23 ديسمبر، 2024 3:18 م

رمضانيات / 12ــ شتاء عاطل !

رمضانيات / 12ــ شتاء عاطل !

عادة ما يكون الشتاء داخل العاصمة الاردنية عمّان بارداً ، الثلج يغطي المدينة في شهر يناير من كل عام بعد ان يشتد البرد ! كنا في غرفتنا البائسة التي نسكنها نشعر بقوة البرد العمّاني بسبب الابواب والشبابيك التي يدخل منها الهواء بانسيابية ، ورطوبة الغرفة تجعلنا نتجمع بالقرب من ( الجولة ) ثلاثة نقاط تحت الجيم ! أو نعمل موقدا للنار احياناً من الخشب في علبة من علب الزيت الكبيرة ونقوم بثقبها من كافة الجوانب ، لكنها سرعان من تلتهب بالدخان فنقذف بها الى الخارج !
أنتهى الشتاء وبدأ صيف عام 1997 ، وفي الصيف تكثر النشاطات الثقافية والامسيات الفنية يرافقها  مجيء الكثير من الاصدقاء القادمين من العراق واليمن وليبيا واوروبا ، الامر الذي نلتقيهم ونتبادل هموم وشجون ثقافية وانسانية وبخاصة عن الوضع داخل العراق ! كان يأتي في الصيف استاذنا الدكتور عناد غزوان رحمه الله من صنعاء اليمن  ليبقى يوم او يومين ومن ثم يغادر الى بغداد ليقضي عطلته الصيفية مع اهله ! في ذلك الصيف كان مهرجان جرش قد وجه دعوته الى الشاعر جواد الحطاب الذي جاء برفقة صديقه الفنان المبدع كريم منصور ، وكريم منصور من المطربين المخلصين للفن ، كانت اغانيه تغازل  قلوب الناس وبخاصة الفقراء منهم ومازالت ، لم  يظهر على تلفزيون العراق إلا القليل لانه لم يخص رأس النظام العراقي آنذاك بأغنية كما فعلها الكثير من المطربين  وكانوا يستلمون الهديا والعطايا والسيارات من النظام ! حتى قبل ايام قليلة صرح المطرب حسين نعمة ان رئيس الوزراء نوري المالكي قد اعطاه قبل ايام مبلغا وقدره خمسة ملايين دينارا عن اغنية مدحه فيها أو مدح العراق وعمليته السياسية التي تعيش على الارهاب وقتل الفقراء ! لكنه عاد ليقول ان صدام حسين اعطاه الكثير من السيارات الحديثة ومبالغ مالية لا تعد ولا تحصى !
كريم منصور فنان صاحب امكانيات فنية عالية ويمتلك خامة صوتية نادرة ، صوته يحمل كل شجى الجنوب وآلامه ، كان نزيها عفيفياً شريفاً لم يدخل بمثل هذه المطبات والطرق السهلة للحصول على المال والشهرة جراء الغناء والردح الذي قامت به مجاميع المطربين السابقة !  بدأ المهرجان وألتقينا بالشاعر جواد الحطاب القادم من بغداد والذي كان يشغل منصب الامين العام للاتحاد العام للادباء في العراق ، كنا سعداء برؤيته  بعد فراق طال لسنوات ، وللحطاب كارزما خاصة بالطيبة والنبل وهو طاقة شعرية دائما ما تكون موضع اهتمام النقاد بعد أن أصدر اول مجموعة شعرية له في أوآخر العقد السبعيني تحت عنوان ( سلاما ايها الفقراء ) ومنذ ذلك اليوم كان الحطاب يحمل على اكتافه هموم الفقراء داخل الوطن العراق . جاء قاعة الفندق الروائي الياس فركوح صاحب دار ( أزمنة ) ليلتقي بصديقه جواد الحطاب ، ليفاجأه بصدور مجموعته الشعرية الجديدة والتي تحت عنوان ( شتاء عاطل ) كان خبراً جميلا للحطاب ولاصدقائه .
