18 ديسمبر، 2024 8:09 م

رهين السجون الكاظم.. دم يطهر ماء دجلة

رهين السجون الكاظم.. دم يطهر ماء دجلة

·         هل كان.. عليه السلام.. مشتغلاً بالسياسة؟ أم السياسة هي المشغولة بتقواه؟ لأن الفاسدين يقلقهم النزيه!
صاح صائت وئيد، من جسر بغداد.. على نهر دجلة، الى سمت السماء، صباحا: “جثة من هذه الملقاة فجراً؟ وملائكة السماء تحف بها.. صعودَ نزولٍ تتبرك بالصلاة عليها!” صمت مطبق القوى، كاد يحطم بغداد بين فكيه، حين لم يطل المارة توقعا، وهم يؤكدون: “هذا موسى بن جعفر الكاظم.. رهين طوامير السجون” يوما.. وقفت حاضرة العباسيين، على قدمين مشلولتين بمنع الحديث عن آل بيت محمد (ص) لكنها وقفت غير مبالية بقسوة الترهيب ولذة الترغيب اللتين لجأ إليهما هرون الرشيد.

“طوامير السجون” تبعث على التساؤل: هل كان الكاظم.. عليه السلام، مشتغلاً بالسياسة، أم السياسة هي المشغولة بتقواه؛ لأن الفاسدين يقلقهم النزيه!؟ تأملاً بالعبرة التي يحملها إستشهاد الإمام موسى الكاظم.. وقوته سجينا، مصفداً بالأغلال، يقهر عدوه المتسلط، بأرجحية بينة التفاوت.

·         تهافت القوي

ولنعد للتساؤل: ما الذي يستفز الخليفة هرون الرشيد، بمجرد وجود موسى الكاظم في الحياة.. جاء به من المدينة المنورة، الى بغداد.. كُرها، ووضعه نصب عينيه.. في نوع من إقامة جبرية، لم يطمئن لها؛ فألقاه في غيابات السجن، ولم يكتفِ بالسجن، بل لم يكف شيطان القلق على ملكه، والكاظم منقطع عن الدنيا بالدين، تحت طوامير الأرض.. رهين السجن؛ فقتله شهيداً، مع أنه لم يعمل في السياسة، ولم يؤلب ضد الحكم العباسي ولم تنتظم خلايا التحزب الثوري حول خيط مسبحته، التي وظفها بخير ذكر الله والتسبيح بحمده.

إذن ما الذي أخاف هرون الرشيد، وهو في عز عنفوان طغيان عرشه المحاط بالرجال والسيوف، التي تطلق كلاب سياطها تنهش من يفكر… مجرد تفكير بخلخلة إستقرار دعائم السلطة والطيدة.. تنتظم بالجماجم.

ثمة عبرة مثلى كامنة في جوهر خوف القوي المتهافت الإيمان، من التقي الضعيف؛ “فمن يتقِ الله يجعل له الله مخرجاً” وخروج الكاظم من الدنيا الفانية، الى خلود الجنة، ومكوث الرشيد فيها لا يأمل بجنة البقاء، دليل ساطع على نور الحق وظلام الباطل.

فلنتعظ.. راعٍ ورعية، من عظمة الكاظم.. ينام ليله رغدا في السجن، مرفها بحوريات الجنة، بينما يتلظى الرشيد، بنيران خوف يتضاعف طبقات من الإرتعاد، وهو محمي فرسان يحيطونه.. يأتمرون بإشارة منه، لا طاقة له على التمتع بالغواني ولذائذ الطعام.

·         حسناء فاتنة

الموعظة للرعية قبل الراعي، فالمؤمن بتقوى موسى بن جعفر، يجب أن يقتديه في زهده بالدنيا، لا يداهن أو يساوم الحق بالياطل،… وهذا ما جعله قوياً إزاء ضعف النفس الأمارة بالسوء، متفوقاً على هرون الذي أدخل عليه في سجنه.. محروماً، أجمل فاتنة من حسان غادات بغداد، تثنت غنجاً في حوارها معه.. عليه السلام؛ فلم يأبه إلا بهدايتها؛ لتنتفض: “لم يسبق لأنسي أو جان أن قاوم إنوثتي” فدحرها بتقريب بؤبؤ عينه من بصرها؛ لترى حوريات يرقصن؛ فتخرج مهتدية لله ولاءً لمحمد وآل بيته، ضد فسوق بني العباس… “أطعني يا عبدي؛ تكن كمثلي، تقل للشيء: كن؛ فيكون”.

·         أوهى بقاءً

تحد الرعية سيوفها بهدي آيات القرآن الكريم وأحاديث الرسول وحكمة آل البيت، لتثور على ظلم الفاسقين، الذين هزوا أركان الدين بالباطل ومظاهر الفسق والضلال.

عبرة ليت الحاكم، في كل زمان ومكان يفيد منها، فملك هرون الرشيد، الذي شمل أقطاب الأرض وآفاق الدنيا، زال! وذكر الكاظم خالد، (تتعناه) الوفود، مشياً على الأقدام وحبواً على الركب، أما قاتله الذي حكم الدنيا، فذهب وإمحى ذكره، وكثير من الناس… بل معظمهم لا يعرفونه في مدينة “طوس – مشهد الآن” في حين تكتظ بغداد بملايين الزوار، قادمين من داخل العراق وخارجه ومن دول العالم.. الإسلامي وغير الإسلامي؛ ليعلنوا الولاء للكاظم، الذي عاش ومات في سجون الرشيد، يخافه وهو الأقوى فيزيائيا والأوهى في موازين البقاء.

لأن طريق الحق والعلم والأيمان، هو القوة الخالدة، بقاءً “أما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس، فيمكث في الأرض” لذا نستقي المعاني العظمى من حياة وإستشهاد الإمام المعصوم السابع.. أسد بغداد، فهل يذكر هرون الرشيد، وهو يتلاشي بحضرة الإمام الرضا بن موسى الكاظم.. عليهما السلام، في طوس.

·         كرامة التقوى

هل تعد تجربة هرون الرشيد، مع الإمام موسى الكاظم، درساً دينيا وتراثياً، ذا أثر معاصر، يعيد قراءة نفسه؛ كي يتعلم منه ساسة العراق، آخذين الموعظة الحسنة، واعين الدرس المتوارث، من سالف الأيام وتعاقب الدول، الى حاضر اليوم؛ لأن أهل البيت قدوة نتعظ بهم ونعتبر من تداعي عدوهم بدداً.

كرامتهم عند الله تقواهم، فإتعظوا بالسلف الصالح، إيها الخلف، مترفعين عن سياسة الانتقام، إدعوا للتسامح، وإربؤوا بأنفسكم عما يشينها، من شهوة المال، التي لم ترتوِ لديكم منذ عقد ونصف…

خلد موسى بن جعفر؛ لأنه من كاظمي الغيظ.. العافين عن الناس؛ مستجيباً للمعنى العميق، في بكاء جده الحسين (ع) حزناً على قاتليه؛ لأنهم سيدخلون النار بسببه! أية عظمة فوق البشرية ودون الإلوهية.. تلك! أفاد منها الأئمة المعصومين، محيلين القناعة النظرية الى عمل ميداني.. إجرائيا؛ فلم تعد الدنيا تساوي عندهم جنح بعوضة.. زاهدين بقلقها.. مطمئنين الى خلودهم في جنة.