5 مارس، 2024 2:58 م
Search
Close this search box.

روائي المتاهات التسع والباحث عن فندق باب السماء برهان شاوي من المنفى

Facebook
Twitter
LinkedIn

توجهت الى الرواية بروح الشاعر الذي بداخلي..
المنفى منحني الحرية والاستقرار وأفق الأسئلة ..ولولا زوجتي ماكنت انجزت ما انجزت
سلسلة ” فندق باب السماء” ستكون اكثر جرأة وتوغلاً في تابوات المجتمعات العربية من المتاهات..
العراق ذهب الى المجهول والعراقيون مشاريع موت مجاني منذ عقود ..
الفضاء العربي الاسلامي تزدحم فيه فضائيات السحر والشعوذة والترهات الدينية والفتاوى الجنسية ..
كيف يمكننا مواجهة الفكر التكفيري اذا كانت مؤسساتنا الاكاديمية وجامعاتنا مرتعاً للأكاديميين والاصوليين والظلاميين ؟..
حاوره : عامر القيسي

ابتدأ بالشعر بأناشيد ” التجربة السومرية ” وحط جناحيه على شجرة ” المتاهات التسع الروائية من “آدم” الى “العدم العظيم” وهي اطول رواية عربية ، فهو يقول انا روائي بروح شاعر، متوغلاً عبر دروب المسرح والسينما والاعلام والسياسة ايضاً. برهان شاوي العائش بعزلته التي منحته الحرية الاستقرار والاسئلة كما يقول ، قدم للوسط الادبي روايات اثارت الكثير من الجدل باقتحامها اسوار التابوات العربية في الجنس والمقدس والسياسة في متاهات قال عنها ، هي مشروعي ومرحلة تحولي الاكبر .
تفوح من رواياته رائحة السينما التي اختص بها فاخرج وكتب السيناريو ودرّس فن كتابته، وعوالم المسرح ومشهدياته فقد خاض في عالم برتولد برخت وشكسبير قبل عالم الرواية .
استقر به المقام في ألمانيا كمنفى أخير في عزلة لاتشبه “ليس لدى الجنرال من يكاتبه” لماركيز ، من هناك ربما ستنطلق سلسلة متاهات جديدة تحت عنوان ” فندق باب السماء ” وحتى ذلك الحين خضنا معه في عوالم الرواية والادب والسياسة والفكر . متشائم من الحاضر والمستقبل لكنه مع ذلك يبحث عن فندقه في السماء .

الرواية بروح الشاعر
– بدأت رحلتك مع عالم الابداع بالشعر والسينما والاعلام والمسرح والترجمة والنشاط الاكاديمي ، ثم استقر مركبك على شاطىء الرواية الذي قدمت فيه اعمالا مهمة ومثيرة للجدل ..هذا التحول هو للبحث عن مساحة أفضل للقول أم وجدت في عالم الرواية عالما ديناميكيا وجدليا للتعبير الأدبي الإبداعي أم قناعتك بأن الزمن هو زمن الرواية كما يقول الكثير من النقاد ؟

