في روايته (عابر حدود) حرص الاستاذ حميد الكفائي على رسم لوحة واضحة المعالم لبيئة الريف الاجتماعية في جنوب العراق (في النصف الاول من القرن العشرين) مكنت القارئ من تخيل مصير ابطال الجيل الاول من الرواية قبل الانتهاء من قراءتها. ومما زاد المشهد وضوحا امام القارئ ان المعلومات التي قدمها لنا الكفائي عن طبيعة البيئة الاجتماعية لريف الجنوب (عادات الناس وتقاليدهم ووضعهم الحقوقي) جاء مترافقا مع حركة ابطال الرواية وشخوصها فلم تبدُ تلك المعلومات معزولة عن حركة الابطال او فائضة عن الحاجة بل كانت جزء حيويا من عملية السرد التي اجادها الكفائي وجعل المتلقي يدرك بوضوح ان بؤس الناس والامهم (آلام المرأة خاصة) ليس قدرا الاهيا بل نتيجة لتلك العادات والتقاليد البالية. فلابد مثلا ان يكون مصير (منتهى – احدى بطلات الرواية) كما كان في الرواية في مجتمع متخلف يجرد المرأة من مشاعرها وانسانيتها مدعوما بآيات قرآنية قرئت بقصدية ذكورية معادية للمرأة لكي تنسجم مع موروث بدوي حط رحاله في ارياف العراق مع العفش البدوي المهاجر من صحراء نجد الى ضفاف الرافدين.
واذا كان لي ان اعطي وصفا موجزا لرواية (عابر حدود ) فاني اقول : انها صرخة المرأة العراقية بوجه القيود الاجتماعية (الحدود) التي تحط من شأن المرأة وتجعلها ضحية لا تجد من يشاركها انّاتها، فحتى بنات جنسها يشاركن الرجال باضطهادها كما كان يفعل عبيد روما حين يتحمسون لتنفيذ ارادة الاسياد بقتل المحتجين من العبيد. الم تتظاهر نساء جحور ( تورو بورو) في العراق بعد تغيير النظام الصدامي ضد قانون الاحوال الشخصية رقم 188 مطالبات النظام الجديد بوضع القيود في معاصم النساء؟!
قدم لنا الكفائي في روايته (عابر حدود) ثلاث نماذج من النساء
النموذج الاول: نساء الريف
ومجتمع الريف، الذي تدور فيه احداث القسم الاول من الرواية، هو مجتمع عشائري يعتمد على الاقتصاد المنزلي، تسود فيه قيم البداوة واعرافها وعاداتها وليس فيه وجود لقيم فردية، ولا احد من افراده يفكر بالخروج عن قيم هذا المجتمع وعاداته ومالوفاته التي (اطاعوها دون سؤال، لا يرون مساوئها ولا اضرارها، ولا يعزون اليها البؤس والشقاء والتعاسة التي يورثها الاباء للابناء والامهات للبنات ص9 )
أن هذا المجتمع الذكوري ينظر للمرأة نظرة دونية ويجردها من انسانيتها،
وفي الوقت نفسه ينظر اليها بحساسية شديدة لان (شرف العائلة يعتمد على اخلاق المرأة وكلما بدت المرأة عبوسا متجهمة الوجه كان شرفها رفيعا … – ص43) لذا يجب عليها ان تكون صارمة مع نفسها لان اصابع الاتهام تشير اليها دائما. فحتى اذا فشل زواجها لاسباب لاعلاقة لها بها فهي التي تتحمل مسؤلية هذا الفشل وليس زوجها، وهناك (حكمة) بدوية مأثورة لدى المجتمع الريفي تقول: (خذ مطلقات البين ولاتاخذ مطلقات الرجال) فلسان حال المجتمع الريفي يقول: لو كن زوجات صالحات لما طُلِّقنَ. ولكن حتى حينما يطلقها (البين) اي في حالة ترملها فان المجتمع (لايتقبل زواج الارملة بل يتوقع منها ان تظل مخلصة لزوجها الميت طول حياتها لاتبرح ذكراه ولاترتدي زيا الا الاسود اكراما له ص 25). والمرأة في هذا المجتمع تعامل كأي سلعة فتقدم هدية للوجهاء والسادة كما حصل ل (جود ابنة جبر الراشد شيخ قبيلة آل سهر التي قدمت هدية له – اي لهادي المارد- بهدف التقرب الى جده رسول الله … ص21) وليس للمرأة الريفية حق اختيار زوجها. ومها تكن مشاعرها تجاه من يختاره الاهل، يتوجب عليها القول لولي امرها: أن ماتراه (هو الذي يسري ولست ممن يخالفن امر اهلهن حتى يكون لي رأي. الرأي فيما تراه .