23 ديسمبر، 2024 2:14 م

رواية ..القريبة كاف للكاتب الجزائري ياسمينة خضرا : لاعَمى أسوأ مِنْ ألاّ يلاحظ َأحدهم وجودك

رواية ..القريبة كاف للكاتب الجزائري ياسمينة خضرا : لاعَمى أسوأ مِنْ ألاّ يلاحظ َأحدهم وجودك

الناشر :دار الفارابي
ترجمة :نهلة بيضون 
الطبعة الاولى : 2011

تقنية الغموض
حبكة متواترة ومتوترة وعدد محدود جدا ًمن شخصيات تبدو وكأنها ظلال  نماذج مسرحية لكافكا أويوجين يونسكو أوهارولد بنتر،تتحرك تحت مساقط  ضوء على خشبة مسرح ذي بنية معمارية دائرية،لاتتيح لنا بشكلها هذا أن نراها واضحة،فيكتنف ماضيها غموض وظلال قاتمة،لم يشأ المؤلف أن يكشف شيئا عنه،ولاعن المكان الذي تنزوي فيه.إلاّ أنَّ القارىء يشعر بها وبأعبائها النفسية والوجودية.
تقنية الغموض إستعارها المؤلف من تضادات التعبيرية ومسرح العبث،فلعب على أوتارها،مُجَرِدا ً الشخصيات من أسماءها ودلالاتها،بأستثاء شخصية الأخ الاكبرأمين ـ الضابط في القوات المسلحةـ فبأستثناءه إرتأى المؤلف أن يختار التجريد أسلوبا في تقديم شخصياته،تحيط بهم بيئة صحراوية قاسية غير مؤطرة بخارطة جغرافية معروفة،إنعكست بقساوتها وتجريديتها على تركيبتهم النفسية،فكانت تبدو أمامنا حيوات مأزومة بعلاقتها الوجودية مع ذاتها وعلاقتها مع الآخر.
ينكشف التعارض بين الذات والموضوع ــ الذي هو الوحدة المركزية في الفلسفة الوجودية ــ في شخصية الأخ الأصغر الذي هوالشخصية المحورية /الساردة للاحداث. ومحور أزمته هو أستلاب الآخرين لذاته(الأم،القريبة كاف،الأب المشنوق وماضيه الغامض) وعجزه عن أستعادتها بالتواصل مع ذوات الآخرين .
المُنجَز الشّكل
الكتابة عن المحتوى في هذه الرواية لايشكل أولويَّة ازاء ماتُشكِّلهً تقنية الكتابة من قيمة فنيّة لجأ اليها المؤلف ياسمينة الخضرا. وبذلك يتفق نَهجَهُ مع ماجاء في مقالة ٍعنوانها(التقنية بوصفِها إكتشافا ً) للناقد مارك شورر:”النقد الحديثْ أظهر لنا،بأنَّ الحديثَ عن المُحتوى في حدِّ ذاته ليس حديثا عن الفن أبدا ً،ولكن حديثا ًعن التجربة.وأننا لانتحدث بوصفنا نقادا إلاّ حين نتحدث عن المحتوى المُنجز/الشكل،أي العمل الفني بوصفه عملا فنيا ً،والفرق بين المحتوى أوالتجربة والمحتوى المنجزهو التقنية. إذن فحين نتحدث عن التقنية فإننا نتحدث عن كل شيء تقريبا ” . وفق هذا المنظورالنقدي فإنَّ المفردات التقنية الكلاسيكية في البناء السردي (عقدة وشخصية ومحيط وفكرة مركزية) لم يعد ينحصر حضورها في بنية الرواية فقط بل تعدى ذلك الى النص المسرحي.ولم يعد لها تلك الاهمية مقابل تطبيقات أخرى تتعلق بالعلاقات التي ينبغي على المؤلف الأخذ بها وتتضمن :-علاقة المؤلف بالسارد،وعلاقة السارد بالقصة،والطرق التي بواسطتها يوفران مدخلا إلى عقول الشخصيات وأمور تخص وجهة النظر.
