اعتاد المواطن العراقي على غلاء الأسعار ، واستغلال ذوي النفوس الضعيفة من التجار له كلما حل شهر رمضان الذي نشئنا على ثوابت وأبجديات بأنه شهر الخير والرزق والبركة ، لكن هذه الثوابت يبدو إنها اختلت بسبب الهزة الكبيرة التي يعيشها مجتمعنا اليوم وعلى جميع الأصعدة ، ليصبح هذا الشهر المبارك سمة لارتفاع الأسعار ومصدر قلق وهم لهذا المواطن ، بغياب واضح للحكومة عن الساحة ، وعدم قدرتها على اتخاذها أي إجراء للسيطرة على ارتفاع أسعار المواد الغذائية ، أو محاولة كبح جماح من يتاجرون بقوت الشعب والضرب على أيديهم .. وإن شهر رمضان لهذا العام يقف على فوهة بركان ثائر اجتمعت عدة عوامل لتجعله يبدو بهذه الصورة الغير مطمئنة والمتشائمة ، منها سياسة التقشف التي تنتهجها الحكومة في محاولة منها للتخفيف من الآثار السلبية الناتجة عن انخفاض أسعار النفط العالمية ، كوننا دولة ريعية بامتياز ، لا نجيد غير حساب عائدات النفط ومن ثم ترحيلها إلى دول الجوار والصين لاستيراد الطعام والبضائع .. وكذلك ارتفاع سعر صرف الدولار ليصل إلى حدوده القصوى في ظاهرة خطيرة يتحملا فيها المسؤولية بالدرجة الأساس وزارة المالية والبنك المركزي ، لعدم امتلاكهما سياسة مالية واضحة ومستقرة تمكنهما من السيطرة على تذبذب سعر صرف الدولار مقابل الدينار العراقي … المواطن العراقي البسيط من الطبقة المتوسطة والتي بدأت تتحول إلى طبقة فقيرة بالتدريج مع ارتفاع الأسعار وبقاء دخلها ثابت لا يتغير كالموظفين ، ناهيك عن الطبقة الفقيرة التي لازالت تراوح في مكانها بالرغم من التغيير الذي حدث بعد التاسع من نيسان 2003 .. إن هاتين الطبقتين من الشعب واللتان تمثلان الأغلبية العظمى منه هما خط الصد الأمامي لكل الأزمات والانتكاسات التي شهدها العراق في العقود القليلة الماضية ، بعد أن كانتا وقودا للحروب العبثية التي خاضها النظام السابق ، ومن ثم سحقتهما عجلة الحصار وقسوته ، الذي مسخ جزء مهم من الشخصية العراقية ..
إن المواطن العراقي الفقير لا يجد اليوم حتى جدار متهاوي يستند عليه وهو وحيد في هذا المعترك الصعب ، حتى أصبح فريسة سهلة لكل أفات الدهر ، من حروب إلى إرهاب وأزمات اقتصادية ، وهاهو يقف اليوم على أعتاب محنة أخرى قد تعيد تجربته المريرة في الماضي القريب إبان الحصار الاقتصادي ، بعدما نال الإرهاب منه ما نال واهلك الحرث والنسل ، ليكون شهر رمضان لهذا العام خط الشروع لمشروع أعادة تجويع هذا الشعب المغلوب على أمره ، الذي تحولت حياته إلى نوع من الكوميديا السوداء المليئة بالمفارقات المضحكة حد البكاء ، في بلد أصبح للصوص شأنا كبيرا فيه ، ويتحكم بمقدراته السماسرة وشذاذ الآفاق ، في ثمانينات القرن الماضي أنتجت السينما المصرية فلما من بطولة الفنان عادل إمام كان بعنوان (رمضان فوق البركان) ، كان لهذا الفلم دلالاته الكبيرة والواضحة لمجتمع كان يعيش مفارقات غريبة وقريبة جدا عما نعيشه نحن اليوم ، كان يحكي قصة مجتمع نحرته سكاكين السماسرة والدجالين والسراق ، وعاث المفسدون فيه خرابا ونهبا ، ولكي يعيش الإنسان فيه بأبسط معايير الحياة الكريمة كان يجب عليه أن يتحول إلى لص … وهذا ما نخشاه على أنفسنا اليوم .