27 ديسمبر، 2024 4:31 م

رمضانيات / 16 ــ محمود جنداري !

رمضانيات / 16 ــ محمود جنداري !

في بغداد عام 1992 أفتتح ملتقى القصة الثاني داخل فندق السدير نوفيتيل ، أول دخولي الفندق بصحبة الراحل رياض ابراهيم واخي ستار وصديقي الحميم أبن الموصل  الحدباء ( وجدي ) . ألتقينا بالعديد من الاصدقاء الذي يعشقون مثل هذه التجمعات الثقافية والتي يأتي فيها اغلب ادباء المحافظات . كانت القاعة مكتظة بالادباء حتى وقفنا مع الروائي الكبير عبد الخالق الركابي ومحمود جنداري وآخرين ، صديقي وجدي أحتضن جنداري معانقاً اياه ، وقد تبين أنه  من اقاربه ، كان الشاعر خالد مطلك المسؤول عن حجوزات غرف الادباء في الفندق الامر الذي قام بحجز غرفة خاصة ايضا للشاعر جان دمو الذي جعل غرفته بارا مفتوحا  للاصدقاء !  يدخلون الغرفة متى شاءوا محملين بقناني العرق وينتقلوا الى غرفة كزار حنتوش ! طابق باكمله كان يسيطر عليه جان وكزار وحسن النواب وضياء سالم وآخرون !
في ذلك اليوم كانت سهرتنا في واحدة من غرف الاصدقاء ، وحميد قاسم ينتقل بنا من غرفة الى غرفة الى أن تذكر جان دمو وقال علينا بالذهاب الى جان في غرفته ، دخلنا الى غرفة جان الذي كان يجلس على كرسي وينظر بأمعان الى كأس خمرته ، ثم سمعنا اصوات غريبة داخل الغرفة ، وتبين فيما بعد أن حمام غرفة جان دمو قد فاض فيه الماء ! فالبانيو كان مغلق الفتحة والماء مفتوح على آخره ! قال جان انه لم يستحم داخل الحمام على الاطلاق ! وقد يكون أحد الاصدقاء قد استحم ونسى الماء وغرق الحمام ! جاء خالد مطلك الذي ظلّ يضحك على ما وصلت حالة فندق السدير ، والذي عادة ما يستضيف وفودا من الخارج ! انتهى امر الفندق بيد جان وكزار ! كان ماء الحمام قد دخل الى الغرفة بينما جان كان مشغولا بشربه للعرق ولا يشعر بأي شيء ! نمنا في غرفة احد الاصدقاء حتى اليوم الثاني  !
أضطر خالد مطلك أن يحجز في فندق المنصور ميليا غرفا اخرى لمحمود عبد الوهاب ومحمد خضير القادمان من مدينة البصرة بعد عدم حصوله على غرف داخل فندق السدير الذي كان فيه وفدا من خارج العراق ! في الليل أصطحبنا الروائي عبد الخالق الركابي لفندق المنصور لزيارة اصدقائه عبد الوهاب وخضير ، وفي سيارة الركابي ( تيوتا كرونا ) ذهبنا رياض وستار وأنا . كان محمد خضير ومحمود عبد الوهاب  في غرفة محمد يرتدون الدشداشة . جلسنا معهم ودار حوار طويل عن الادب والقصة والرواية وكذلك الشعر ، ثم طرق الباب وقد جاء محمود جنداري ، الجميع كان يتحدث بصوت منخفض وهدوء رائع وثقافة عالية جداً . لقد قاموا بتفكيك نقدي جميل للقصة داخل العراق والوطن العربي وعرجوا على القصة في العالم ، وكان جاك لندن صاحبة مجموعة ( الكلاب ) احد الذين استشهدوا بهم  ، مروراً بالرواية وماركيز كان له الحصة الاكبر في تطور الرواية عالمياً . كنت مندهشاً لحديثهم القيم والمهم وبخاصة محمد خضير الذي يمتلك ثقافة عالية جداً ويفلسف الاشياء بطريقة رائعة !
