كان الصيام في الشتاء بالنسبة لنا أمرًا سهلًا جدًا، حيث لم نكن نشعر بالجوع أو العطش، أولًا لقصر النهار وثانيًا لبرودة الأجواء. كنا نذهب لرعي الأغنام بعد انتهاء دوامنا في المدرسة، ولم نكن بحاجة إلى أن نأخذ معنا مطارة الماء التي اعتدنا عليها في الفصول الأخرى. وبعد أن ينتهي النهار تقريبًا، نعود مع أغنامنا قبل غروب الشمس لنتهيأ لتناول وجبة الإفطار مع عوائلنا.
ورغم التعب والمشقة التي كنا نواجهها من خلال تهيئة واجباتنا المدرسية ومساعدتنا لأهلنا في رعي الأغنام، إلا أننا كنا نشعر بلذتين: اللذة الأولى لأننا قمنا بمساعدة عوائلنا، والثانية لأننا كنا نصوم شهر رمضان المبارك. وكل الأعمال الدنيوية التي نؤديها مع فريضة الصيام كانت تزرع في نفوسنا شعورًا بأن هناك ثوابًا وأجرًا كبيرًا لنا عند الله.
هكذا تعلمنا من مجالس كبار السن في قريتنا، وهكذا عرفنا معنى وقيمة الصيام، لأننا لم ندرس في المسجد أو المدارس الدينية، وإنما كنا نتلقى كل التعاليم الإسلامية ومفهوم الحلال والحرام من خلال المجالس العامة التي نحضرها في مجتمعنا الريفي في ذلك الوقت، ومن خلال الحديث مع الأصدقاء وما تعلمناه من معلم مادة التربية الإسلامية في المدرسة.
أما بالنسبة للصلاة، فقد كان الناس يؤدونها في البيوت، كون قريتنا لم يكن فيها مسجد في ذلك الوقت. أما القرى التي كانت فيها مساجد، فإن الأغلبية من كبار السن كانوا يذهبون لأداء الصلاة في المسجد. ولم نكن نعرف صلاة التراويح إلا في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، لأن النخبة من علماء الدين الموجودين في المدن لم يكن لهم دور في القرى والأرياف من حيث التوجيه والزيارات المستمرة لتلك المناطق. ولذلك تجد أن أغلب أبناء تلك القرى والأرياف يؤدون فرائضهم الدينية على مبدأ الفطرة الربانية وعلى ما تعلموه من آبائهم وأجدادهم. وكانت كل التعاليم الإسلامية الموجودة هناك مبسطة وسهلة وبعيدة عن التشدد والتعصب الديني، وكان الأغلبية يؤمنون بأن امة الإسلام هم أمة وسطية ولا يوجد فيها تشدد، وأن الله هو الغفور الرحيم.
كان شهر رمضان بالنسبة لنا شهرًا مقدسًا، وقدسيته تعيش مع أرواحنا أينما نذهب. وكنا نعرف جيدًا مفهوم الحديث بأن الأجر على قدر المشقة، ولذلك تجدنا دومًا لا نجزع أو نتعب أو نمل من تأدية أي عمل بيتي مطلوب. وحتى الأشخاص الذين كانت لديهم وظيفة في الدولة، سواء مدنية أو عسكرية، فإنهم يؤدون مهام وظائفهم بأتم صورة ويعودون إلى بيوتهم بعد انتهاء الدوام ويعيشون حياتهم الرمضانية مع عوائلهم أسوة بغيرهم…
هكذا كان رمضان في السابق، يبدأ بالنية الحسنة وينتهي بالقناعة، ولا يهم الصائم أنواع الأكل أو أشكالها أكثر مما يهمه مفهوم الأجر والثواب لهذه الفريضة.
وإلى حلقة أخرى إن شاء الله، ورمضان كريم.