الحياة  ؟

                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                                               

    وانتهى الفصل الحادي عشر- واسدل الليل ستاره بمقتل الروائي باتاي في حادث سيارة مع غريغوار اوديبير الذي تبين انه والد صوفيا والرأس المدبر للإنتقام من قاتليها مع صهره وحفيده (ص194) ,

في الفصل الثاني عشر وجه متغيّر- يضعنا غيوم امام مشاهد مواجهة بين فاولز وماتيلد فيرنوي المأخوذة بالثأر المعتمل في داخلها بهدف قتله انتقامآ لعائلتها , متوهمة انه القاتل , بينما واجهها فاولز بحديث عقلاني وبإتجاهات مختلفة وبقياس , على مايبدو , العقل في مجابهة مع من تمرّس على القتل .

ان الأفكار التي يخرج بها القاريء من هذا الفصل هي ان غيوم ادخلنا في عالم على درجة كبيرة من الغموض الذي يتبناه الخيال عادة بدرجة اعلى من الواقع  , ولكن رغم ان الحديث كان عن جريمة حدثت في الماضي البعيد , إلا ان غيوم ميسو افلح في ان يضعنا امام مشاهدها , بفضل اللغة , لتبدو واضحة امام القاريء ,

ثم عاد لإقحام ماتيلد فيرنوي لتستمع الى فاولز وهو يحدثها عن الطبيبة (ص220) , صويزيك لو غاريك  , وعن كشفه لحقيقة والدها وهو الطبيب الكسندر فيرنوي المجرم في تعامله مع السجناء في كوسوفو اثناء الحرب الأهلية وتعاونه مع تجار الأعضاء البشرية ليجمع من هذا العمل الشنيع ثروة كبيرة , ومن ثم اوضح انه هو الذي قتل والدتها واخيها تيو لأنه كان ضحية جنون القتل (ص232) , وهو ايضآ من تولى تصفية ابولين شابوي وكريم عمراني .

وبالرغم من انه اعطى لنفسه الخيار بقتل والدها الكسندر فيرنوي في شقته عند مشاهدته عملية القتل , إلا ان فاولزاخبرها انه اشتبك مع ابيها وانطلقت رصاصة من بندقيته وفجّرت جمجمته(ص232) .

على اية حال , لقد اعطى غيوم بطله فاولز اضافة الى وعيه الأدبي , وعيآ انسانيآ اختار به ان يكون متماسكآ بقيمه من دون تراجع سواء في طقوس عزلته أو في علاقاته الإنسانية .

في الفصل الرابع عشر ناجيان من العدم بدأ السرد بإظهار سطوة الذاكرة ودورها تحت سطح الحقيقة مع ملفات الانتهاكات التي قدمها فاولز ضد الكسندر امام ابنته ماتيلد , كأن غيوم يرى ان الذاكرة دائمآ هي التي تقرر منح الثقة للحقيقة التي تغلفها العواطف وفوضى الزيف , فهي الوحيدة التي تنقلنا بشكل دقيق الى تعقب الأحداث واستعارة الحقيقة كمن يستعير بالبصر منظرآ لها .

فقد قرّب غيوم وصف الذاكرة بأنها حرب كحرب الذكريات , وهي تتلخص بظلال الحروب وآثارها على البشر والبلدان التي تعرضت الى إبادة كإبادة الهنود الحمر مثلآ , وشعب كوسوفو , وشبه إبادة أو تهجير كالشعب الفلسطيني , فيعاد سردها بقصص او اشعار لتؤسس من جديد للأجيال .

وبين شك ماتيلد وصدق فاولز الذي اثبت ان الكسندر كان يعد لبناء حياته بعيدآ عن عائلته , ووعد بمعاقبته بعقوبة بروميثيوس في الميثالوجيا الاغريقية الذي قُيد الى صخرة على جبال القوقاز ليلقى العذاب الازلي الى ان يأتيه من يقتله ,

فقد احتجزه في قصره – لاكروا دو سود بعد ان انتزع منه الإجابات التي كانت تنقصه (ص245) , ولكن ماتيلد ابنته اطلقت  رصاصة الرحمة عليه , لتنتصر ظلال ذكرياتها مع اخيها تيو .

في فصلها الاخير ماهو مصدر الالهام – تختتم الرواية بتدخل من غيوم ميسو نفسه في بنية الرواية , وهذا التدخل يعتبر خلاصة وافية لرؤيته في التعامل مع ظلال الذاكرة التي سعى الى توجيهها الى القراء بصيغة عمل روائي على فصول بأطر مقولات متعاقبة ومن دون انقطاع  لشخصيات ادبية مختلفة خاضت غمار الحياة على مدى عقود فإستخلص منهم تلك المقولات .