– نعم..كنت مكرسًا كشاعر بعد إصدار سبع مجموعات شعرية وترجمة أربع مجموعات عن اللغة الروسية. قضيت في كتابة الشعر أكثر من أربعين عامًا، ثم توجهت إلى الرواية بعد الخمسين من العمر، لكني توجهت إليها بروح الشاعر الذي في داخلي. والحقيقة أنا لا أتفق مع من يرى إن الشاعر الذي يتوجه للرواية هو شاعر فاشل يغطي على فشلة الشعري بالكتابة الروائية، فهذا جهل كبير بتأريخ الرواية وبتاريخ الشعر أيضًا. وقد كتبتُ مقالًا توضيحيًا عن ذلك قبل سنوات..لكن لقرّاء هذا الحوار أقول: “بوشكين” ، المؤسس الأعظم للشعر الروسي هو مؤسس الرواية الروسية أيضا، وكذا “ليرمنتوف” الذي شعره يصدر في مجلدات عديدة هو صاحب الرواية الخالدة ” بطل زماننا” التي يُعرف بها أكثر من شعره..! وكذا “فيكتور هيغو” صاحب روايات: البؤساء، أحدب نوتردام، وعمال البحر، هو أحد أعمدة الشعر الفرنسي، ومعاصرونا أمثال “كونديرًا” التي كان قبل توجهه للرواية قد أصدر ثلاث مجموعات شعرية تعتبر تجريبية ومجددة في الشعر التشيكي. والأمر يسري على بول أوستر الذي نال أعلى الجوائز كشاعر قبل أن يكون روائيا، وقبلهما لورنس الرائع الآن تصدر قصائده في مجلدات تأخذ مكانتها كما رواياته. وأستطيع أن أحصر لك عشرات الأمثلة في كل آداب العالم وبكل اللغات عن توجه الشعراء للرواية، سواء في الرواية اليابانية أو الايطالية أو الفرنسية، بل وحتى العربية. لكن عودة على السؤال: أنا أجد الرواية خطابا حضاريا تاريخيا فلسفيا أرحب من القصيدة..وأنا أختلف مع مقولة النفري العظيم: ” كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”، فأنا أرى إنه كلما اتسعت الرؤية تفجرت اللغة وفاض الكلام.

المتاهات مشروعي الروائي
– أصدرت تسع متاهات ابتدأت بمتاهة آدم وانتهت بمتاهة العدم العظيم ، هل هي رواية واحدة تبحث في قضايا المتاهات الوجودية الانسانية؟..ولماذا التوقف عند المتاهة التاسعة ؟..هل للرقم مدلولات في اطار العمل اجمالا ، خصوصا وانك حددت نهاية السلسلة بالرقم تسعة قبل انجاز متاهة العدم العظيم؟

– نعم سؤال دقيق..”المتاهات” هي رواية واحدة متسلسلة، وأظن أنها أطول رواية كُتبت بالعربية إلى الآن، حتى أطول من “ألف ليلة وليلة”. ومنذ المتاهة الخامسة ” متاهة إبليس” اتضح لي مشروعي الروائي، وكنت حينها جالسًا في مقهى بفلورنسا قرب بيت دانتي أليغيري. “المتاهات” هو تناص معكوس مع “الجحيم” لدانتي أليغيري ذي الطبقات التسع، فهو على خلاف الأديان كلها ” جحيمه ” يتألف من تسع طبقات، وفي قاع الجحيم نرى لوتسوفيري، وهو أحد تجليات إبليس، بينما لديّ التناص معكوس فأنا أصعد من آدم وصولًا إلى العدم العظيم الذي هو استعارة القدير في الأديان. المتاهات مشروعي الروائي. وربما سأدخل مشاريع أخرى. لا أعرف.

الرواية تاريخ حضاري
– متاهات بُرهان شاوي اقتحمت أسوار تابوات المجتمعات العربية وانظمتها ، الجنس السياسة الدين ،واثارت جدلا في الاوساط الادبية وغيرها ، في اطار الفلسفة والأساطير وعلم النفس راصدة تاريخ العنف السياسي والاجتماعي والجنسي في العراق منذ بداية السبعينيات ، لماذا لجأت الى التاريخ في اقتحامك هذا ؟

– الرواية هي تاريخ حضاري، خطاب تاريخي، اجتماعي، نفسي، فكري، للحظة التاريخية المحددة في الزمان والمكان الذي انتجت فيها. ولأني من جيل السبعينات إبداعيًا، لذا ذاكرتي مكتظة بأحداث الحياة في السبعينات وما تلاها، وهي بداية دخولي معترك السياسة والكتابة. ناهيك إنني حاولت أن أكتب عن المسكوت عنه، من خلال الأفراد، وليس من خلال تاريخ الجموع. من خلال رؤيتي الوجودية والمابعد فرودية.

