18 ديسمبر، 2024 11:48 م

رواية .. ألعَار للكاتبة البنغلاديشية تسليمة نصرين : التَطهُّر مِن جَحيم ِالعُنف الطائفي

رواية .. ألعَار للكاتبة البنغلاديشية تسليمة نصرين : التَطهُّر مِن جَحيم ِالعُنف الطائفي

توطئة ..
اثارت هذه الرواية عندما صدرت عام 1992 رد فعل عنيف جدا تجاه الكاتبة تسليمة نصرين من قبل جميع الاوساط الدينية والاحزاب الاسلامية المتطرفة في بنغلادش،إلى الحد الذي خصص أحد الاثرياء مكافاة نقدية  ثمينة لمن يقتلها. وبناء على ذلك وجدت نفسها تقف أمام القضاء للمحاكمة ،لكن تداعيات القضية دفع العديد من المنظمات الدولية المعنية بحقوق الانسان وحرية الرأي والتعبيرللوقوف الى جانبها،ولتتمكن بعد ذلك من الهرب خارج البلاد واللجوء الى النرويج.واشكالية هذه الرواية تعود الى ماأقدمت عليه الكاتبة من نقد قاس ٍ للفكر والعنف الطائفي الذي باتت تشهده بنغلادش منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي من قِبل مجموعات اسلامية متشددة .وخصوصية هذا العمل وحساسيتة جاءت من أختيار الكاتبة  لعائلة هندوسية ـــ وليس عائلة مسلمة ــ تقع عليها تبعات العنف الطائفي، فبدا ذلك للجماعات الاسلامية المتطرفة إستفزازا ً وانحيازا ًصارخا ً للهندوس ضد المسلمين ــ خاصة وأن الكاتبة إمرأة مسلمة ــ ليصل الامر بهم الى أعتبار ذلك ارتدادا واضحا وصريحا من قبل الكاتبة عن الدين تستحق بموجبه القتل .

المقولة المعمارية للنص .
ظاهرية الزمن في البناء السردي للرواية إنزاح الى محاورة تتأرجح مابين ديمومة البناء الواقعي والتعديل بأتجاه كسرالمسارالكلاسيكي للبناء وذلك بالعودة الدائمة الى الماضي ،من خلال ذلك كانت نصرين تعبُر بالسارد الى تبادل المواقع مابين الحاضر والماضي ، ليصبح السرد هنا ميدانا لتشكيل بنية الحكاية الواقعية في مخيلة المتلقي ، خاصة أن النص الروائي قد ضُخت اليه تنصيصات تاريخية متعددة كان الهدف من أستحضارها وبثها ضمن المتن الحكائي:استجماع تحققات ٍحدَثية ٍبأرقامِها وتواريخها لتحييد التزييف والتلفيق في الخطاب الفكري الذي يبثه النص،فتم الكشف من خلالهاعن مفاصل واقعيةعمّقت أرضية العنف التي تستدير حولها احداث وشخوص الرواية،ومالم ترد تلك التفاصيل بارقامها وتواريخها ماكان بالامكان إحداث هذا الوخز المؤلم في الضمير لدى القارىء خاصة وان الهدف من ولوج عالم السرد الروائي بطاقته التخييلية لمعالجة هذه الموضوعة من قبل المؤلفة لم يكن الهدف الرئيسي منه الاستغراق في منطقة البناء الفني والانشغال الجمالي في تحقيق مقولات معمارية تتواجه مع نوايا التحديث والتجديد في اطار الخطاب الشكلي للبناء الروائي ، بقدر ما كان الهدف الذي ارتبطت به أحلام الكاتبة هو الوصول الى مخطوطة روائية تتقصد من خلالها ممارسة نوع من الضغط الصريح والادانة القاسية للعنف الطائفي ،عبر لغة فنية تستعيرمن بنية الخطاب الروائي منطوقا معاصرا ًلايخرج عن معمار الذاكرة الواقعية في سياقها العام  .

