27 ديسمبر، 2024 4:19 م

رمضانيات / 18ــ حياة ثالثة !

رمضانيات / 18ــ حياة ثالثة !

بالقرب من سجن ( جويدة ) داخل العاصمة عمّان كان يسكن محمد تركي النصار وعلي السوداني في غرفة صغيرة جدا! الغرفة ملتصقة بسياج قصرٍ كبير يملكه القاص الاردني ( نازك ضمرة ) وهو قاص كان يقيم بالولايات المتحدة الامريكية لسنوات طويلة ومن ثم عاد الى الاردن ليواصل مشواره في كتابة القصة القصيرة ويحب الكتابة عن نفسه كثيراً  وبخاصة من العراقيين ! وقد كتب الكثير من النقاد الذين مروا مرور الكرام داخل عمّان عنه وعن تجربته القصصية البسيطة في محاولة للحصول على المال !
 ذهبت في ذلك اليوم برفقة النصار والسوادني الى غرفتهم واشتروا الطعام والشراب ، كانت ايامنا الاولى داخل العاصمة عمّان والجميع يمّر بظروف غاية في الصعوبة ! الغرفة عبارة عن مترين بمترين ونصف لا اكثر وفي داخلها حجاب من القماش يفصل ( التواليت ) عن الغرفة ! و ( الجولة ) تتوسط الغرفة بنارها الزرقاء التي تستخدم للطبخ والتدفئة في آن واحد ! وأثناء الجلسة التي تخللتها الكثير من مفارقات علي السوداني والضحك على الوضع المأساوي الذي نمّر به ! السوداني يلعن بنازك ضمرة وغرفته البائسة ! ومحمد النصار يغرق بالضحك !
ثم طرق الباب وإذا بصاحب البيت ( ضمرة ) الذي دعانا الى شرب الشاي في بيته ، كانت صالة القصر أو البيت الكبير مكتظة بكتبه التي اصدرها في القصة القصيرة عن دار نشر راقية ! وبينما علي السوداني يحدثه عن تطورات القصة داخل العراق ، كان محمد النصار يقترح عليه قراءة المملكة السوداء وفي 45 درجة مئوي لمحمد خضير !
وأنا أنظر لمشهد الرجل الكبير بالسن الذي يحاول أن يكون علما من اعلام القصة الاردنية ، لكنه لم يفلح ! ولم يحصل على كلمة في صحيفة أو مجلة من علي السوداني ولا محمد النصار الامر الذي افتعل أزمة بحاجته للغرفة التي وهبها لهم ليتم تشريدهم منها !!

