27 ديسمبر، 2024 4:30 م

رمضانيات /15ــ نشيد أوروك !

رمضانيات /15ــ نشيد أوروك !

في بغداد حضرت عرضا مسرحيا مذهلاً ! كانت المسرحية تتحدث بصورة مطلقة عن هذيانات شخص أسمه عبود ، وهذا الشخص عًرّفنا على كل الدمار والخراب والحروب والقتل والموت والسجن والتعذيب والترهيب والفقر والألم والحزن العميق داخل العراق ! لم اصدق وأنا أشاهد ذلك العرض المسرحي الذي كان تحت عنوان ( الذي ظل في هذيانه يقظا ) ! خاصة ونحن في العراق كنا للتو خارجين من حرب طاحنة ! الجيش العراقي باسلحته التقليدية القديمة من جهة ، تقابله أكثر من ستين دولة تقودها الولايات المتحدة الامريكية ! النظام العراق وبعد أنتفاضة آذار عام 1991 كان يشك حتى في ملابسه الداخلية ! كيف سمحت وزارة الثقافة آنذاك بهذا العرض المسرحي ؟ الذي تحدث بالضد من الحياة برمتها داخل السجن الكبير الذي اسمه العراق !
أنتهى العرض وألتقيت كاتب المسرحية الشاعر عدنان الصائغ وقبلته لهذه الجرأة والشجاعة الكبيرة . بعد ايام من عرض مسرحية الصائغ كانت التقارير قد وصلت الى أصحاب القرار الامر الذي تمكن الصائغ من الخروج الى الاردن بعد ان وجهت له دعوة رسمية ، وقبل أن يبدأ أستدعائه كان عدنان  قد وصل عمّان !
وبعد سنتين عاش الصائغ داخل العاصمة عمّان بصحبة عائلته الصغيرة المكونة من زوجة وطفلين ، وفي أوآخر عام 1994 وعند وصولنا الى عمّان سألت عنه وتبين أنه يأتي المقهى فقط في يوم الجمعة ، عدنان الصائغ شاعر مثابر ويعمل بجد ، ليس له صلة بالجلوس اليومي داخل المقاهي ولا في البارات فهو لا يشرب ولا يدخن ، لكن روحه الطيبة تحتم عليه تفقد اصدقائه في كل يوم جمعة . وهكذا كان لقائي بالصائغ في اول يوم جمعة من وصولي الى عمّان داخل مقهى العاصمة ، جاء بصحبة ولده مهند الذي كان عمره لا يتجاوز التسع سنوات آنذاك . ضحكته وطيبته ومساعدته للآخرين كانت تنشر الأمل والتفاؤل داخل نفوسنا نحن القادمين الجدد لتلك المدينة المقفلة على ذاتها !
ذهبنا الى بيته محمد النصار ونصيف الناصري وأنا ، قال أنه يسكن في منطقة الشميساني مقابل المركز الثقافي الملكي ! وهذا المكان لا يسكنه إلا الاغنياء ! اسئلة كثيرة كانت تجول في داخلي ونحن في الطريق الى بيت الصائغ ، وحين وصولنا تبين أن عدنان الصائغ وعائلته يسكنون في قبو موحش ومظلم وصغير تحت واحدة من عمارات الاغنياء ! قدمت لنا زوجته الرائعة أم مهند ما كان متوفر في البيت من طعام ، كان عدنان يشجع الجميع على الخروج من العراق والخلاص من الوضع المزري في الداخل ولا يشجع على العودة الى العراق بالرغم من الحالة المأساوية التي يعيشها هو وعائلته ، فهو مجبور ومطلوب داخل العراق !
وهكذا أستمرت لقاءتنا بالصائغ في يوم الجمعة داخل المقهى فهو يعمل داخل البيت بتصحيح بعض الكتب التي تعينه وعائلته على العيش !