اعتمدت جماليات اللغة السينمائية
– كان واضحا تأثير ثقافتك السينمائية في نصوص المتاهات ، هل كان هذا متعمداً أم جاء استجابة لامكانات تعبيرية مزاوجا بين السرد الروائي ومشهده السينمائي ؟

– أنا أعلنت لأكثر من مرة عن اعتمادي على جماليات اللغة السينمائية في رواياتي، أولا لأنني درست السينما أكاديميا ولدي شهادة عليا فيها، وثانيا لأنني لا أميل إلى الروايات التي تميل للشطح الشعري والاستطراد اللغوي والسردي ولا تتابع الحدث الروائي.
اللغة السينمائية محددة ودقيقة، وهي تجعل السرد الروائي صوريًا مرئيًا، بحيث إننا نرى الرواية كفيلم ولا ننجر وراء شطحها اللغوي. السينما تمنح الروائي قدرات هائلة في تنويع السرد، خذ مثلا ماركيز ، فولكنر، تشاينبك، فيتزجرالد، بول أوستر بازوليني دوس باسوس وغيرهم، كلهم عملوا في السينما من خلال كتابة السيناريو وبرز ذلك جليًا في رواياتهم.

أنطلق من العراق واتوه في الآفاق
– قلت “رواياتي لا تقتصر على الهم العراقي فقط” على الرغم من أن كل معالجاتها عراقية ، هل هذا ينطبق على مقولة المحلي هو عالمي بشكل ما ، ام تقصد ان المشكلات الانسانية وازماتها ووجوديتها واحدة باختلاف الزمكان ؟

– نعم..المشاكل الوجودية البشرية واحدة. أنا أنطلق من العراق لكني أتوه في الآفاق والجغرافيا كما هو قدر العراقيين. في المتاهات تتنوع الجغرافيا. بغداد، دمشق، بيروت، الأردن، ألمانيا، بريطانيا، النمسا، فرنسا، إيطاليا، المغرب، الجزائر، لذا فأن الشخصيات ليست عراقية فقط، فهناك شخصيات عربية وأوربية. إلى جانب رؤيتي بأن المشاكل الوجودية هي واحدة في كل زمان ومكان، منذ ظهور البشر على هذا الكوكب.

تجاوزت الجغرافيا والتاريخ
– في متاهاتك أكثر 304 شخصية، من 119 حواء و185 آدم تتداخل اسماءهم وسردياتهم على مدار السلسة ، وهذا خوض في نوع جديد من السرد الروائي ، ما مدلولات تكرار الحواءات والأوادم ؟

– صحيح..التركيز على تسمية ” آدم” و” حواء” وتكرارها هو ما يميز”المتاهات” كتجربة سردية روائية خاصة، فوراء اسم “آدم” و”حواء” تعميم للتجربة البشرية، وتجاوز للجغرافيا والتاريخ والقوميات والطوائف. “آدم”هو تجسيد للرجال منذ فجر الخليقة و”حواء” كذلك، وطبعا إذا كانت أوربية فنجد اسم “إيفا” وهو الاسم التوراتي لحواء.
هذا الحشد من الأسماء المتشابهة ينسجم مع مفهوم ودلالة ” المتاهة”، فالقارئ يحس نفسه في “متاهة الأسماء” أيضا.

– اشتغلت في رواياتك على تفكيك ميكانزم في فترة حكم البعث، ثم الاحتلال الأميركي وما تبعه من صراع طائفي، او سياسي اتخذ طابعا طائفيا . هل رصدت وفككت ذلك وانت من داخل الدائرة ، أقصد كنت في داخل العراق أم في المنفى خصوصا وانك غادرت العراق عام 1978 على ما اعتقد؟