مناظرة الواقع التاريخي
لاننا في إطار اهتمامنا ومتابعتنا للنتاج الروائي بقينا عند عتبة الادب الاوربي ومن ثم ادب اميركا اللاتينية بعد ذلك ولم ننعطف بأتجاه ماتنتجه المخيلة السردية الاسيوية( الصين ،اليابان ،شبه القارة الهندية ، الفلبين ، تايلند الخ ..) ،بقيت اجوبتنا ناقصة ولاتعكس في تجاذباتها الجدلية معنى وشكل المنظورالسردي بأوسع وأعمق صورة تقتضيها مقاييس الرؤية النقدية لمجمل الانتاج الروائي العالمي. مع أن التناظر السردي الاسيوي فيه الكثيرمن التفاوت والقص الذي ينبغي إستكشافه والاطلاع عليه ..
رواية العار للكاتبة البنغلاديشية تسليم نصرين هي نموذج للسرد الروائي الواقعي بسماته المرئية،ويتأمل في مزاعمه الفنية التي تأطر بها،واقعا معاصراً تعيشه بنغلادش بكل تفاصيله حتى هذه اللحظة،وقد أرتأت نصرين أن تطلق العديد من الارقام والاحداث والوقائع داخل النص باعتبارها وثائق تاريخية لتمكن القارىء من إعادة صياغة الاحداث حتى تصل الى ماكانت تخطط له من كشف ملابسات مؤلمة وفجائعية لتاريخ دموي يخضع لسلطة التخندق الديني بكل اشتباكات العلائق الاجتماعية داخل المجتمع البنغلاديشي الذي تأسس مع ظهور دولة بنغلادش عام 1971 “بعد نضال وطني وقومي طويل ،مُستقلة ٍ بذلك عن باكستان التي كانت بدورها قد حصلت على الانفصال عن الهند عام 1947 .”
ورغم ان دستورالدولة الجديدة يقوم على مبادىء علمانية ترفض التمييز أو التفريق بين المواطنين بسبب الدين أو الاعتقاد إلاّأن الواقع على الارض كان يكرِّس تصنيفا وعنفا طائفيا ، وفّر له الفقروالجهل والدكتاتورية مناخا ملائما للظهوروالشيوع، فلم يعد للعلمانية من وجود إلاّ في سطور الدستور.  .
رواية العار تبدأ من لحظة دراماتيكية معاصرة كانت قد عصفت بالبلاد في 6 ديسمبرعام 1992عندما هدم المتطرفون الهندوس في الهند مسجدا يعود تاريخ بنائه الى 400 عام . ليبدأ بعدها تاريخا وحشيا من العنف الطائفي المتبادل بين المسلمين والهندوس في القارة الهندية عموما  ولتنال  بنغلادش نصيبها كبيرا ً منه  .
الرواية تتمحور احداثها حول مصير عائلة هندوسية بنغلاديشية وما ينعكس عليها من احداث ووقائع مؤلمة نتيجة عجلة العنف الطائفي التي تدور رحاها في البلاد،وتتألف  شخوص العائلة من الاب سودهاموي والأم كيرونموي والابن سورنجان والابنة مايا،ورغم الهوية العلمانية والانتماء الايدولوجي الماركسي الذي تدين به هذه العائلة لكنها لم تستطع أن تتفادى هذا العنف .
سورنجاي الابن يخاطب والده سودهاموي :”مهما قلنا أننا ملحدون ،أو اننا إنسانيون،هؤلاء الذين في الخارج سيقولون أننا هندوس، سيقولون أننا أولاد حرام.كلما أحببناهذا البلد،كلما فكرنا أنه وطننا، كلما أجبرونا على الانحناء في الاركان .. كلما أحببنا أناس هذا البلد، كلما عزلونا .. لانستطيع أن نثق فيهم ياأبي . أنت عالجت الكثيرين منهم بدون مقابل ، ولكن كم منهم أتى ليقف بجانبك في محنتك ؟ عاجلا ً أو آجلا ً سوف نُدفَعُ جميعا تحت أحد الجسور لنموت . أبي ، دعنا نذهب … دعنا نذهب .. “
ثم يأتي الحدث الاساس الذي تتمحور حوله الرواية عندما يتم  اختطاف الابنة مايا من داخل البيت وأمام مرأى الاب والام من قبل مجموعة اسلامية متطرفة تقتحم الدار وتبدأ بتحطيم كل الاثاث المنزلي قبل اختطاف البنت : ” بجنون ووحشية واصَلَ الشبان تدمير ممتلكات آل دوتا . أفراد الأسرة العاجزة والصامتة راقبوا بيتهم وهو يتحول إلى خراب ..ثم إنفكَّ سحرالصمت عنهم عندما أمسك أحد المعتدين الابنة مايا .. صرخت أمها في رعب وتأوه وسودهاموي المريض . في محاولة يائسة للنجاة أمسكت مايا بيد السرير . جرت أمها وألقت بنفسها فوق أبنتها في محاولة مستميتة لحمايتها . ولكن المعتدين القساة جروا كيرونموي من فوق إبنتها وخلصوا قبضة مايا عن السرير ورحلوا بنفس السرعة التي جاءوا بها ، حاملين معهم الجائزة التي فازوا بها . إستعادت كيرنموي نفسها وجرت وراءهم تصرخ وتتوسل :- ارجوكم اتركوها ، ارجوكم اتركوا ابنتي .” 