السَّارد المُمسرَح
يفتتح المؤلف ياسيمنة خضرا روايته بهذا الأهداء: “الى اصدقائي في جمعية محبي الأدب البوليسي إلى المسافرين المدهشين الذين صادفتهم في الرحلة من سان مالمو إلى دابلن،إلى الأسبوع الزنجي في خيخون،إلى كل اصدقائي “. عتبة الاهداء هنا تعد مدخلاً مهما للقارىء وهو يتهيأ للدخول الى المبنى الجمالي للخطاب السردي في رواية القريبة كاف،بواسطتها منَحَنَا الكاتب إشارة فنية حول تقنية الكتابة بإطار بوليسي،ومن خلال هذا الإطار قصد تقديم سرديته،ومايتبع ذلك من عناصرأخرى شكلت  قيما جوهرية في أسس المعمار الفني ألذي شاءه لهذا العمل كالبِنية والصورة،والاستعارة،والرّمز التي تفرض حضورها في السرد بأعتبارها تقنيات يتم اللجوء إليها لتحقيق موضوعيته بأعتبارها وسائل قوية في تمثيل الوعي .
السارد في رواية القريبة كاف يأتي بناءه ضمن صيغةالسارد المُمَسرح الحامل لصفاتِ شخصية ٍ،كما يسمِّيه الناقد واين بوث حيث يستحوذ لوحده ــ مُهيمنا ً ــ على سرد الأحداث،إنطلاقا من وجهة نظره التي يكشف فيها مايختبىء داخله من أحاسيس ومشاعر تجاه العالم الأجرد الذي يحيط به في قريته( دارة يتيم)وتجاه القريبة كاف التي يعشقها ويكرهها بنفس الوقت لأنها تعرف كيف تستفزَّه وتستهزىء منه،كذلك تجاه والدته التي لاتشعر بوجوده،ومن خلال هذا السارد المُمسرَح الحامل لصفات ِشخصية ٍ،يوصِلُ المؤلف القِيَمَ والافكار الى القارىء:”الزمن يمضي ولاينتظرأحدا ًوكل مراسي العالم لاتستطيع أن تمسك به،لامرفأ يعود إليه،الزمن إنّه مجرد ريح تعبر ولاتعود أدراجها ” .
إعتمد ياسمينة على تغيييب السارد المُنتِجَ للرواية مقابل إستحضار شخصيةالسارد الأوحد الذي يحكي لأنَّه يدرك الاحداث،باعتباره الشخصية المحورية التي تدرك وتسرد الاحداث بنفس الوقت من وجهة نظرها  لوحدها.والسارد هوالأخ الأصغر لعائلة مؤلفة من الأم وشقيقه الأكبر أمين وشقيقة متزوجة لاوجود لها في حياة العائلة حتى أن الأخ الأصغر قد نسي أسمها. “وعلى غرار سمك الشَبَق الذي قُبلتُهُ لاتنفصِلُ عن عضَّته”الأخ الأصغرلايحالفه التوفيق في كسب حُبِّ الأخرين،رغم دافع الحب الكبير الذي يحمله لجميع من يرتبط بهم ضمن دائرة العلاقات الأجتماعية لعائلته.
بأستثناء مايحمله الأخ الاكبر من حب له،لكنه هو الآخر سيغيب طويلا بعد أن يُصبح جنرالاً عسكريا مَرموقا.ورغم مثابرته لأجل أن يُعبِّر ويعكس مافي داخله من مشاعر الحب،إلاَّ أنَّ اسلوبه الأخرَق بات سببا في أن يجعل من يرغب في كسب مودَّتهم لايعيرون له أهمية رغم مايبذله من إسراف في بعض الأحيان للتعبيرعن دوافعه،بما في ذلك الشابة الذكية القريبةالنّسب المُدللة كاف،والتي تعدًّه كريها في أريحيته “أخفقتُ في كل المساعي التي بذلتُها لكي أستحقِّها رغم أن مساعيِّ كانت محمودة،لكن مافعلته لم يكن كافيا،إن الخير المصنوع بصورة سيئة هو إساءة لاتُعذر لسببين.لإخفاقها أولا.وللأنتقاص الذي تتماهى معه ثانيا ً،أمّا الشَّرالذي يَنفذُ بجلدِه فهو نجاح خالص،وكل خيرات الأرض لن تبلغ كاحله “.