أيام مضت وأنا منشغل بالعمل واحاول الحصول على استراحة في يوم الجمعة ما بعد الظهر ليتسنى لي الوصول الى المقهى ولقائي بالاصدقاء ، أول دخولي المقهى في ذلك اليوم رأيت عدنان الصائغ يجلس مع الناقد المسرحي عواد علي ، يتحدثون بأمر هام ، قال عواد علي الذي يسكن بغرفة مقابل المدرج الروماني في الساحة الهاشمية مع نصيف الناصري وكفاح الحبيب ويعمل في دار الشروق للطباعة والنشر كمصحح ، أن الناصري قد أمسكت الشرطة به بسبب عدم حمله لجواز السفر ! وهو اللآن في السجن ومن المحتمل سيتم تسفيره الى العراق ! وكان عواد قد ذهب الى مركز شرطة العبدلي وسأل الناصري عن جوازه ؟ الناصري قال أن جواز سفره العراقي مرهون عند صاحب محل للمشروبات الروحية في منطقة الجاردنز ! ذهبنا الصائغ وعواد وأنا الى صاحب المحل ، وقال أن الجواز مرهون على مبلغ سبعة دنانير ! أخرجت المبلغ من جيبي وأعطيته للرجل وبالمقابل سلمّنا جواز السفر . ثم ذهبنا الى مركز الشرطة ، كان صوت عدنان عالياً داخل مخفر الشرطة بعد أن اسمعنا الشرطي كلاملا لا يسر حول نصيف الناصري ، قال سيتم تسفيره ! عدنان هدد الشرطة بخروج الادباء العراقيين في تظاهرة إذا لم يتم الافراج عن الناصري ! وتم الافراج عن نصيف الناصري في اليوم الثاني ! كان قلق عدنان الصائغ على نصيف كبيراً ، وبعد أيام حاول الناصري الرجوع الى بغداد لكنه تفاجأ وهو يركب الحافلة الذاهبة الى العراق بأن جواز سفره ليس معه ! الصائغ قبل يوم عرف بأمر الناصري في قراره بالعودة وأخفى عنه الجواز ، وبهذا يكون عدنان الصائغ قد قدم خدمة كبيرة لنصيف الناصري في عدم رجوعه للعراق في ذلك الوقت الذي كنا في شهورنا الاولى داخل العاصمة عمّان !
كان عدنان الصائغ أكثرنا انتاجاً في الشعر والكتابة وأصدر العديد من المجاميع الشعرية كان آخرها في عام 1996 على نفقة الشاعر الكبير البياتي كتيحة قدمها البياتي لعدنان بعد أن فاز بجائزة سلطان العويس البالغة مئة الف دولار وتعود علاقة عدنان الصائغ بالبياتي منذ ايام بغداد وقبل الحرب بسنوات وقد اهدى البياتي واحدة من قصائده المهمة الى عدنان كتحية وهذا شرف كبير لا يحصل عليه شخص عادي .
كان عدنان قد تم رفضه كلاجيء في الأمم المتحدة داخل العاصمة عمّان وكان عليه الانتقال الى بلد آخر ليحصل على اللجوء ومن ثم ينطلق الى مكان آمن ، خاصة وان المخابرات العراقية كانت نشطة جداً في تلك الفترة وبأمكانها النيل من الاشخاص المعارضين  للنظام آنذاك !
تعب عدنان الصائغ من وضعه ووضع عائلته المعيشي والسكن البائس ، الامر الذي كان يفكر في السفر خارج الاردن ، وقد اسرني بأنه حصل على دعوة للدخول الى سوريا مع عائلته ومنها سيواصل السفر الى لبنان ! الجميع كان يفكر في الخروج الى لبنان في ذلك الوقت ! قلت له لديّ صديق هناك هو صديق اخي ستار قد ينفعك ، اتفقت معه ان ازوره في البيت وآتي له برسالة مني الى الشخص الذي اسمه ( امير الدراجي ) وهو كاتب من طراز خاص ومثقف كبير كان يعمل ضمن منظمة التحرير الفلسطينية منذ سنوات طويلة وشهد حروب لبنان منذ السبعينات ، بعد سنوات التقيت امير في النرويج جاء بعدي بشهور قليلة وكان رائعا بحق حتى رحل عن الدنيا عام 2009 !