كانت مقدمة الناقد حاتم الصكر لمجموعة شتاء عاطل أكثر من رائعة وتحت عنوان ( حطاب الايام النيئة ) .  في اليوم التالي صادفت القراءات الشعرية للمهرجان في واحدة من القاعات التي عادة ما تكون داخل المدينة فقرأ جواد الحطاب قصيدته الجميلة وهي اولى قصائد الديوان وعنوانها ( التماثيل ) وأمام تصفيق الجمهور وانبهاره بالقصيدة الواضحة المعالم التي قصد فيها تماثيل الرئيس بطريقة غير مباشرة وهو القادم من بغداد ويتبوء منصب الامين العام للادباء ! حقيقة الامر كنت احد الخائفين عليه وانا أصفق للقصيدة بحرارة مع الجمهور الذي تفاعل معها بقوة ! في الجانب الآخر من القاعة يجلس على الارض الشاعر جان دمو مستمعا لقصيدة الحطاب وبالقرب منه الشاعر الفسطيني مهيب البرغوثي ، ومهيب شخصية فنتازية طيبة ورائعة ، كان يحاور جان دمو عن الشعر في العراق حتى خلص لنتيجة واحدة ليصرخ وبقوة ( الشعر عراقي ) ! وقد حاول البعض أخراج دمو ومهيب من القاعة لافتعالهم الصراخ والضوضاء الذي يفتعلونه باستمرار مع  القراءات الشعرية ، وفي اغلب الاحيان يكونوا في حالة سكر شديدة ! لكن تدخل بعض الذين يعرفون دمو حال دون خروجهم من القاعة !
عُدنا من أمسية الحطاب والتي قرأ فيها بعض الشعراء العرب ايضاً ، لنحضّر لجلسة في غرفتنا البسيطة ، ذهبنا نصيف الناصري وأنا الى شقة جواد الحطاب وكريم منصور في وسط المدينة ، وبينما كانوا بأنتظارنا اصطحبناهما الى غرفتنا عند قلعة جبل الحسين ،  إلا أن الصديق فاضل جواد أقترح أن تكون الجلسة في شقته التي لا تبعد عن الغرفة سوى عشرة او عشرين متراً ، وكان له ذلك ، فكانت الجلسة رائعة وقد حضر فيها جواد الحطاب وكريم منصور وكذلك حسب الشيخ جعفر والنحات الراحل اياد صادق وهادي ياسين علي  ونصيف الناصري وفاضل جواد وحسن السعيدي وأولاد فاضل ( براء ، ياس ، أمين ) .
كان احتفالا بالحطاب وصديقه الفنان منصور الذي جاء مع عوده واوتاره التي بدأت تتضارب لتخرج منها أجمل الالحان ، بينما صوت كريم اصبح عالياً ، حتى أن جمع الحضور المتشوق لسماع صوته أجهش في البكاء عندما غنى اغنيته الشهيرة ( بس تعالوا ) ! كانت ليلة كبيرة ورائعة بوجود هذه القامات الثقافية والفنية ! كتب جواد الحطاب أهداءات لنا على مجموعته الصادرة للتو شتاء عاطل ، واحتفظنا بتلك المجموعة كل تلك السنوات لِما فيها من قيمة شعرية عالية . وبعد أن انتهى المهرجان ودعنا جواد الحطاب عائداً الى بغداد برفقة ديوانه الجميل ( شتاء عاطل ) الذي قال في مقدمته الناقد حاتم الصكر :
 ( يهوي جواد الحطاب بفأس الشعر على حطب ايامنا وهشيم أشجارها فيحصد مرارتها ( ثمارها؟) ثم يرتبها نيئة في أنساق شعرية تدلنا على هويتها التهشيمية حتى بدون توجيه لقب الشاعر الحطاب الذي اذكر أنه أستثمره ذات مرة بهذا المعنى .) ..
 غادرنا الحطاب وبقيّ كريم منصور ،  لم يعد الى بغداد وانتقل بالسكن مع مجموعة من الاصدقاء أتذكر منهم عازف طبلة هو أبن مطربة المقام فريدة محمد علي ، فاستمرت لقاءاتنا بكريم منصور الذي زاره البياتي في تلك الشقة ، وعلى مدى شهور طويلة كنا في كل يوم نسهر مع البياتي في مكان ما ، ويشتعل الليل بالخمر وغناء كريم الشجي ، وكلما سمع البياتي صوت كريم ظلت الدموع تنزل من عينيه دون أن يدري !
مازالت قصيدة التماثيل لجواد الحطاب تئن في إذني وهي تقول :
التماثيلُ
بول الكلاب / التماثيل ، نوم السكارى
التماثيل ، سوق الثياب القديمة ِ
بيعُ القناني / النفاياتُ
كم سخرَ الصيفُ ، من درعها المطري
والشتاء تهكمَ من عُريها
والتماثيلُ مشغولةٌ ، غيرُ آبهةٍ بالكلامِ !

هكذا كان يكتب الشاعر داخل العراق وهو يرّمز الاشياء بعيداً عن عيون السلطة ! لكن جواد الحطاب كان واضحاً وصريحا في تلك القصيدة ! تحية للحطاب الذي حمل هموم الفقراء والمساكين في قصائده وتحية مثلها الى فنان العراق الكبير كريم منصور صاحب الصوت الجميل والشجي !!