تَسكُنُ الأخ الاصغر مشاعر مضطربة تتأرجح مابين الغيرة والحسد والاحساس بالدونية والعَدَم،ليسقط أسير حالة نفسية جوهرها العجزعن كسب تفاعل ومحبة الأخرين:”لاأكترث للحاق بالرَّكب،والمضي إلى عَثرات ٍأخرى،لاأعبأ بترقب العودة الخَلاصية لمسيح ما.البشر يضايقونني.الغدوات لاتغريني.خساسات الارض لاتطالني.لاأهتم لحُلم يموت أكثر من أهتمامي بورقة شجرة دلب لطَّخَها الخريف.أبقى خلف مرآتي،حصنا ًمنيعا ً،ألوذ بلحظاتِ وحدتي وأصغي،وهو فضولٌ لايورِّطني في شيء “. .
حياة هاربة
في صباح يوم بعيد عندما كان الأخ الأصغرفي الخامسة من عمره وجد والده مشنوقا ً بطريقة مهينة في زريبة حيوانات البيت وهوعار ٍ من رأسه إلى أخمص قدميه،مفقوء العينين وقضيبه في فمه.هذه الصورة تركت أثرا ً عميقا ًفي داخله،حتى أنه لم يرجع إلى الزريبة مرة ثانية كما كان يفعل للتَّنعم بمشاهدة العجل الصغيرالذي كانت بقرتهم قد ولدَته قبل أيام معدودة من الحدث :”لن أتعلق بعد اليوم بما ليس بوسعي أن أحافظ عليه “. ايضا الأهتمام المُفرط والحميم من جانب والدته بشقيقه الأكبر أمين الضابط في الجيش الجزائري يترك أثرا ً مؤذيا ً لذاته.هذه المؤثرات دفعته لأنْ يتوارى وينعزل “تعلمتُ منذ نعومة اظفاري أن أختبىء.لم أكن خائفا ً،ولاأحدَ كان يلاحقني.أختبىء حالما أتوارى عن ناظري أمي.يتراءى لي،كلما أشاحت ببصرها عني،أنني أختفي،وأكف عن الوجود”.
الأم سيدة ثرية تهيمن على كل شيء في قلب دارتها الشبيهة بالحصن “يحني الناس رؤوسهم حين يخاطبونها بل يكادون يخرّون ساجدين أمامها.في البداية كان الأمر يحرجها.ومع الوقت،طاب لها هذا ألاسراف في التبجيل وتملق المتزلفين وطعم الامتيازات،فتنامت لديها متعة ماكرة بالاشراف على عالمها من عل لكي تُحسن تمريغه في الوحل” . لم تنطبع شفتاها يوما على وجنتيِّ ابنها الاصغر،ولامسّدَت أناملها شعره،وبنفس الوقت لم تضربه ولم تحرمه من شيء،يعيشان معا ولكن كل منهما يتجاهل الآخر فكان يشعرُ كما لو أنه وصَل سهوا ً إلى سيركٍ غادره روَّاده . بينما كانت الأم تبتسم على حين غرّة عندما تتكور القريبة كاف في أحضانها أو إبنها الاكبر أمين،فيتوهج وجهها الجامد القسمات،توهجا ً أشبه بهالة من نور.حتى أنّهاالتعاسة كانت تتملكها حين تشعر أن فلذة كبدها الأبن الاكبر لايعير لها اهتماما ولو للحظة.ولم تسمح لأي شخص أن يطأ غرفته عندما يكون غائبا ً،فالغرفة بالنسبة لها أشبه بمعبدٍ،وهو طفلها المدلل الذي لاترتضي لنفسها أبدا ً أن تسرقه منها( أمَل )المرأة الشابة التي إختارها أمين لتكون زوجته فجلبها معه إلى بيت والدته بعد غيبة طويلة في المدينة البعيدة التي يؤدي فيها واجبه العسكري.