سافر عدنان الصائغ الى دمشق وألتقى بمحمد مظلوم وبعض الاصدقاء المقيمين في الشام وبعد استراحة قصيرة واصل سفره الى بيروت وبعث برسالة طويلة لي ولللاصدقاء يشرح لنا فيها عن بيروت والبحر وفيروز ! وقد تنفس الصعداء ، كما وأنه قدم ملفه للامم المتحدة وحصل على عملٍ في بيروت ، رسائل عدنان لم تنقطع عني ففي كل شهر كان يبعث برسالة واجيبه عليها ، اشرح له وضعنا في عمّان وأطمئنه على أصدقائنا جميعا الواحد بعد الآخر !
ألتقى الصائغ بأمير الدراجي الذي اصبح صديقا حميما له وقام بتعريف عدنان على بيروت واماكنها الثقافية وصحافتها . في شتاء عام 1996 نشرت الصحافة العربية خبر صدور كتاب اسمه ( نشيد اوروك ) لعدنان في بيروت وأشرّت الصحافة عليه أنه أطول قصيدة كتبت في تاريخ الشعر العربي ! لقاءات صحفية كثيرة كنت أقرأها مع عدنان بمناسبة صدور هذا النشيد الاوروكي الذي عمل عليه عدنان أكثر من عشر سنوات وهو استكمالا لمسرحيته الرائعة في هذيانات عبود ! كنت في منطقة ماركا الشمالية مع كتبي التي تفترش الارض والى جنبي يقف نصيف الناصري ولمحنا صديقنا الشاعر الفلسطيني عمر شبانة ، سلم علينا وقال أنه قادم للتو من بيروت ومعه مجموعة من نسخ نشيد اوروك لعدنان الصائغ بعثها للاصدقاء هنا في عمّان ، استلمت نسختي التي فرحت بها كثيرا وقرأت النشيد الذي جعلني اغرق في البكاء والنوح على آلام الوطن العراق !
مضى الشهر ولم أجد في صندوق البريد رسالة من عدنان  والشهر الثاني كذلك لم تصل اية رسالة ، قلقت عليه ! بعد ايام كانت رسالة انيقة في علبة البريد بطوابع أجنبية جميلة ، فرحت كثيرا فقد وصل عدنان الصائغ الى السويد بعد رحلة مريرة وطويلة في عمّان وبيروت ! وظل الصائغ يبعث برسائله باستمرار حتى بعد أن وصلت انا النرويج وذهبت لزيارته في مدينة مالمو السويدية وزيارة بعض الاصدقاء ، كريم رشيد ونصيف الناصري وجعفر طاعون ،
وكنت قد جلبت جميع الكتب التي اشتريتها في عمان او التي اهديت لي من اصدقاء ، لكني منذ سنوات افتش في مكتبتي عن كتاب عدنان الصائغ نشيد اوروك ولم اجده ! حتى سألت بعض الاصدقاء الذين عادة ما يستعيرون كتاب او كتابين ،  لم اعثر على الكتاب . وبعد التطورات الكبيرة التي حصلت في التكنلوجيا وعن طريق الفايس بوك ، كتبت مع الصديق الكاتب المبدع حامد المالكي الذي ذكرني باشياء داخل عمّان اثناء زيارته لها في تلك الفترة ليقول لي على سر ! وقد تبين أن الصديق حامد المالكي قد اخذ مني كتاب نشيد اوروك الذي فيه اهداء عدنان ليّ ! ضحكت وفرحت لان الكتاب مازال موجودا ! وحامد قال انه سيبعثه لي من جديد ، فقلت لحامد أنه هدية مني لك ، المهم اني عثرت على الكتاب اخيرا!!
تحية لعدنان الصائغ الشاعر المثابر والجاد والكبير في قصائده وفي روحه الطيبة وهمومه التي تحمل كل هموم الوطن العراق الجريح ، الذي ظل على مدى عقود طويلة ما بين حماقات الطاغية وحماقات الامم المتحدة في حصارها الظالم على الشعب العراقي !
عدنان الصائغ شاعر من طراز خاص وقد فاز بجوائز عالمية وعربية اثناء بقائه في المنفى ، فهو الشاعر الصابر على مصائب الزمن التي جعلته ينتج اطول قصيدة في تاريخ الشعر العربي ( نشيد اوروك ) !