كتاباتي ليست فنتازيا المنفى
– كنت في عمق المعمعة. لقد تناولت تاريخ العراق خلال الأربعين سنة الأخيرة، منذ السبيعنات وحتى ما بعد الاحتلال الأميركي لغاية 2011 تقريبا. السبعينات أعرفها جيدًا جدا لأنهى انتهت باعتقالي وتعذيبي وخروجي من العراق مشيًا على الأقدام إلى سوريا ومنها إلى بيروت، وأوروبا.
تناولت فترة السبعينات والثمانينات والحصار، والاحتلال، والحرب الأهلية الطائفية. لقد غادرت العراق العام 1978 وعدت إليه أواخر العام ، فعملت في مؤسساته الإعلامية،2005 وغادرته 2011. حاولت في رواياتي تفكيك دوافع العنف، لكن من خلال رؤيتي التاريخية وما بعد الفرويدية. اعتدمت على تجاربي وتجارب عشرات الشخصيات، وأيضًا مما تراكم لدي من خلال عملي في مرافق الإعلام خلال سنوات تواجدي في العراق، فهي ليست فنتازيا رجل يعيش في المنفى.

الانسان امتداد لمملكة الحيوان
– في رواياتك وتحديدا المتاهات التسع ، ترصد التحولات الشخصية بوصفها كائنات بشرية وبايولوجية في مواجهة السؤال الابدي ” معنى الحياة ” ..هل اجبت على هذا السؤال بشكل ما ؟

– هذا رأي دقيق جدًا. فأنا أنظر إلى الإنسان باعتباره كائنًا بايولوجيًا. هو امتداد لمملكة الحيوان، ولا يزال كجسد وغرائز لا يفرق عن الحيوان كثيرًا، حتى من ناحية تكوينه الجنسي.
شخصياتي بايولوجية، وأركز على هذا الأمر كثيرًا. ليست لدي شخصيات هوائية رومانسية روحانية طائرة في الهواء. فمثلا ” آدم التائه” وهو شخصية محورية ورئيسية في المتاهات، نجده بعد حوار فلسفي وروحاني عميق مع ” إيفا ليسنج” في “متاهة قابيل” يتعرض للبرد وهو عائد من عندها، وتصيبه حالة إسهال، فيذهب لمحطة القطار القريبة، فيرى أبواب المرافق الصحية محجوزة، وكاد أن يفعلها على نفسه لولا خروج أحدهم في اللحظات الأخيرة، وحينما جلس وتدفق الغائط الأخضر من أسفله كان عقله يفكر في قيمة الإنسان ومعنى وجوده البايولوجي، فقبل ذلك بقليل كان يتحدث في الفلسفة والمفهوم الخطيئة ومشاكسة المقدس، بينما كاد يفعلها على نفسه بدوافع الهيمنة البايولوجية على وجوده.
وهذه الرؤية ليست روائية فحسب وإنما هي رؤيتي الفكرية ونظرتي للبشر. أما الإجابة عن سؤال “معنى الحياة” فلا إجابة لدي، لكني أميل لرؤية البير كامو..لا إجابات لدي، لكني مكتظ بالأسئلة..
أنا أميل للآأدرية التي وصل إليها أيمانويل كانت في أواخر مطافه الفلسفي. لا نعرف لغز الوجود ومعنى الحياة إلا بكوننا هنا على سطح هذا الكوكب الجميل، وعلينا أن نعيش الحياة بكل جمالها، وبكل لحظاتها، وبوعي للوجود وبكل كرامتنا الإنسانية، مهما كان وعينا لعبثية الوجود.

التوغل في الثالوث المحرم
– تبدو في قراءة ما ان “متاهة المقدس” اكثر متاهتك افتراقا عن الوجود وتعبيراته الانسانية ..هل تتفق مع هذا التوصيف أم هي قراءة بعيدة عن رسالتك فيها ؟