الامر لك وعلي الطاعة ص51) وحين تهرب من اضطهاد الزوج الى بيت اهلها فالعرف يطالبهم بارغامها على العودة ذليلة صاغرة. وهي لا تحظى باحترام زوجها فالرجل الذي يحترم زوجته او يجاهر بحبه لها فهو رجل ضعيف لا يستحق الاحترام، اما اذا ساعدها في اعمال المنزل فهذا طعن برجولته ولذا فان ( احد اسباب ازدراء المجتمع لبرزان الحمدان هو انه يساعد زوجته في تحضير الطعام احيانا ويساعدها في الاعمال المنزلية…ص38-) في هذا المجتمع المعادي للمرأة تجرعت منتهى (ام بطل الرواية، صالح يوسف) كؤوس العذاب ولم ترَ في حياتها لحظة فرح واحدة لكنها تقبلت مأساتها بصبر ولم تفكر باطلاق صرخة واحدة بوجه معذبيها فكان موتها راحة لها. لقد برع الكفائي في وصف مأساة (منتهى المارد) وجعلنا ننقم على مجتمع خلت قلوب رجاله من الرحمة.
اما النموذج الثاني والثالث لنساء رواية الكفائي فهن من نساء المجتمع المديني (مجتمع المدن الكبرى وفي مقدمتها بغداد )
المجتمع المديني يختلف بشكل كبير عن المجتمع الريفي من حيث الاقتصاد ومن حيث القيم والعادات الاجتماعية. فالمدن العراقية الكبرى ومنذ تأسيسها يعتمد اقتصادها على التجارة والاعمال الحرفية (والصناعية لاحقا) وشغل الوظائف العامة. ولا شك ان الاختلاف بين الاقتصادين الريفي والمديني
لابد ان ينعكس على القيم الاجتماعية في كلا المجتمعين، ولابد ان تكون القيم المدينية مختلفة بدرجة كبيرة عن القيم الريفية، لكن هذا الاختلاف في القيم لايعني ان المجتمع المديني ليس فيه (حدود) فالحدود موجودة في كل مجتمع. غير ان مسألة (الحدود) مسألة نسبية، فما يراه مجتمع ما محرما او عيبا يراه مجتمع آخر أمرا طبيعيا. لكلا المجتمعين الريفي والمديني حدود اجتماعية غير ان حدود المجتمع الريفي صارمة وقاسية ومتخلفة وبعيدة عن الروح الحضارية والانسانية، اما حدود المجتمع المديني فانها لينة واقرب الى روح الحضارة، كما انها غير جامدة بل متطورة تبعا لتطور المجتمع المديني، ولهذا نرى ان حالة الازدهار التي شهدها المجتمع المديني العراقي قبيل وبعد ثورة 14 تموز رافقه حصول المرأة على منجزات كثيرة منها صدور قانون الاحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 وانخراط اعداد كبيرة من النساء في الدراسات الجامعية، وتوظفت اعداد معتبرة من النساء في مختلف دوائر الدولة وصار خروج المرأة من البيت واختلاطها بالرجال امرا مألوفا. ولهذه الاسباب وغيرها تمتعت نساء المدن (وخاصة الكبرى) بحريات اجتماعية ملحوظة مكنتها من التنفيس عن رغباتها (الشرعية وغير الشرعية) بشتى الطرق العلنية او السرية.
في مجتمع بغداد المديني تعرفنا من خلال رواية (عابر حدود) على نموذجين مختلفين من نساء بغداد.
الاول: (هالة) المرأة المتمردة على مجتمعها، الـ(فردانية)، التي لها تفكير تحرري مستقل عن تفكير المجمع، بل ومخالف له، القادرة على تطبيق ماتؤمن به بغض النظر عن موقف مجتمعها. انها عابرة للحدود الاجتماعية فكرا وعملا.
