يعد العمل في القنوات الفضائية من أصعب الأعمال واكثرها مشقة،على خلاف العمل الصحفي الروتيني في وسائل الاعلام الأخرى وبخاصة الصحف،التي لايتطلب العمل فيها جهدا مضنيا ، كما هو الحال في القنوات الفضائية!!
وطوال خدمتي الصحفية التي تجاوزت الأربعين عاما، لم أواجه من (ويلات) و(مصاعب) العمل التلفزيوني كالفترة التي عملت فيها في قناة الرشيد الفضائية لثلاث سنوات،وهي فترة حرمتني من الظهور في الأضواء، ومع هذا لم أترك كتابة المقال الصحفي (مجانا) للصحف والمواقع، بالرغم من ان عملي كان خلسة لكي لايشعر الدكتور طالب بحر منذ ان كان معاونا للسيد المدير العام انني أقوم بكتابة مقالات، ويقلب الدنيا على رأسي!!
كان أوج صعود قناة الرشيد الى قمم المجد ومن أرسى أولى معالم إنطلاقتها وحصولها على المراتب المتقدمة بين الفضائيات قد حدث خلال فترة تولي الأستاذ أمجد توفيق ، وهو صحفي وكاتب وإعلامي لامع موقع مديرها العام لأكثر من خمس سنوات ، وكان الدكتور طالب بحر معاون المدير العام ..أما أنا فقد عملت فيها بدءا من عام 2008 ولثلاث سنوات في قسم الاخبار، ثم تولى الدكتور طالب بحر نهاية عام 2010 مهمة المدير العام بعد ان غادر الأستاذ أمجد توفيق المنصب ، وهي مازالت تكمل مشوارها بثقة وحيادية ولها جمهورها الكبير بالرغم من انها عانت بسبب كثرة حملات التقليص التي عانى منها كادرها لفترات طويلة، وأثر على مستوى أدائها بعض الشيء!!
وبالرغم من أنني غادرت قناة الرشيد الفضائية منذ ثلاث سنوات، بعد ان عملت فيها لفترة ثلاث سنوات، الا ان هم تلك القناة مازال يلاحقني حتى بعد ان غادرتها، إذ ما تزال تلاحقني حتى في سويعات نومي ، واستيقظ بين الفينة والاخرى من تراكمات أخطاء تقع كل يوم بل كل ساعة وفي كل نشرات الاخبار والبرامج الأخرى، وغضب الدكتور طالب بحر مدير عام القناة في سنواتها الأخيرة ، يكاد لايسلم منه أحد من منتسبي القناة!!
وهنا أود أن أشير الى مفارقة قد لايعرفها كثير من العاملين في الشأن الصحفي ان محرر النشرة الاخبارية او من يعدها ، ما ان يدخل ستوديو القناة لادخال اخبار وتقارير ومقابلات النشرة على نظام الـ (آي نيوز) الأكثر تطورا ، الى ان تنتهي النشرة وهو يده على قلبه ، إذ لاتمر دقيقة او نصف ساعة او ساعة من النشرة الا وتحدث فيها (منغصات) و(إشكالات) بل ان انهاء نشرة اخبارية بدون خطأ يكاد يكون من (المعجزات)، لكن الجمهور لايلحظ أغلب الاخطاء التي تقع الا ماندر!!وتبدأ العثرات والمنغصات من صياغة الاخبار والتقارير الخبرية والمقابلات ، وحتى عمليات المونتاج والمونتير والـ ( آيتي ) والمذيع والصوت والاضاءة ومن ثم الأمور الفنية الأخرى..,وما ان تبدأ عملية ادخال غرفة عمليات الاخبار في الستوديو وتعمل على نظام القناة ( الآي نيوز ) المعقد نسبيا وما ان تدخل ستوديو القناة قبل واثناء قراءة المذيع للنشرة حتى يحس معد النشرة وكأنه يقود (طائرة) في الجو ، أي مهمته تقترب من مهمة (الطيار) أو (ملاح الطائرة ) خلال فترة رحلته الى الجهة المفصودة، ويده على قلبه خشية ان يحدث أي طاريء في الجو عندما يبدأ المذيع بقراءة النشرة، وما ان تنهي النشرة بسلام فلا يعني انك سلمت من الحساب، فدقات قلبك تبقى متوترة لأن هناك من يراقب أي خطأ يحدث من قبل السيد المدير العام او القائم على القناة أو من (متطفلين) يهمهم إظهار أي خطأ ولو بسيط ، حتى يظهر (سقطات) الآخرين بأية طريقة ويتخذ منها مادة للتشهير او التندر!!وليس هناك من محرر او معد نشرة مهما بلغ مستوى تدريبه وسنوات خدمته الطويلة وخبرته في التلفزيون الا ويتعرض لوقوع مثل تلك الأخطاء يوميا، أو الارباكات التي تحصل خلال فترة نشرات الاخبار في الغالب.