بعد هذا الحدث تبدأ رحلة البحث اليائسة عن مايا  من قبل سورنجان( الابن) من خلال رحلة البحث هذه واثنائها التي يتوغل فيها بين الازقة والشواع والييوتات الخلفية التي اكتست بكل مظاهر العنف إبتدا ً من الاستيلاء على البيوت وتهجير السكان  الى حرق مصادر الرزق والاستيلاء على المزارع والحقول واغتصاب النساء وقتلهن يصل المطاف بسورنجاي الى لحظة درامية يتحول فيها هذا الشاب الثوري العلماني الذي ورث هذه الافكارعن والده الطبيب الى متطرف هندوسي هو الاخر يؤمن مرغما بالعنف كوسيلة وحيدة للرد والدفاع عن النفس وعن الانتماء الديني الذي لم يكن خاضعاً لمعرفيته التاريخية والايدلوجية ، سورنجاي :”كل هذا لغو وهراء . فريق يقتحم الميدان بالسكاكين والفؤوس بينما الفريق الآخر يرد بأصوات مرتفعة وأياد عزلاء . هذا لن يجدي .الفأس يجب أن يقاتل الفأس . من الحماقة أن نواجه سلاحا ً بأيدي عارية . “
هناتعمد الكاتبة إلى : صياغة لحظة مفارقة لشخصية الابن،وذلك من خلال مشهد يتم بناؤه بشكل مُعبّر إذ يجمع فيه سورنجاي كل ماتحويه مكتبته من كتب ومصادر معرفية كانت زاده في تأسيس مفاهيمه المعتدلة ويحرقها ، لتلتهم النار ماركس و طاغورو لينين وكل الاسماء التي صاغت فكره العلماني المترفع عن التخندق الديني والقومي الذي يؤرخن الواقع البنغلاديشي المعاصر بكل حساسية وتوتر .
ولكي ترسم نسرين تأويلها المتشائم بقصدية واضحة للواقع الذي إستندت الى أحداثه وشخصياته ورموزه السياسية الواقعية نجدها تأخذ شخصية الاب( الطبيب) المتقاعد سودهاموي الى لحظة ينهزم فيها جسده أمام رهان التفاؤل والاعتدال الذي ظل يؤمن به طيلة حياته كبرهان ٍوحل ٍلمعظلة التطرف الذي يتلبس وعي المجتمع البنغلاديش ، وليسقط جسده صريعا ، كمعادل فني لسقوط مفاهيم الاعتدال، أمام عنف الافكار المتطرفة ، ولم يعد قادرا ًعلى تحريك النصف الايمن من جسده ،وبذلك توسّع  نصرين  فصول المأسأة بكل اعتباراتها الانسانية طالما سقطت الفكرة التي ظلت تستجيب للوعي والمنطق عبر شخصية الطبيب التي لم تكن تتردد في مواجهة التباسات التطرف الديني باعمال انسانية يذهب فيها دون مراعاة للمخاطر الى أماكن الطرف الاخر لمعالجة المرضى من الفقراء دون مقابل من غير أن يتوقف أمام الانتماء الديني والعرقي،بل إنه كان سارحا بخياله واحلامه بعيدا عن عتمة الواقع : ” كنت اقول أهدموا كل بيوت العبادة الى الاساس ، ولنبن مكانها حدائق ومدارس للاطفال. من اجل خدمة الانسان فلتتحول دور العبادة إلى مستشفيات وملاجىء للايتام ومدارس وجامعات ،إلى معاهد للعلوم والفنون والحرف اليدوية ،إلى حقول أرز خضراء تغمرها الشمس ، وأنهار زرقاء متدفقة وبحار صاخبة . فلتطلقوا أسما ً آخر على الدين وهو الانسانية ” 
الطبيب سودوهامي الذي يمثل الطبقة الوسطى بكل حيويتها ووعيها الوطني كان مُصِرَّا ًعلى عدم مغادرة وطنه بنغلادش رغم فقدانه لكل ماكان يملكه من بيت فخم  واراض زارعية كان قد ورثها عن اجداده الذين ولدوا عاشوا في هذا المكان،ولم يشفع له اعتداله ولاعلمانيته في تفادي التهجيرمن منطقة سكناه التي ولد فيها .
ورغم ماكان قد تعرض له قَبل عشرين عاما من حادثة خطف وتعذيب على يد المتطرفين الاسلاميين مما تسبب له بعجز جنسي دائم إلاّ أنه ظل على إيمانه في أن هذا هو وطنه ولن يغادره ، لكنه في آخرالمطاف يرضخ لما ترسخ في قناعة الابن بضرورة مغادرة البلاد الى الهند خلاصا من هذا العذاب الذي اخذ منهم الابنة الجميلة مايا ،ابنة الاربعة عشرعاما والتي عثر عليها فيما بعد جثة هامدة تطفو فوق سطح مياه نهر براهما بوترا . يقول له الابن سورنجان في ختام العمل  :”مهما قلنا أننا ملحدون ،أو إنسانيون ،هؤلاء الذين في الخارج سيقولون أننا هندوس، سيقولون أننا أولاد حرام .كلما أحببنا أناس هذا البلد كلما عزلونا .لانستطيع أن نثق فيهم ياأبي . أنت عالجت الكثيرين منهم بدون مقابل ، ولكن كم منهم أتى ليقف بجانبك في محنتك ؟ عاجلا ً أو آجلاً سوف نُدفَعُ جميعا ً تحت أحد الجسور لنموت . أبي ، دعنا نذهب .. دعنا نذهب ..”