هالة حين تحب (صالح يوسف) تقتحم عليه سكنه في القسم الداخلي متحدية كل المحاذير الاجتماعية وتنطلق معه في رحلة عشق (غربية) تمنح فيها الحرية لروحها وجسدها لمدة ثلاث سنين. وعندما يعرض عليها حبيبها صالح الزواج ترفض بشدة وتقرر السفر الى خارج العراق لانها (كانت متيقنة ان مكانها الطبيعي هو خارج المجتمع الذي نشأت فيه لانه لا يسمح لها ان تعيش حسب ماتريد.. إن مجتمعها لن يسمح بما تؤمن به الان او بعد سنين لذلك لم تسعَ الى تغييره مطلقا بل كان همها ان تعيش حياتها كما تريد ص 112) غير انها بعد وصولها الى الغرب اكتشفت انها لا يمكن لها ان تكون فتاة (غربية) ولايمكنها الانسلاخ عن ثقافتها الشرقية، فعادت الى حبيبها بعد مرور ثماني سنوات، اكملت خلالها دراستها العليا، لتقول له (انا اسفة ياصالح فقد كنت فتاة طموحة اهتم باحلامي واتناسى الواقع ص173 )
ولتخبر صالح (ذهبتُ الى الخارج وحاولتُ ان اعيش حياة مختلفة لكني لم اتمكن فلم استطع ان انسلخ عن ثقافتي ومجتمعي. صدقني انني كنت امارس حريتي اكثر عندما كنت في العراق رغم كل المحاذير التي تعرفها ص 174 )
عادت هالة من رحلة التحدي وهي تجر اذيال الخيبة. غير ان فشلها وعدم قدرتها على الانسلاخ من ثقافتها الشرقية طرح امامنا اسئلة اشكالية كبرى مثل: ما الذي يميز ثقافتنا عن ثقافة الغرب؟ ما هو الامر الخطير الذي يجعلنا نرتعب من ثقافة الغرب؟ ماهي الحدود التي لا يمكننا عبورها مهما تحررت افكارنا كما في حالة هالة؟
اجوبة هذه الاسئلة كلها مكانها عالم المرأة .المرأة فقط: جسدها، روحها، مشاعرها، همساتها، سكناتها، ملابسها، عطرها، احلامها، سلوكها، علاقتها بالجنس الاخر وكل اشيائها الصغيرة والكبيرة، ذلك لأن حظها العاثر جعل شرف المجتمع الشرقي بين فخذيها فصار كل ما يتعلق بها يتعلق بشرفنا. هذا مايميز شرفنا عن شرف المجتمعات الاوربية وهذا بالضبط مايجعل المهاجرين الشرقيين ينفرون من ثقافة بلدان المهجر.
يظل الشرقي شريفا في نظر مجتمعه وهو يقتل ويسرق ويزوّر ويكذب وينافق ويغش ويخون الامانة. كل هذه الامور التي تتعلق بحياة الاخرين وممتلكاتهم ومنافعهم لاتمس شرف منتهكيها. لكن الواحد منا يفقد شرفه دفعة واحدة حين تفشل (عرضه) في صيانة فرجها.
حرية المرأة بالتصرف بفرجها هو الحد الذي لا نسمح مطلقا التقرب منه مهما كنا متحررين. الفرق بين المديني المتحرر والريفي المتخلف ليس حول موضوعة الحرية الجنسية فهو حد مشترك بين جميع الشرقيين… الفارق بين الاثنين هو ان المديني المتحرر يثق بالمرأة ويعرف انها لا تمنح فرجها لمن هب ودب فهي بطبعها وغريزتها تميل الى اقامة علاقة ثنائية برجل تحبه والى اقامة عائلة، ولايعني خروجها وجمال ملابسها ورقة حديثها واختلاطها بالناس انها مقدمة على ممارسة الجنس لذا فإن (حدودهم) الاجتماعية تمنح المرأة حريات واسعة لكنها تتوقف عند حد الحرية الجنسية. اما الريفيون المتخلفون اصحاب التفكير البدوي فهم يعتقدون (ربما في لاوعيهم) ان المرأة عاهرة بطبيعتها، ولايمكن ان تكون عفيفة ومؤدبة دون رقابة صارمة، وما ان تتاح لها فرصة الاختلاط بالرجال حتى تسارع الى منحهم فرجها، لذا وضعوا حولها الاسوار حتى لاتسوّل لها نفسها بممارسة الجنس (غير الشرعي). ولتبرير تصرفهم المريض قالوا ان المرأة كلها فرج (كلها عورة) ويجب تغطية كل جسمها