 حياة الأخ الاصغر وسط بيئة كهذه كانت تهرب بغباء،يوما بعد يوم،ليلة بعد ليلة،وتستثير رغبته بالرقاد حتى يُقبِلَ الموت،إلاَّ أن َّ قراءة الكتب علمته أنَّ الكتابة تمرين إنهزامي،ومحاولة للهروب إلى الأمام،كان يقرأ كما ينبش المرء حقائق مكروهة ليصل الى قناعة كان سارتر قد سبقه في التوصَّل إليها :”الجحيم هو الآخرون “. لم يكن يعيش حياته،مكتفيا ً بوجوده كأخدود ٍ على دربْ :”فليذهب الزمن الى الجحيم ! حين لاتكون القريبة كاف  هنا،بالكاد تستحق الأمورأن يتلكأ عندها المرء ” . تولدت لديه مشاعر غيرة وانتقام من القريبة كاف.الفتاة النّابغة التي تحصد الجوائز في المدرسة،والتي كلما تجيء الى بيتهم تستحوذ على كل الأهتمام،الكل يدور في فلكها،فاأدرَك أن َّالاعمى ليس من لايُبصِر،بل من لانُبصِرهُ،ولاعَمى أسوأ مِن ألاّ يُلاحِظ َأحدهم وجودك.هذه المشاعر الشريرة والحقودة كانت كافية لأن  يتورَّط بدفع القريبة كاف ــ بينما كانت تلهو وتلعب ــ لتسقط في بئر يقع وسط مزرعة قديمة مهجورة،وليعود هو إلى الدار وكأن شيئا ً لم يكن :”لا لأنني لم أدرك ماذا فعلتْ بل لأنني أعتبرتُ فقط أنَّه لاداعي للندم عليه “. يتم العثور عليها في أعماق البئر وقد كُسِرت إحدى ساقيها وجحظت عيناها رعبا ً.وباتت الظلمة ترعبها وتمضي وقتها تُنقََلُ من عيادة إلى مصحة عقلية.ولم يُخامر الشك أحدا ً بان ألأخ الاصغر هو من قام بتلك الفعلة  . وفيما بعد ستدفعه المشاعر نفسها لأن يقتل فتاة غريبة بائسةٍ،يقذف بها سائق تاكسي من سيارته،ويغادر مسرعا لتكون أمام قدرها المحتوم  في بقعة موحشة سكانها يكرهون الغرباء،ولامِن سيارة أجرة تعيدها الى بيتها في ساعة الغروب،فأهل القرية يعتقدون أن السَّفر في الليل يجلب الشؤم،لذا يتوجب عليها التريث حتى الصباح،وماكان أمامها سوى قبول دعوته لها للمبيت في دارهم.
ولأنه سجين نفسه،وفي آن واحد سجينٌ وسجانْ،يقبع طيلة حياته في جزيرة عنوانها الانتظار،جزيرة أقصيت من حولها ألآفاق.فيشعر وكأنه يتعفَّن في مأوى للعجزة.فجأة تندفع مشاعر بغض وكره تراكمت في ذاته نتيجة  تجاهُل ٍ كان قد لقيه من الأم والقريبة كاف،تنفجر دفعة واحدة عندما يجد أن الفتاة الغريبة هي الأخرى مثل القريبة كاف تنتقص منه وتعامله بتجاهل فلاتطلب منه أي شيء :”مامعنى أن لاتطلبي مني شيئا ينقصك،مالعيب في أن يرغب المرء بإسداء خدمة،أو بمدِّ يدِ العون،أو التصرف بأريحية ؟ ” .فتهرع يدهُ من تلقاء نفسها لتتناول سكينا ً وتبدأ بطعن الفتاة،ولم تفلح الدماء التي لطخت ثيابه والجدران من أن تجعله يصحو من سكرة اندفاعه المحموم،ولاحتى الصمت الذي أعقب الطعنات المتلاحقة،ظل مستسلما لشعور فادح ٍ ماأنفك يلازمه على أنَّ وجوده عدم،وأنْ لاأهمية له طالما الاخرون ليسوا بحاجة إليه :”في أعماق محنتي،أنني ماكنتُ لأغير شيئا حتى لو شئت ذلك حقا “

*ياسمينة خضرا هو أسم زوجة الكاتب الجزائري محمد مولسهول، إستعاره ليكون إسما فنيا ً يطل من خلاله الى العالم .