– لا أعرف إن كنت تقصد ب”متاهة المقدس” روايتي ” الجحيم المقدس” أو تقصد “تابوالمقدس”.؟. سأجيب على القصدين..” الجحيم المقدس” هي روايتي الأولة والتي كتبتها العام 1987 بعد حصولي على منحة الكاتب الألماني هاينريش بول للكتّاب الأجانب في المنفى..وهي أول تجربة سردية لي، تحدثت فيها عن تجربتي كجندي في كوردستان. ولم أكن حين كتبتها أعد نفسي روائيا، لكنني توجهت للرواية بالكامل بعد ربع قرن من الزمان حين عدت إلى بغداد والتي فيها كتبت ” مشرحة بغداد” و” متاهة آدم”..!
أما القصد الثاني عن ” متاهة المقدس”..فالمتاهات” توغلت في الثالوث المحرم، الجنس والمقدس والعنف السياسي، لكن إذا ما كان تابو الجنس مفهوما لديّ وفق رؤيتي المستندة لتفسيرات ما بعد الفرويدية، بأن الفضاء النفسي للإنسان يتشكل من هيمنة الطاقة الجنسية وسلطة الوعي واللاوعي لدى الإنسان، فأن “المقدس” يعني كل ما انتجته البشرية من تحريمات وأديان وشرئع صارت خارج مراجعات التاريخ والجغرافيا.
أنا لم أتوقف عند الأديان وطروحاتها عن الله الذي خلق الكون في ستة أيام، ولا عند علوم الفضاء والكون ونظريات الانفجار العظيم، فكلاهما يؤكدان بأن الكون مخلوق، فكل هذا لم يعنيني وأنما ذهبتُ إلى الحواف القصوى، وسألت السؤال البسيط جدًا والمعقد جدًا وهو: ما الذي كان قبل ثانية من خلق الكون؟ قبل ثانية من ظهور الكون والوجود، سواء بإرادة الله كما تقول الأديان أو باللغز غير المفهوم عند العلم..!.
وفكريًا ذهبت أبعد في ” متاهة العدم العظيم”، إذ ألغيت ثنائية الوجود والعدم..الوجود جزء لا يتجزء من العدم..الوجود تجل للعدم، تجل لإرادة العدم العظيم..! والعدم هنا لا يعني الفهم المبتذل للعدم بأنه ” لاشيء وفراغ” وإنما هو ما لا نعرف كنهه، أو كما يسميه “هيغل” الروح المطلق” أو “العقل المطلق”. وهنا لا أعود للسؤال الفلسفي عن أسبقية الفكر على المادة أو أسبقية المادة على الفكر، وإنما أجدهما واحدًا، أو كما يقول “سبينوزا”: الكون هو نفحة الله.
“العدم العظيم” هو ” الله” كما تلفظه الأديان لكن ليس ” الله” الذي على صورة البشر كما في الأديان. وبالتالي الجنس، والعنف السياسي هما من تمظهرات الطبيعة البشرية، لكن “تابو المقدس” عندي يتجلى بتفكيك تناقضات الدين والمقدس المهيمن في عقل البشر والذي هو محاولات لكبت الرغبة، ولا علاقة له بسؤال الوجود والعدم.

البشر يؤلهون ابليس بلا وعي منهم
– في رواية ” متاهة إبليس” وهي امتداد لرواية “متاهة الأشباح” قدمت ابليس كائنا جميلاً وسيماً اشقر الشعر ،ومنحته قوة استمدها من الناس فهو يقول في حوارية من الرواية لآدم الشامي ” أنتم منحتموني قوة هائلة” ما دلالة تقديمه بهذا الاغواء ..ما الرسالة من ذلك وابليس في الميثيولوجيا كائن بشع مخيف ومكروه ويستمد قوته من وجوده الاسبق على الكائن البشري برفضه السجود لآدم.. ؟

