23 ديسمبر، 2024 10:00 ص

رمضانيات – 7 /  سعدي يوسف !

رمضانيات – 7 /  سعدي يوسف !

حين أرسل مخفورا من سجن البصرة الى سجن نقرة السلمان ، كان الشرطي الذي يمسك به يتلفت يميناً وشمالا ، مخافة أن يهرب السجين الشاعر ! لكن سعدي يوسف عندما وضع قدميه في محطة قطار السماوة ظلّ ينظر الى النخيل العالي الذي يقترب من السماء ليصور المشهد عبر قصيدته الرائعة ( سيدة النهر ) !
توهمت أن نخل السماوة ، نخل السماوات !
القصيدة حفظها تاريخ الشعر فهي صالحة لكل الأزمان ، ومنذ عقود طويلة كلما نقرأ ( سيدة النهر ) كأننا قرأناها للتو ! وهكذا هو سعدي يوسف الشاعر الذي كان ومازال يرى الاشياء بطريقة الشاعر الكبير الذي يؤلمه أن نفوساً جائرة بغت على وطنه وسلبوا منه حتى حق العودة ! بعد رحلة من الكفاح الطويل جاب سجون الوطن ، فمن سجن البصرة الى سجون بغداد وحتى سجن نقرة السلمان ، السلمان هو من أقذر السجون التي عرفها العراق ، ملعون ذلك الذي أختار مكانه ! المكان نائي ، وفيما إذا فكّر السجين بالهرب سيكون الموت قد تلاقفه قبل أن يصل الى بّر الأمان ! فالصحراء مملوءة بالذئاب التي تعتاش على لحوم البشر التي تنقطع بهم الطرق ! لا طريق من سجن نقرة السلمان يؤدي الى الحُلم !
كانت تهمة سعدي يوسف هي ( الشيوعية ) لكنه ظل مخلصاً لها حتى أنه أطلق تسمية جديدة لنفسه قبل سنوات قليلة هي (الشيوعي الأخير) ! بعد أن تخبط الحزب الشيوعي العراقي بقراراته وتحالفاته ما بعد سقوط النظام ! لم يكُ يوسف قد صُنف ضمن جيل من أجيال الشعر العراقي ! فقد برز بعد جيل الرواد ، وكان وحده جيلا بأكمله !

ذهب الى الجزائر يعمل بمهنة التدريس ثم عاد الى الوطن ، وفي أوآخر السبيعنات غادر العراق مرغما بعد انهيار الجبهة الوطنية ما بين الشيوعيين والبعثيين !
لينطلق الى عوالم وفضاءات جديدة ، جاب الكثير من مدن العالم ، دمشق وبيروت وعمّان والقاهرة والجزائر والمغرب ودول الخليج العربي ثم باريس وموسكو ونيويورك ليستقر به المطاف منذ عقد من الزمان في مدينة الضباب لندن ! وأين ما يذهب الشاعر يصدر مجموعة شعرية فهو غزير الانتاج ، وكمن يرصد الاشياء من حوله  بدقة متناهية وبطريقة رائعة ! فدائماً ما يدهشنا يوسف بقصائده عالية الجودة التي أرشفت لتاريخ طويل عريض من النضال والتضحيات والحب والموت والحياة الاجتماعية سواء كانت داخل العراق أو خارجه !
لم ينتج شاعر عراقي ولا عربي دواوين شعرية ومجلدات مثل ما انتج سعدي يوسف فهو يكتب كل يوم وكل ساعة ، الشعر يعيش معه كما يعيش في داخله ولم يفارقه يوماً أبنه ( حيدر ) الذي رحل عن الدنيا ! حيدر مع سعدي في كل مكان يكون فيه ! كذلك الوطن العراق فهو يحمل همومه منذ عقود مضت ! حتى أنه اشترى قبل سنوات قلادة ذهبية رسمت عليها خارطة العراق ، وكان العراق قريبا على قلبه ! إلا أن لصاً ما في العاصمة السويدية استوكهولم سرق القلادة التي تحمل العراق  ! كان أمر السرقة قد ألمّ به ! فكيف وسكان المنطقة الخضراء بعمائمهم وشراويلهم قد سرقوا العراق بأكمله ! سرقوا الارض وبدأوا توزيعها على الدول المجاورة وسرقوا ثرواته وأودعوا الاموال في حساباتهم ! وعلاوة على  ذلك فالشعب داخل العراق يقتل يوميا عبر المفخخات الاسلامية !!

لقد كان سعدي يوسف يحلم بالعودة الى العراق بعد ذهاب الدكتاتورية المتمثلة بنظام صدام حسين ! لكن أمريكا واعلانها لاحتلال العراق وكذلك الاحزاب السياسية التي طبلت للاحتلال وذهبت بالعراق الى نفق مظلم ومازال ! من حق الشاعر أن يكتب ويشتم العملاء والدخلاء وأصحاب النفوس الضعيفة الذين أوصلونا الى مستقبل مجهول ومخيف في ذات الوقت !
أن الامة التي تحاول النيل من شعرائها ومثقفيها لهي أمة فاشلة بكل المقاييس ! فالشاعر دائما يخاصم الواقع رغبة منه في التغيير الى الافضل والاجمل !
ولعل بعض المجندين من قبل الاحزاب الاسلامية الذين يشتمون سعدي يوسف مقابل ثمن قبضوه ! هؤلاء في الواقع لا يعرفوا السّر الذي يحمله الشاعر ! ولا الروح الشفافة التي يتمتع بها !
فتحية الى سعدي يوسف الذي علمنا الشعر وعلمنا النضال وعلمنا حب الوطن وعلمنا أن نقول الصدق ، وتحية ايضاً الى سيدة النهر التي ألهمتنا الشعر منذ خمسين عاماً  ومازالت ! !