رواية الملكات الصغيرات.. كليمنتين بوفيه

رواية الملكات الصغيرات.. كليمنتين بوفيه

“الملكات الصغيرات” (Les Petites Reines)، ميراي، أستريد، وحكيمة، ثلاث مراهقات من بورغ آن بريس، وقعن ضحايا مسابقة قاسية نُظمت على فيسبوك: فزن بلقب “الحلوى البرونزية” و”الحلوى الفضية” و”الحلوى الذهبية”، وهي ألقاب مهينة مُنحت للفتيات اللواتي اعتُبرن الأقبح في مدرستهن. وإذا كانت ميراي، الخبيرة في هذا المجال بعد فوزها باللقب لعامين متتاليين، ترد على هذا الهجوم بروح الدعابة والسخرية، فإن أستريد وحكيمة، الأكثر هشاشة، تعانيان بشدة.
يتشكل الثلاثي عندما تقرر ميراي مقابلة أستريد وحكيمة لدعمهما. بعد أن يتعرفن على بعضهن، يقررن الرد على هذه الهجمات من خلال قيامهن برحلة على متن دراجات هوائية إلى باريس. ​​أميال من الأسفلت، وعضلات بطّات تعاني الألم والإرهاق. في منتصف الطريق بين التمرد الاجتماعي وتذوق الطعام، سيحولن إذلالهن إلى مغامرة، برفقة قادر، المعروف أيضا باسم “الشمس”، الأخ الأكبر لحكيمة.
آه، مواقع التواصل الاجتماعي، ذلك الملعب الرائع حيث يمكن لأي شخص أن يصبح قاضي جمال. ما كان يمكن أن يكون مأساة لمعظم الفتيات يصبح فرصة لميراي. سلاحها السري؟ الفكاهة.
ها هن “الملكات الصغيرات” يجبن الطرقات ويثرن ضحكات الناس أينما حللن. تصبح الرحلة احتفالا بحد ذاتها. تصبح “الملكات الصغيرات” نجوم دواسات الدراجات، رموزا رغما عنهن، ويتحول إذلالهن السابق إلى ملحمة إعلامية حقيقية. وكل هذا، دون نشرهن أي منشور على تيك توك!
تجذب رحلة الفتيات الثلاث، المليئة باللقاءات والتجارب غير المتوقعة، انتباه وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي، مما يحول مغامرتهن إلى ملحمة حقيقية.
مع “الملكات الصغيرات”، تدعونا كليمنتين بوفيه إلى رحلة أدبية شيقة ومؤثرة، متمكنةً من تناول مواضيع جادة بنبرة فكاهية وعفوية. كتابتها حيوية، ثاقبة، مليئة بالخواطر الساخرة والسخرية من الذات. ستضحكون على كل شيء: التنمر، رهاب السمنة، عبثية وسائل التواصل الاجتماعي… نعم، إنها جريئة. نعم، إنها مؤثرة. لماذا؟ لأن كل شيء مكتوب بصدق آسر. يكمن وراء كل نكتة تأمل عميق في تقبّل الذات، والصداقة، وهذا المجتمع الذي تغلب عليه السخافة، حيث يحكم الجميع على بعضهم.
في قلب القصة، يُسلَّط الضوء على التنمّر المدرسي، يُصبح التصنيف المُهين رمزا لعنفٍ خبيثٍ يعاني منه الكثير من المراهقين والمراهقات. ومع ذلك، وبعيدا عن الانغماس في الشفقة، اختارت كليمنتين بوفيه أن تُظهر كيف تُحوّل بطلاتها هذه المحنة إلى مغامرةٍ مُحرِّرة.
في “الملكات الصغيرات”، تُجسّد ميراي، الراوية ذات السخرية اللاذعة والرد السريع، هذه المرونة. لا تخفي قدرتها على السخرية من نفسها جراحها تماما، لكنها تكشف عن قوة داخلية مُلهمة. أما أستريد وحكيمة، فتعكسان ردود فعل مختلفة على الإذلال: غضب إحداهما وخجل الأخرى. يصبح لقاء الثلاثة بمثابة نَفَسٍ منعش، لحظة محورية يقررن فيها استعادة السيطرة على حياتهن.