– صحيح جدًا. فأنا انطلقت من مفهوميّ ” الغواية” و”الخطيئة”، إذ كيف لكائن مخيف وبشع ونتن أن يغوي البشر ويثير غرائزهم..!؟ لا بد وإن يكون هذا المخلوق جميلًا جدًا كي يمكنه غواية حواء وآدم..! أليس كذلك.!؟.
أما كوني ” منحته قوة هائلة” فنعم، بل إن البشر يؤلهون إبليس بلا وعي منهم..! ففي مرافعته للدفاع عن نفسه يقول إبليس لآدم الشامي، بما معناه كما ورد في الرواية، بأن الأديان تؤكد بأن الله أقرب للإنسان من حبل الوريد، وأنّى توجه الإنسان في مشارق الأرض ومغاربها فثمة وجه الله..! طيب، فكيف لإبليس، وهو الملاك الملعون، أن يكون في مشارق الأرض ومغاربها وأقرب للبشر من حبل الوريد بحيث يوسوس لسبعة مليار من البشر في اللحظة نفسها..! أهو الله القدير..!؟.
ناهيك إنني لا أعتقد بوجود إبليس، فهو صناعة بشرية، للتخفيف من الشعور بالذنب لدى البشر. الخير والشر هما لحظتان أخلاقيتان ونفسيتان في أعماق الإنسان. كل ما هو يتلائم مع مصلحة الكائن أو الجماعة فهو خير، وكل ما هو مؤذ ويتعارض مع مصلحة الفرد أو الجماعة هو شر..! لذا اختلفت مفاهيم الخير والشر لدى الأفراد والشعوب والأديان..! أما قضية السجود لآدم كما في المثيولوجيا الدينية فهذا أمر آخر كشفت عن تناقضه في ” متاهة إبليس” أيضًا، من خلال النصوص المقدسة نفسها ومن خلال حوارات إبليس، الذي يتجسد في الرجل الأشقر الوسيم مع آدم الشامي.
الشعور بالأسر رافقني بداية المتاهات
– سأقول لك وجهة نظر ترى إن بُرهان شاوي أصبح أسير متاهاته ومهووسا فيها ، وإنها الى حد ما ، نوع من انواع مزاجية الكتابة وليس احتياجا معرفياً ..الى أي مدى تختلف مع وجهة النظر هذه ؟ هل هي قراءة قاصرة لنتاج المتاهات ؟

– هي وجهة نظر أراها قاصرة، ومبنية على قراءة بعض المتاهات وليس السلسلة كلها. أما الشعور بالأسر فقد رافقني حينما كنت أكتب في المتاهات وأعلنت عن ذلك في بوست لي. لكنني تجاوزت الأمر حينما بدأت بأول رواية بعد المتاهات وهي ” فندق باب السماء” التي ربما ستكون سلسلة أكثر جرأة وتوغلا من ” المتاهات”.
” المتاهات” مشروع روائي وليست لحظة مزاجية في الكتابة. فليس هناك رواية تمتد لعشر سنوات من الكتابة المستمرة والمكرسة بشكل مكثف ويومي تُعد مزاجًا، كما إنها تطرح أسئلة مختلفة، سواء على مستوى السرد أو على مستوى الشخصيات أو الحوار..ووجهة النظر هذه تبقى رأيًا ووجهة نظر قابلة للنقاش.

الرقابة تعكس رؤية السلطة
– منعت متاهاتك في اكثر من بلد عربي، هل المنع سلوك وظيفي أم رؤيا لأنظمة سياسية تخشى التوغل في المسكوت عنه؟

– كلاهما، فالموظف الرقابي يعكس رؤية السلطة التي جعلته رقيبا. والحقيقة إن قضية “المنع” أخبرني بها صاحب الدار التي نشرت “المتاهات”، فهو يعاني من توزيع كتبي في بعض البلدان لأن اسمي واسماء متاهاتي في قوائمها السود. البعض يروج لنفسه بأن كتبه ممنوعة زيادة للشهرة ولإعطاء كتاباته أهمية، لكني آسف لهذا الأمر فمنع رواياتي ليس بطولة بل إنه إجحاف لأنه ” يمنع” وصولها إلى الآخرين.

– لو كنت في بلدك العراق هل كنت قادراً على كتابة متاهاتك ونشرها كما هي وكما فعلت وانت في المنفى ؟
ج: لقد كتبت ” مشرحة بغداد” العام 2009 ونشرتها بشكل مسلسل في جريدة ” الصباح الجديد” حين كان المرحوم جمعة الحلفي مسؤولا عن الصفحة الثقافية. وكذا كتبت متاهتي الأولى ” متاهة آدم” وأنا في العراق، وكذا كتابي ” وهم الحرية”. البداية كانت من بغداد وفي بغداد.

