كان أغلب أبناء الريف، وخاصة الكبار الذين يأتون لزيارة المدينة، سواء لغرض التسوق لعوائلهم ، أو لغرض مراجعة طبيب أو لأغراض أخرى ويتطلب الامر مبيتهم وبقاءهم في المدينة ليوم آخر، يقومون بالذهاب إلى أحد البيوت من أقاربهم كضيوف معززين مكرمين لديهم، ويقومون لهم بكل واجبات الضيافة. ورغم السكن الضيق الذي تعاني منه المدن، إلا أن واجبات الضيافة موجودة مهما كانت ظروف العائلة.
وما زلت أتذكر جيداً أحد المواقف من إحدى عوائلنا الكريمة التي تسكن مدينة الموصل، وفي أحد أيام شهر رمضان المبارك في سبعينات القرن الماضي، وقد صادف أن قمنا بجلب حبوب الحنطة إليهم من القرية بعد أن تم حصاد أرضهم الزراعية هناك. وقد استقبلونا استقبالاً يعجز الوصف عنه، وكان الجو حاراً كون زيارتنا صادفت في فصل الصيف. وبعد أن وصلناهم في ساعات العصر، كان إصرارهم على بقائنا معهم لمشاركتهم وجبة الإفطار، ورغم محاولتنا العودة إلى القرية، إلا أنهم لم يوافقوا على طلبنا وبقينا عندهم. وما إن حان موعد الإفطار حتى قاموا بتقديم وجبة إفطار تعتبر بالنسبة لنا نحن أبناء القرية مميزة جداً، لأنها كانت تحتوي على أنواع الأطعمة التي قاموا بإعدادها في منزلهم، وكان كرمهم وخدمتهم لنا لا توصف. وأتذكر تلك الشيبة المباركة صاحبة المنزل، والتي هي من أهالي المدينة أصلاً، ولكنها كانت كريمة جداً. وقلت لصاحبي إن هذه المرأة شيخة بمعنى الكلمة، وذلك لحسن استقبالها لنا وكرمها اللامحدود في إعداد وجبة الإفطار.
شعرت أنا وصديقي سائق السيارة البيكب بالفرق بين وجبة إفطارنا في القرية بأنواعها المحدودة ووجبة إفطار المدينة ومأكولاتها، وانت ترى سفرة رمضان تحتوي على ما لذ وطاب.
هكذا كانت تعيش الناس حياتها، وهكذا كانت الفروقات بين حياة المدن وحياة القرى، ولكن الجميع كانوا يشعرون بالسعادة وجميعهم راضون بما قسم الله لهم. وتجد الصيام في هذا الشهر الفضيل يلتزم به الجميع ويؤدونه بقلوب مؤمنة تطلب الاجر والثواب من الله، وربما لم أشاهد شخصاً مفطراً بصورة علنية في تلك الفترة على الرغم من وجود اشخاص مرضى وحالات يجوز لها الافطار لاسبابها الخاصة ، ولكن الجميع مقتنع ان لرمضان مكانته الإيمانية وقدسيته داخل النفوس.
كانت الناس تعيش على الفطرة الربانية، فلم يكن هناك دروس تعلمناها في المساجد التي لم تكن موجودة في قرانا، ولم تكن هناك مواعظ نسمعها من شاشات التلفزيون أو أجهزة المذياع لأنها لم تكن موجودة أو ربما قليلة جداً. ولكننا تعلمنا كل أمور ديننا الصحيحة عن طريق ما نسمعه من أهلنا كبار السن ومن الأشخاص الراشدين الذين لديهم معلومات دينية عامة ودقيقة ربما تعلموها من مخالطتهم أصحاب الفقه والفتاوى. وكانت توجيهاتهم لنا دقيقة وصحيحة، خاصة فيما يتعلق بأمور الفرائض التي فرضها الله سبحانه وتعالى علينا، ومن ضمنها صيام شهر رمضان.
وإلى مقالة أخرى، ورمضان كريم مبارك.