(العورة) بل قالوا ان صوتها فرج (عورة) ايضا ويجب تغطيته (اخراسه) لمنع الاغراب من مضاجعته.!! انهم يعتقدون ان المرأة لا تملك اي حصانة ذاتية ضد ممارسة الجنس فما إن تنفرد بالرجل حتى يكون الشيطان (اي ممارسة الجنس) ثالثهما ..انهم لا يثقون بالمرأة نهائيا ويعتقدون ان المرأة ولمجرد ان يتساهلوا معها فانها ستمارس او تخطط لممارسة الجنس. هذه هي افكار العقل الجمعي البدوي وقد جعلوها مقدسة بعد ان احاطوها بمقولات دينية لذا فأن الحدود التي وضعها هذا العقل لا يجعل للمرأة اي متنفس. انها عملية خنق حقيقي. هذا هو لب ثقافتنا الشرقية (الخوف على فرج المرأة من الانتهاك) فما ان ننتقل للعيش في مجتمع غربي حتى يتحول هذا الخوف الى رعب حقيقي لصعوبة السيطرة على النساء هناك او على الاقل صعوبة مراقبتهن. نعم هناك فروق ثقافية وحضارية متنوعة بين المجتمعين الشرقي والغربي تصل الى حد الاختلاف في طريقة الطبخ، غير ان هذه الفوارق كلها (تنبلع) ومقدور عليها، لكن الفارق حول موضوعة الجنس لا يمكن (بلعه) بتاتا. هالة خذلت حريتها لانها ادركت انها ستكون مجرد عاهرة في نظر مجتمعها اذا استمرت بمنح الحرية لجسدها وروحها فعادت مدحورة امام قوة الضغط الاجتماعي. وعموما فأن حكاية (هالة) تذكرنا بمستوى التطور المديني الذي شهدته بغداد ابتداء من اربعينيات القرن الماضي والذي فقدته الان بعد ترييفها ..تخبرنا حكاية هالة كم كان المجتمع البغدادي متسامحا لدرجة السماح لهالة بعبور حدوده الاجتماعية.
النموذج الثاني لنساء بغداد الذي قدمته لنا الرواية هي سعاد (زوجة صالح يوسف ومطلقته لاحقا) وهي تمثل نموذج النساء الشائع في بغداد وقتذاك فهي راضية بوضعها الاجتماعي مقتنعة بالحريات التي وفرها لها مجتمع بغداد، تتجنب اغضاب المجتمع الذي تعيش فيه، فهي سافرة في بغداد لكنها تلبس العباءة عندما تنتقل عائلتها لمدينة الرميثة (المحافظة) ، تتعرف على صالح في لقاء عابر فتنشأ بينهما علاقة حب لاتتجاوز ماهو مالوف اجتماعيا، فلقاءاتهما تتم خلسة في اماكن عامة او في دائرته، ثم تقرر الزواج منه رغم معارضة امها (ترضخ لاحقا) ويتم الزواج وينجبان طفلين ويعيشان بانسجام الى حين عودة هالة. حكاية عادية ومألوفة في مجتمع بغداد.
هالة وسعاد كلاهما تمتعن بنعمة التطور المديني في بغداد، والفرق بينهما ان هالة تمردت على مجتمعها وحاولت عبور حدوده ثم تراجعت بعد اكتشافها صعوبة الانسلاخ من ثقافتها، في حين ان سعاد ظلت ضمن تلك الحدود كاغلب الناس. هالة حالة نادرة وسعاد حالة شائعة. ويمكن القول انه
رغم فشل تجربة هالة الا ان تمردها بحد ذاته مكسب عظيم لقضية التطور الاجتماعي كونه ضروريا لتقدم المجتمع فالمجتمع الساكن الخالي من المتمردين مجتمع محكوم عليه بالموت، وربما لهذا السبب انحاز اليها الكفائي وجعل بطله (صالح يوسف) يختارها مفضلا اياها على حبيبته الاخرى، وام طفليه، سعاد، وجعل القاضي العادل، حكمت ساطع، والد سعاد، يتفهم الموقف رغم مرارة طلاق ابنته من صالح…
بعد هذه القراءة اثبت ملاحظتين.
الاولى : أن رواية (عابر حدود) تحمل رسالة تحذيرية مهمة. فهي تحذر ابناء العراق من حجم الكارثة التي يعيشونها والتي هي تقهقر حالة المجتمع العراقي الى الوراء مسافة قرن تقريبا، فالمجتمع الذي تتحدث عنه الرواية وتصف حالة تخلفه، في القسم الاول منها، هو مجتمع الريف العراقي في عشرينات القرن الماضي حيث ابتدأت وترعرت احداث الرواية، لكن القاريء يكتشف بسهولة ان تلك الاحداث يتكرر حدوثها في المجتمع العراقي في زماننا هذا. فما ينطبق على وصف الريف في بدايات القرن العشرين نجده ينطبق على وصف المجتمع الريفي الان بل – وياللهول، ينطبق ايضا على وصف المجتمع المديني الحالي الذي تريّف وفقد مميزاته المدينية.