كان المذيعون ومقدمو البرامج هم من يتصدرون واجهات القناة الاخبارية ، وهم من تسلط عليهم أضواء الشهرة والنجاح..أما المحررون وكل الزملاء الآخرين في المونتاج والمونتير والاضاءة والصوت والـ (آيتية ) وعموم عمل الهندسية فهم جنود مجهولون، لا أحد يعرف جهودهم وكم يبذلون من عمل مضني وشاق من اجل ان تظهر قناتهم وجمالية اخبارها وقدرتها على لفت الانتباه لدى جمهور واسع يشهد لها بالنجاح والتميز وتبقى نشرات اخبار القناة وبرامجها تحظى بجمهور كبير، كونها كانت تعتمد الحيادية والحرفية العالية، إذ يعمل فيها خيرة المحررين وسكرتارية التحرير وكذلك كفاءات مشهودة لها بالخبرة من رواد الصحافة والفنيين المتميزين، الذين لهم الفضل في إظهار القناة بهذه الصورة التي كانت تحظى فيها بإحترام متميز لدى ملايين العراقيين!!كانت مهمتي الأساسية بقناة الرشيد الفضائية تعتمد في الغالب على اعداد السبتايتل الصباحي (شريط الاخبار) أو الـ (نيوز بار) كما يطلق عليه البعض ، وفي فترة الظهيرة واتابع بالدقائق كل تطور يحدث لأضيف ماهو جديد الى السبتايتل وما يحدث عليه من مفاجئات الاخبار، إضافة الى عملي في مساعدة محرري النشرة في اعداد اخبار وتقارير وأسئلة لضيوف النشرات أو اعداد تقارير خاصة عن أحداث بعينها من قبلي في حالات أخرى، يطلق عليها ( تقارير الديسك) !!
ويبدأ دوامي في القناة منذ السادسة والنصف صباحا قبل أي زميل آخر، بالرغم من ان دوام الوجبة الصباحية يبدأ الثامنة والنصف الى التاسعة صباحا، حتى أكمل مهمة اعداد السبتايتل الصباحي منذ ساعات الصباح الأولى ، وأهيأ اخبارا لنشرة الظهيرة، وينتهي دوامي كل يوم الرابعة عصرا ، أي بمعدل العشر ساعات يوميا أو يزيد، لكن راتب القناة كان (مغريا) ويساوي التعب الذي كنا نبذله من أجل إظهار شاشة القناة بأفضل حلتها أمام الجمهور والمشاهدين وأمام مسؤولي القناة!!كان هناك( تقليد صحفي) في بعض وسائل الاعلام ومنها الصحف في الثمانينات والتسعينات وحتى فترة ماقبل عام 2003 انها توجه دعوات لروادها وكوادرها ممن كانوا يعملون فيها خلال سنوات مضت بهدف تكريمهم على جهودهم التي بذلوها خلال فترة عملهم في تلك المواقع الصحفية حتى وان كانوا خارجها ، لكن هذا (التقليد) إختفى للاسف الشديد مع حلول عصر الديمقراطية والفوضى الخلاقة، ولم نعد نلحظ اهتماما من هذا القبيل الا ماندر وفي حالات محدودة ، وتعتمد حالات من هذا النوع من قبل بعض وسائل الاعلام والقنوات الفضائية على مبادرات شخصية وعلاقات خاصة من زملاء في المهنة، أما (تكريم المبدعين) ومن قدموا خدمات جليلة ضمن عملهم الصحفي او التلفزيوني فلم يعد سياقا او عرفا ، هذه الايام، لأن سياقات العمل الصحفي أصابها الكثير من الإهمال ، ولم يعد لتلك القيم العليا من يعد يذكرها عرفانا بالجميل!!
وبعد ثلاث سنوات من مغادرتي للقناة،وفي عصر الثلاثاء المصادف 14 حزيران 2016 ، كنت أمام مشهد مثير من هذا النوع من العتاب والحساب من قبل الدكتور طالب بحر مدير عام القناة ، وهو يتحدث مع آخرين أمامي عن حالات تكرار حدثت خلال النشرة وهناك أحداث وقعت في ساحة العشرين بالنجف لم يتم تناقل اخبارها وكان السيد المدير العام في أشد حالات الغضب وهو واقف فوق رأسي، وانا أعلل له بعضها بأنه لم يكن معي أحد ضمن وجبة دوامي ولا مع الوجبات الأخرى بسبب كثرة ما شهدته القناة من عمليات تقليص بالجملة بين فترة وأخرى ، وأقول له ان عدد الكادر لايكاد يغطي كل مايقع ، وهو يريد ان يعرف المتسبب بالخطأ، وأنا في أشد حالات الشد العصبي من كثرة حالات الإلحاح التي نواجهها من الدكتور طالب حتى على الأشياء الصغيرة..!!
لكن المفاجأة التي انقذتني من الحساب هو أنني أدركت أنني كنت أغط في نوم عميق عصرا ، جراء إرهاق صيام شهر رمضان ، بينما قد غادرت قناة الرشيد قبل ثلاث سنوات، وحمدت الله لأنني لم أكن في القناة ساعة وقوع مثل تلك الارباكات أو الاخطاء التي تحدث، وأيقنت أنني كنت في حلم ، أدركت خلاله ان العمل التلفزيوني يلاحقك بهمومه حتى وان غادرته منذ سنوات ، ولكنني شعرت بعده بحالة انفراج، وارتياح ، وتنفست الصعداء ، بعدما أن أيقنت ان كل ماحصل معي كان في فترة حلم أو كابوس ، مر خلال فترة نومي عصر ذلك اليوم الرمضاني.. وانتهى الحلم على خير كما يقال!!
تحية مني لكل الزملاء العاملين في قناة الرشيد الفضائية ولكادرها ومديرها العام الدكتور طالب بحر..ولبرامجها الرمضانية الليلية الحلوة..ولهم مني كل محبة وتقدير!!