أكثر من ثلاث ساعات كنا في غرفة محمود عبد الوهاب رحمه الله الذي كان مبتسما للقاء الاصدقاء وبخاصة جنداري والركابي . بعد منتصف ليل بغداد غادرنا الغرفة بسيارة استاذنا الركابي وأماكن سكنانا قريبة من بعضها  ، أوصلنا رياض ابراهيم بيته ثم انا واخي ليذهب الركابي الى بيته بعد لقاءات جميلة باصدقائه الذين يلتقيهم بين فترات متباعدة وبخاصة  محمد خضير ومحمود عبد الوهاب وجنداري !
وفي عمّان كان قد بدأ صيف عام 1995 وأنا أجلس في مقهى العاصمة حتى دخل الصديق فاضل جواد ومعه محمود جنداري الذي وصل عمّان قبل يوم او يومين وقد أستضافه فاضل وعبود الجابري في غرفتهما وقدموا له كل ما لديهم ، كان صوت طاولي علي السوداني وعبد الستار ناصر عالياً ، انتصار السوداني كان وشيكا على ناصر الذي تظلّم الدنيا في عينه عند الخسارة وبخاصة حين ينقض عليه السوداني كالنسر الجائع وبطريقة جهنمية تجعله يدفع ثمن المشروبات لصاحب المقهى !
محمود جنداري الذي اصطحبه فاضل جواد الى شخص كان يحمل له رسالة من احد المعارف داخل العراق ، الرجل اردني وكانت ثمة توصية له بالحصول على عمل ، عسى ان يجد له عملا ! لكن جنداري عندما ذهب الى ذلك الشخص حاول التملص منه بحجة حفلة زواج ولده او احد اقاربه ، الامر الذي عاد فيه محمود بخيبة أمل ولم يحصل على العمل ! كانت الظروف صعبة جداً في ذلك العام ونادرا ما يحصل الشخص على عمل ما . وكل الذين قدموا عمّان كانوا يحملون رسائل لاشخاص من أجل الحصول على العمل  ، إلا أن الاشخاص يهربون من حامل الرسالة ولا يقدموا اي خدمة له ! حتى قلنا له علي السوداني وأنا ، أن  الامر طبيعي جدا وقد مررنا قبلك بهذا المطب !
فاضل جواد استأذن من جنداري لارتابطه بموعد وأوصاني أن أكون معه ريثما  يرجع ، وبعد أن جلسنا دقائق قليلة أراد محمود جنداري أن يرى المدينة ومعالمها فهو لم يقم بعد بجولة داخل عمّان . خرجنا بأتجاه المدرج الروماني الذي يقع بجانب الساحة الهاشمية ، كان جنداري ينظر الى المدينة بفرح غامر والى الناس بسعادة كبيرة ، وعلى مدى أكثر من اربع ساعات كانت جولتنا في شوارع العاصمة عمّان وصعودنا  الى أعلى المدرج الروماني الذي اصبحنا نرى من عليائه أغلب جبال عمّان السبعة والبيوت  تتدلى منها بطريقة منسقة وجميلة بالرغم من بساطة تلك البيوت !
حدثني عن سجنه وسجن الروائي الراحل حسن مطلك الذي تم اعدامه بعد اكتشاف النظام لمحاولة انقلاب لمجموعة من الضباط والعسكريين  !
كان محمود جنداري قد تم الحكم عليه بالمؤبد وحسن مطلك بالاعدام ! أعدم حسن الذي كان قد أصدر روايته ( دابادا)  وروايات اخرى كانت علامة فارقة في الرواية العراقية بالرغم من صغر سنه ، وقد تم الافراج عن جنداري بعد ان دست له سلطات النظام مادة الثاليوم والتي لم تمهله إلا شهور قليلة بعد أن عاد من الاردن الى مدينته الموصل لانجاز بعض الامور وعلى امل العودة مرة اخرى الى عمّان ، بعد شهر او اكثر وصلنا خبر وفاة جنداري بطريقة أكدها الكثير من الاصدقاء أن جنداري مات بسبب مادة الثاليوم التي دست له وهو داخل السجن قبيل الافراج عنه !
رحل جنداري عن عالمنا بطريقة مؤلمة ومؤسفة في ذات الوقت وهو الانسان المبدع الكبير وأحد عمالقة القصة في العراق الذي يمتلك قلبا طيباً وروحاً صافية . !!