الملاحظة الثانية :
يقول الكاتب والروائي المعروف ابراهيم احمد عن الكفائي انه في روايته عابر حدود (ينفتح على اجواء ريف جنوب العراق وناسه برقة وعذوبة وحنو دافئ) وهو وصف صادق وشهادة حق، الا انني اعتقد ان الكفائي عاد الى الريف من بوابة بدايات القرن العشرين ليس بهدف التقاط صور تاريخية لمضيف (علي المارد) لمجرد ان يمتع القارئ. لم يقصد تصوير الماضي لانه مجرد ماض بل لانه حاضر نعيش بين ثناياه. الكفائي دخل الى اجواء ذلك التاريخ بروح قتالية للدفاع عن نسائنا الحاليات ضحايا مجتمعنا الحاضر. انني واثناء قراءتي للرواية تصورت (الكفائي) واقفا بين جنبات بدايات القرن الماضي يخاطبنا (نحن ابناء هذا الحاضر) قائلا: ها انتم قد عدتم الى هنا، الى بيئة ريف الزمن الماضي حيث كان يعيش اسلافكم، عدتم الى بيئة الريف بعد ان فقدت تلك البيئة عذريتها وفقدت المضائف طعم قهوتها وفقد الناس سلامهم الداخلي… ها انتم تريدون ان تكون بناتكم كما كانت (منتهى المارد) غير مدركين ان منتهى الامس ماتت وظل منها المارد الذي يملك الستلايت والموبايل والانترنت لينتقم بهذه المعدات العصرية من طغيان فحولتكم …ان ارحام مأساة النساء العراقيات حبلى
بالف الف (هالة) فويل للمتخلفين …
الكفائي لم يكن هدفه مجرد توثيق فترة تاريخية بصور اجتماعية عالية الوضوح بل ان هدفه تشخيص اسباب تخلف مجتمعنا الحالي الذي عاد الى نفس ممارسات اسلافه الريفيين حيث تبدو مأساة منتهى الان حالة يومية تكرر دون صراخ… استطاع الكفائي بذكاء استخدام (الصور التذكارية) لا بقصد أستذكار الماضي بل لانتقاد اوضاع المجتمع العراقي الحالي الذي عاد الى الماضي.
وأخيرا: اذا صدقنا رأي نقاد الادب القائل بأن اغلب النصوص الادبية لا بد ان تعكس بعضا من تجارب الكاتب الشخصية، فأين نجد الاستاذ حميد الكفائي في روايته (عابر حدود)؟ اعتقد ان هناك شخصيتين في الرواية تقمصتا شخصية الكفائي، اولهما شخصية (صالح يوسف) بطل الرواية فهو يشترك مع الكفائي في الكثير من الصفات، فالكفائي (كصالح يوسف) من ابناء سادة الرميثة، وعبر حدود بيئته الريفية (كصالح يوسف) الى بيئة لندن حيث درس وعمل فيها، وهو كصالح يوسف ليس مستعدا لعبور (الحدود) لانه كصالح يوسف (ليس متدينا … ولكنه ليس مستعدا لان يمارس حريته علنا حتى وان استطاع ص113) فلندن اتاحت للكفائي حريات فردية واسعة (كما فعلت بغداد الخمسينيات مع صالح يوسف) لكن ثنائي الكفائي – يوسف ظلا محافظين على قيمهما الشرقية ولم يعبرا (الحدود) .
اما الشخصية الثانية فهي شخصية القاضي (حكمت ساطع) التي تتطابق اراؤها مع اراء الكفائي التقدمية، فالقاضي حكمت يقول عن نفسه (لست شيوعيا لكني احترم الشيوعية والشيوعيين لانهم يضعون الانسان فوق كل اعتبار.. لست شيوعيا لكني اقيم فكرة المساواة والتعامل الانساني ص 148-149) وهذا القول ينطبق على الكفائي حرفيا.
ادعوكم لقراءة رواية الكفائي (عابر حدود) لأنها تجمع بين المتعة وشفافية الطرح والدعوة الى الاصلاح الاجتماعي.