هكذا تُدين كليمنتين بوفيه طغيان معايير الجمال. من خلال وجهات نظر شخصياتها، تُدين مجتمعا يُقدّر المظهر على حساب التنوع. يشوب هذا النقد سخرية واضحة، كما هو الحال عندما تلوي مصطلحات مُهينة لتُحوّلها لصالح الثلاثي. بهذه الطريقة، تُمثّل “الملكات الصغيرات” نداءً حيويًا لقبول الذات. يضحكن، يقلّلن من شأن الدراما، يضعن الأمور في نصابها، ويجرّبن أساليب دفاعية أخرى.
ليست الرحلة من بورغ آن بريس إلى باريس مجرد ركوب دراجات وحرق دهون، بل هي أيضا رحلة روحية، رحلة تُشبه سباق فرنسا للدراجات من أجل تطوير الذات. بين التشنجات العضلية والإطارات المثقوبة، يتعلمن بناء صداقةٍ تُثير فيهن روح الحماس والتطور الذاتي. من كان ليتخيل أن رحلةً على متن الدراجة الهوائية يمكن أن تُصبح علاجا جماعيا على عجلتين؟
برفقة قادر، الملقب بـ”الشمس”، تتقدم “الملكات الصغيرات” في رحلتهن المليئة بالعثرات والمتاعب. قادر، الجندي السابق، هو المرشد الروحي، البوصلة العاطفية، وحَكَم الخلافات. دون أن يفقد هدوءه، يُقدم دروسا حياتية برحمة راهب بوذي.
في كل محطة، يُقام مهرجانٌ من اللقاءات غير المتوقعة: بعضها مؤثر، بعضها مُضحك، وبعضها ربما يكون مُفرطًا في إدمان الكحول المحلي. تُمثل هذه التفاعلات صدمةً وجوديةً لهن. باختصار، يركبن الدراجات، يحققن نموا، ويأخذننا معهن.
من جانبها، أتقنت كليمنتين بوفيه فنّ المراوغة: فبين فقرات سردية شيّقة ومقالات خيالية تفوح منها رائحة سبق صحفي سهل، تستكشف ببراعة قوة وخطر الإعلام. ولنكن واضحين، فالإعلام ليس مجرد ذئاب شريرة تنتظر العض. صحيح أنه يُضخّم أسوأ جوانب وسائل التواصل الاجتماعي، لكنه يمنح الفتيات أيضا فرصة لاستعادة السيطرة على سردياتهن.
كتابة كليمنتين بوفيه رائعة. أسلوبها المباشر والجريء يُضفي حيوية على حواراتها الشيقة وتأملاتها الذكية. نبرتها الفكاهية لا تُنقص من جدية المواضيع التي تتناولها، بل تُشكّل توازنا يُمكّن القراء من استيعاب المواضيع الصعبة مع بقائهم منغمسين في أحداث القصة.
تلاعبها بالتفاصيل العاطفية وتجسيدها الفكاهة اللاذعة، مثالي، جعلني أضحك بصوت عالٍ! فكاهتها مُعدية، ترفع المعنويات، وتُشكّل علاجا نفسيا حقيقيا!
الفكاهة فعالة بشكل خاص في توصيف شخصيات الرواية. ميراي، ببراعةٍ لا مثيل لها في الردود، بطلةٌ لا تُنسى، لاذعةٌ ومحبوبةٌ في آنٍ واحد. تتناقض نظرتها الساخرة للعالم ولنفسها مع رقة حكيمة وصراحتها، أو مع سذاجة أستريد. يُثري هذا التباين بين الشخصيات الحبكة، ويجعل كل تفاعلٍ بينها مُثيرا.
تقدم لنا رواية “الملكات الصغيرات” أيضا نسوية عملية وفعّالة، دون أي متاعب أو كتيّبات مُعقّدة. هنا، لا توجد خطابات نظرية مُبالغ فيها، قائمة على تفكيك الأعراف الأبوية، بل نسوية تُعاش على عجلتين، مع الأصدقاء، وجرعة جيدة من الشجاعة. ميراي وأستريد وحكيمة لا يتجاهلن الإهانات فحسب، بل يحوّلنها إلى وقود للمضي قدما (حرفيا، حتى باريس). العبرة: التضامن النسوي كإطار عجلة هوائية مُنتفخ جيدا، يدور بشكل أفضل!
ليست “الملكات الصغيرات” مجرد رواية طريفة وخفيفة الظل، إنها قصيدة عن الصمود، ودعوة للصداقة. تجيد كليمنتين بوفيه الحديث عن الأمور الجادة دون أن تقع في المبالغة.
إن ضحكك أثناء قراءتك هذه الرواية ليس أمرا طبيعيا فحسب، بل يُثبت أيضا ذوقك الرفيع، وحسك الفكاهي الحاد، وقلبك العاشق للأدب الرفيع.

أحدث المقالات

أحدث المقالات