عدنا الى الغرفة لاكمال سهرتنا التي ظلّ الضحك سائداً فيها ، الامر الذي جعلنا ننسى كل آلامنا والصعوبات والمطبات التي انصدمنا بها في عمّان !
وفي اليوم الثاني خرجنا بأتجاه المدينة بأنتظار الباص الذي سيقلنا الى وسط البلد ، كان سجن ( جويدة ) شامخاً من مسافة قريبة  وعلي السوداني يحدثنا عنه وعن نزلائه والدخول إليه يكون بسهولة ، أما الخروج منه فهو من المستحيلات !
بعد فترة جاءت عائلة علي السوداني من بغداد المتكونة من زوجة وطفلين الامر الذي أنتقل محمد النصار الى وسط البلد وعمل في دار الشروق كمصحح !
 ساعات طويلة يقضيها النصار بتصحيح الكتب في تلك الدار مقابل راتب لا يتجاوز ال 90 دينارا ! لكنه كان سعيدا بهذا الوضع خاصة وأن مكتب الدار يقع بالقرب من مقهى السنترال فيقضي ساعة استراحته داخل المقهى بلقاء بعض الاصدقاء وأنا أولهم !
محمد تركي النصار كان كريما طيباً ونبيلا في ذات الوقت ، وهو المثقف والشاعر الذي له بصماته داخل الساحة الثقافية العراقية خاصة بعد أن اصدر مجموعته الأولى السائر من الايام بداية العقد التسعيني لتكون علامة واضحة بالتحولات داخل الحداثة وبخاصة في الشعر وقصيدة النثر ، ثم أصدر مجموعة ثانية تحت عنوان ( تنافسني على الصحراء ) .
في قصائد النصار التي لا تخلو من الجانب الفلسفي المبسط يحاول  أن يقترب من الالم الذي ظلّ ملازماً  له ولسنوات طويلة فهو عاش الغربة داخل العراق بعد أن أنتقل من مدينته الناصرية الى العاصمة بغداد لاكمال دراسته الجامعية وبعد أن حصل على معدل ممتاز يؤهله للدخول الى كلية الهندسة ، تركها ليذهب الى كلية الآداب ويدرس الادب الانكليزي ! فكان طموحه الشعر لا أكثر !
فعاش في غرفة داخل بغداد بعيدا عن أهله ومدينته ، لكنه اصبح أبن العاصمة التي خبر اسرارها جيداً ! في واحدة من صباحات بغداد من عام 1990 مررنا بمقهى حسن عجمي رياض ابراهيم واخي ستار وأنا ، أذكر جيداً لم يكُ احدا من الاصدقاء في الصباح ، عامل المقهى ( ابو داود ) رحمه الله كان يوزع الشاي وسجارته لا تفارق  شفتيه الغليظتين وشكله البغدادي القديم ! في تلك الاثناء دخل محمد النصار الى المقهى ، جلس معنا وقال لم استطع النوم فجئت المقهى بعد أن كتبت قصيدة جديدة بعنوان ( سهوا على مصطبة الظلام ) يقول في مطلعها :
في النظرة تتحاشى مرآتها
في الرماد
يتلمظ
داخل جمجمة الضحية
في الفراغ ينخر ثعبانين أسوديين
مثل سيفين من الذهب … يبكيان
في البلاد البعيدة . ؟
كانت قصيدة محمد التي قرأها لنا ونحن في المقهى صباحا واحدة من القصائد المهمة في تاريخه الشعري الطويل فهي قصيدة ملحمية إذا جاز لنا تسميتها ، لِما فيها من تداخلات تاريخية ومعاصرة وآلام ولوعات وفراق وخراب ودمار وموت وقتل وسجون وتعذيب وفيضانات وفقر وجوع ! واحتجاجات على الواقع المزري والحياة داخل العراق التي كانت تنتظر الخراب في الحرب !
وفي عمّان ظلّ النصار يعمل في دار الشروق وقد تطورت علاقته بالبياتي الذي كان يحب هدوئه وثقافته وروحه الصافية ، حتى فاز البياتي بجائزة العويس ليطبع ديوان محمد تركي النصار الثالث والذي كان بعنوان ( حياة ثالثة ) العنوان شعري بحت وقصائده تنم عن روح الشاعر التي عاشت الحياة بكل صعابها وآهاتها ، لكن في نفس الوقت فأن ديوان النصار الجديد كان يؤشر الى مراحل قادمة ستكون في غاية الخطورة وبخاصة على الوضع داخل العراق !
وقد نظمت أمسية داخل غاليري الفينيق في عمّان بحضور البياتي قرأ في الامسية وسام هاشم وعلي عبد الامير ومحمد تركي النصار ! قدم للامسية الدكتور الناقد علي عباس علوان باربع صفحات ، دراسة نقدية عن الشعر العراقي ، وكانت دراسة مهمة بحق مازلت أحتفظ بمخطوطتها في اوراقي ( ثلاث نخلات باسقات ) هذا هو عنوان الدراسة النقدية التي قدمها استاذ النقد الادبي الحديث علي علوان رحمه الله في  اوآخر العام 1997 .
ليعمل محمد النصار في حركة الوفاق الوطني بعد وصولها الى عمان ، كنت دائما ما أذهب الى غرفته ونسهر حتى الصباح ، وبمجرد أن طرحت عليه فكرة السفر واللجوء ! قدم اوراقه ليخلص من حركة الوفاق وعمّان والعراق ويغادر الى كندا بعد رحلة طويلة عريضة من المرارات والخسارات والفقدان والمنفى في زمن اشبه بالعاق ! ان الزمن الذي عشناه في تلك الفترة كان عاقاً بحق !
إذاً فأن حياة ثالثة لا يمكن الا أن تحقق جوهرها المكثف في الصور الشعرية تارة وصراع الشاعر مع غربته والدماء التي سالت في بلده العراق الذي تعرض الى نكبات ومأساة لم تمّر على بلد منذ نهاية الحرب العالمية الاولى والثانية .!!
لذلك ترى الدماء والموت المخيم على اغلب قصائد المجموعة في اللحظة المتحركة المتسكنة بالرحيل لا بما يقبره الموت !!