تأريخ البشرية تأريخ عنف
– في روايتك “مشرحة بغداد ” الكل في بغداد جثث حتى الاحياء منهم ، بل انك تقدم لنا حارس المشرحة كجثة ايضاً ، وفي مشهدك الدموي يبدو الامل مفقوداً، حتى ان طفلا يقول للحارس ” لاأمل في الانتظار لمعرفة الحقيقة ” في محايثة شبيهة ل ” في انتظار جودو ” الذي لم يأت ..هل فقدت الأمل في زمن كتابة الرواية ؟

– أنا “متشائل” كما قالها أميل حبيبي، وبشكل عام ليس لدي أمل كبير في طبيعة البشر، فتاريخ البشرية منذ الأزمنة السحيقة إلى الآن هو تاريخ للعنف، تاريخ اقترن بالجريمة والغدر، تاريخ على المستوى الفردي مليء بالحسد والغيرة والتنافس الذي يصل للعنف. ومع ذلك أرى الإنسان وتأريخه كالبندول المتأرجح بين أعلى درجات الروحانية والعقلانية التي تتجلى في العلوم والفنون والإبداع، وبين أعمق دركات الانحطاط الحيواني الذي أنتج لنا الفقر والعنف وخراب كوكبنا الجميل. أحيانا تدغدغني جملة ” ماركس” بأن تاريخ البشرية لم يبدأ بعد..!.
وفي ما يخص ” في انتظار غودو” وآخر حوار في ” مشرحة بغداد” فأنت محق بالكامل، هو تناص مع صموئيل بيكت وانتظاره لغودو، فلا شيء يحدث ولا أحد يجيء ليقول لنا الحقيقة. العراقيون، مشاريع موت مجاني منذ عقود..!

المنفى منحني الحرية
– ماهي انعكاسات المنفى أو المهجر على نصوصك الروائية، الى أي حد تأثرت ببيئة المنفى وأنت تكتب عن العراق ؟

– المنفى منحني الحرية ومنحني الاستقرار، والأفق الجغرافي والنفسي الذي حرّكت فيه أحداث رواياتي. منحني مساحة كبيرة للتنقل ولدعوة شخصيات غيرعراقية إلى التوغل في عالم المتاهات، ومنحني أفق الأسئلة.

انا أول من كتب ” رواية سينمائية ”
– في سردياتك تبدو تأثيرات الاشتغال السينمائي حتى انك وضعت عنواناً تحتيا على غلاف روايتك الأولى “الجحيم المقدس” باعتبارها “رواية سينمائية ” ..هل هو جزء من قصدية البناء الفني للرواية أم بسبب اشتغالك السينمائي ؟

– حين كتبت روايتي ” الجحيم المقدس” كنت متخرجًا للتو من معهد السينما العالي بموسكو. وحين بدأت بالرواية كنت منتبهًا لجماليات اللغة السينمائية وقدرتها في تطوير تقنيات السرد الروائي. لذا حين انتهيت منها، ولمعرفتي النظرية والأكاديمية بفن السينما وجدت إنها أقرب للسرد السينمي. فكتبت تحتها توصيفًا بأنها ” رواية سينمائية”، وكما يذهب أحد الباحثين في موضوع الرواية السينمائية بأنني أول من منح روايته هذا التوصيف.
والحقيقة أنا لست أول من كتب “الرواية السينمائية”، فمعظم إذا لم اقل جميع روايات الراحل الكبير إسماعيل فهد إسماعيل تنتمي لهذا التصنيف، وقد اتفق معي حين حدثته عن ذلك، وكذا العديد من روايات نجيب محفوظ وقصصه، وروايات إحسان عبد القدوس وغيرهم.
وبالتأكيد دراستي السينمائية كانت مرجعية قوية لي في هذا الأمر، وصارت جزءًا من سمات سردي الروائي، وقد تم مؤخرًا في جامعة ديالى مناقشة رسالة ماجستير عن ” السرد السينمي” في رواياتي.