لذلك فهي مصادر الهام اصيلة ومهمة عندما يتم تضمينها في بنية الرواية ببراعة , طالما تبنى الرواية على جذور قراءات سابقة . ولكي يزيد غيوم من اندهاش القاريء , فقد ذهب الى مصادر الهامه متخيلآ نفسه جزءآ من شخصيات الرواية , وهذه سابقة فريدة ايضآ وشاذة في السرد الروائي السائد ,

ولكن الذي يبدو ان الروائي ميسو لايريد ان يصمت إلا بعد ان يضع من ذاته الروائية تفاصيل اخرى صغيرة وإن يدرك بها القاريء ان روايته فيها شيء من قانون اللامنطق المنفصل والبعيد عن قوانين السرد الرواية , إلا ان ذلك كانلدواعي يرى فيها الكاتب انه لايستطيع هجر مسرح الاحداثكما صرح على لسان فاولز (ص189) , لذلك وبطريقة السرد نفسها ,

منح ميسو بخياله صورة لفاولز (ص260) , ثم تطرّف بالسرد حتى وصل بخياله الى ان يقدم لنا صورة له مع ماتيلد وطفل صغير يحاكي بالشبه تيو , كأنه لايريد للقاريء ان يفقد الترابط بين جزئي البنية الروائية القائمة على ما ذكرناه , اي على توظيف ظلال الصور المخزونة في الذاكرة بعد ان يبثّ فيها نفحة الحياة , لأنه يسرّ إذا استعادها بالكتابة فيمكان آخر من العالم (ص266) .

الخاتمة

لم تبتعد الرواية عن نقد الواقع الأجتماعي الذي احاط بشخصيات الرواية , فمنذ ان تعرّضت بنقد فكرة تقديم النصيحة التي طلبها رافاييل من فاولز  حول كيفية الكتابة , ومرورآ بالأحوال السياسية التي مرّت بكوسوفو , ونقد الصحفيين الأجانب ووسائل الأعلام المشوّهة للمعلومات ونقد شبكات التواصل التي تروّج للكذب المؤدي الى الفوضى التي لامعنى لها سوى استقطاب نقرات الإعجاب وإعادة نشر التغريدات لتنتصر الرداءة والإنحطاط على حد وصف رافاييل115) ,

وانتهاءآ بنقد كريم عمراني كونه يميل الى اليسار المتطرف لينتقص من مبادئه , إذ يحلم ان يصبح كفيدل كاسترو ذات يوم , وتوني مونتانا في اليوم التالي , وتوني مونتانا  مهاجر يحلم ان يحقق حلمه في امريكا بعد طرده من  كوبا , إلا انه اصبح اكبر مهربي المخدرات .

اتبع غيوم ميسو في هذه الرواية مبدأ ان الأحداث الواقعية الأصيلة يمكن ان نستنطقها ثانية على نحو تجريدي خلاق وإن ركنت مخبأة في التأريخ زمنآ طويل , بلغة تقهر الاستخفاف بعدم القدرة على بعث المألوف في ذلك التاريخمن جوهر للحقيقة لخلق واقع جديد .

وبهذا الصدد نتذّكر الفنان التجريدي , التشيكي فرانتشيك كوبكا وهو يخاطب الطبيعة معتذرآ : حاولت انسخك , لكنني اوعدك لن افعلها ثانية , ويعني انه  لن ينسحب ليتركها , بل ليخلق منها نماذج اخرى تحيل بجوهرها الاصلي اليهاثانية .

هكذا فعل ميسو , فقد احالنا في كل سطر الى سالنجر ,فالرواية استثارت مشاعرنا بصبغاتها المتعددة ; من حلم رافاييل وغياب الأدلجة الى  جشع الطبيب القاتل الكسندر وانانيته , والسرقات الكبيرة والصغيرة , والعلاقات الغرامية , والقلق الإنساني والتربص , وفشل تقييد الطبيب الكسندربالأصفاد الى لغز فاولز في اعتزاله الكتابة بعد ان كشفه هو بنفسه بسبب مقتل حبيبته الطبيبة صويزيك (ص223) .

بهذه الرؤى كتب ميسو روايته , وبهذا الرأي كتبنا , ولكل قاريء رأي في صور الأحداث وتفاصيلها .

20ك2 2023

أحدث المقالات

أحدث المقالات