الوفرة الروائية ..صحية واستسهال !
– منذ 2003 صدرت اكثر من 500 رواية ماتقييمك لهذا المشهد هل هو حالة صحية ام استسهال أم موجة ” الزمن الروائي ” وهل هناك سردية روائية استوقفتك عبّرت الى حد ما عما جرى في العراق ؟

– هذه الوفرة الروائية تحمل هذه التوصيفات كلها. حالة صحية، واستسهال. بل هي ربما علاج نفسي لا إرادي. أما سؤالك عن سردية روائية استوقفتني، فالحقيقة قرأت عددًا من الروايات العراقية المهمة التي تقاسمت أحداث العقود الماضية. ولا أريد هنا أن أعدد أسماء فلربما سأسهوعن البعض، فيحصل شيء من سوء الفهم والقصد، لكني أقف أمام تجربة صديقي الراحل ” حميد العقابي” بإحترام شديد.

العراق ذهب الى المجهول
– تحدثتَ عن صلة الروائي والاديب عموما بالانشغالات السياسية، فأسألك ، عن تقييمك للمشهد السياسي العراقي بعد 2003 ، هل تعتقد ان العراق ذاهب الى المجهول ام هناك ثمة أمل، أم انها حقبة ستمتد لتستنفد كل امكانيات البقاء فيأتي التغيير ؟

– العراق ذهب إلى المجهول منذ عقود إذا لم أقل منذ قرون. العراق سقط في ثقب أسود. ونحن نعيش، سواء في العراق أو الشرق الأوسط أو المنطقة ، في فترة تاريخية مظلمة. مع أن التاريخ لديه مفاجآت غير متوقعة، كما في انتفاضة تشرين للشباب.

الظلاميون في مؤسساتنا الاكاديمية
– المشهد الثقافي العربي والإسلامي بشكل عام ليس مؤهلا لمواجهة الفكر التكفيري ما لم يعيد قراءة ذاته قراءة تاريخية وإنسانية ، هذه وجهة نظرك ، من سيقوم بهذا العمل اذا كان المشهد الثقافي غير مؤهل لذلك ؟

– نعم هذا رأيي، وعبرّت عنه في حوارات عديدة. المشهد الثقافي دمّرته وسائل الإعلام الأصولية وقنوات الدول الفضائية، والتي معظمها يعتمد على أموال البترول، فانتشرالجهل والخرافة في كل المجتمعات العربية الإسلامية، فالفضاء العربي الإسلامي تزدحم فيه فضائيات السحر والشعوذة والترهات الدينية والفتاوى الجنسية، وبرامج الطبخ..! أما برامجها الثقافية فمعظهما سطحي وموجه ومبتذل.
ثم كيف يمكننا أن نواجه الفكر التكفيري إذا كانت مؤسساتنا الأكاديمية وجامعاتنا مرتعا للأكاديميين الأصوليين والظلاميين..!. كيف يمكننا أن نواجه الفكر التكفيري إذا ما كان عدد المساجد يفوق عدد المدارس بآلاف المرات. نحن نعيش مرحلة مظلمة في قمع حرية الفكر.

اعيش في عزلة حقيقية
– برهان شاوي يترجم عن الروسية والالمانية ويكتب الرواية بغزارة وله اشتغالات سينمائية ومسرحية واعلامية ونقدية ..هل يومك يتألف من 48 ساعة ؟

– أنا أعيش في عزلة حقيقية. أكتب باستمرار لأكثر من 14 ساعة يوميًا وعلى مدى عشر سنوات. والحقيقة أنا مدين بكل هذا لزوجتي لتفهمها ولتحمّلها جنوني الإبداعي وتيهي وتوهاني، فلولاها ما كنت أنجزت ما أنجزت.

مقالات اخري للكاتب

أخر الاخبار

كتابات الثقافية

عطر الكتب