23 ديسمبر، 2024 9:41 ص

رمضانيات /10  ــ هاشم شفيق !

رمضانيات /10  ــ هاشم شفيق !

كنت صغيراً وأنا أدخل لاول مرة مقهى البرلمان في شارع الرشيد ببغداد ، جئت مع أخي الاكبر ستار الذي كان عمره آنذاك لا يتجاوز الثامنة عشر ، كان ذلك بداية النصف الثاني من عقد السبعينات . أصدقاء أخي كلهم من الادباء الشباب أتذكرهم وأذكر لهفتهم وشوقهم لقراءة الآداب العالمية . كان شاكر لعيبي وحميد قاسم ونجم والي ووسام هاشم وهاشم شفيق وباسم حسن وآخرون . هؤلاء وغيرهم من الشباب اصبحوا فيما بعد جيل السبعينات الشعري الذي حفر بالحجر اسمه ، لكن الكثير منهم غادر العراق الى سوريا ولبنان بعد أن تعرضوا للاعتقال والاستجواب جراء انتماءاتهم الى الحزب الشيوعي العراقي آنذاك ! ومنهم من تزوج وأستقر داخل العراق وواصل مشروعه الشعري ، في عام 1978 – 1979 كانت الهجرة الأول للمثقفين ابتدأت فغادر هاشم شفيق مع الشاعر فوزي كريم بعد ان وجهت لهم دعوة رسمية للمشاركة في مهرجان عربي ، ومن هناك تمكنا من الافلات وعدم العودة الى بغداد ، كما فعلها الراحل كمال سبتي في عام 1987!
ثم سافر من سافر ، والذي بقيّ تم ارساله الى جبهات القتال بعد ان بدأت الحرب العراقية الايرانية عام 1980 ! ومات من مات ونجا من نجا من تلك الحرب ! والذين غادروا العراق قبل الحرب ضاعت اخبارهم عنا ، فالسفر ممنوع والحياة أصبحت داخل العراق أشبه   بمعركة ! سواء كنت داخل المدينة او في جبهات القتال فالامر سيان !!
أنتهت الحرب وبدأت فترة الحصار ! حتى بدأت الهجرة الثانية للمثقفين ، فكانت الواجهة الاردن هذه المرة ! في الاردن كانت الصحافة حرة بنسبة كبيرة جداً ، ولا حظر على المطبوعات ! فكنا نقرأ نصوصا لشعرائنا الذين غادروا اوآخر السبعينات وبخاصة أؤلئك الذين كنت ألتقيتهم وأنا صغير ، وبعد مضي سنوات داخل الاردن ، وفي عام 1998 وهي السنة الاخيرة لبقائنا قبل ان نغادرها الى المنافي البعيدة كان مهرجان جرش قد تم انعقاده ، ودعا جريس السماوي مدير المهرجان وهو شاعر اردني نخبة من الادباء العراقيين الذين كنا نحلم أن نراهم ، فكانوا : هاشم شفيق وسركون بولص وفاطمة المحسن وأدباء عراقيين جاءوا من بغداد واليمن !
فرحت كثيراً وأنا أقرأ أسمائهم ضمن قائمة المهرجان ، وفي القرب من المدرج الروماني ألتقيت الدكتور الناقد علي عباس علوان الذي جاء من العراق قبل شهور ليعمل كاستاذ في جامعة مؤتة التي تقع في مدينة الكرك ، أبلغته بالامر فقال : يجب أن يرى الناقدة فاطمة المحسن فهي احدى تلاميذه في جامعة بغداد . أتصلت تلفونياً بالفندق وطلبت فاطمة المحسن بناءً على طلب الدكتور علي علوان رحمه الله والذي فارق الحياة قبل شهور قليلة ، قلت للاستاذة المحسن أن الدكتور هنا ويريد رؤياكِ ؟ فرحت كثيراً وقالت : استاذي الفاضل ! وعند المساء ذهبنا الدكتور وأنا الى فندق الرجنسي الذي يسكن فيه ضيوف المهرجان ، جاءت فاطمة المحسن لتقبّل أستاذها بحرارة وألتقيت بهاشم شفيق وسركون بولص وكان من ضمن المدعويين حسب الشيخ جعفر وحاتم الصكر وآخرين ، كانت جلسلة عراقية صرف ، الاستذكار فيها والحميمية والضحك والبكاء على حال العراق ! حتى طلبوا مني أن يلتقوا بجان دمو ، في اليوم الثاني أتيت بجان الى الفندق بعد أن رتبت هندامه بطريقة شبه مقبولة !
وأول دخولنا القاعة نهضت الناقدة فاطمة المحسن من مقعدها لتركض صوب جان وتحتضنه وتقبّله ، وكذلك سركون بولص وهاشم شفيق ! كان لقاءً جميلا ومفرحاً للجميع . في اليوم التالي اقمنا سهرة لهم في غرفتنا البسيطة التي تطل على قلعة هرقل بعمّان عند طلعة جبل الحسين ، وجاء الجميع بما فيهم فاطمة المحسن ، وقد تألمت كثيرأً هذه السيدة العراقية المثقفة لحالنا وكيف نعيش داخل عمّان ! السهرة كانت رائعة بوجود الجميع وقرأنا الشعر فيها !
كنت يومياً آتي الى الفندق وأصطحب هاشم شفيق في نزهة صغيرة في شوارع عمّان ، وهو القادم من لندن ، فكان سعيداً بروح الحياة داخل عمّان ، ومن خلال حديثه الشيّق والجميل تبين أنه يعاني من الغربة الطويلة التي قاربت على العشرين عاماً في ذلك الوقت ، وفي سياق الحديث سألني عن البياتي وعن سعدي يوسف ، قلت له أن البياتي في الشام وسعدي كذلك ، وأحتمال أن يعودوا خلال اليومين القادمين ، وعند المركز الثقافي الملكي ونحن نسير بأتجاه الفندق ، قلت له أن بيت سعدي يوسف قريب من هنا ، فقال علينا الذهاب اليه الآن عسى أن يكون قد عاد من سفرته .
وصلنا بيت سعدي طرقنا الباب ، لا جواب ! قلت له علينا ألقاء نظرة الى حديقة سعدي يوسف الجوراسية ، لم تكُ آثار جلوس له في الحديقة ، قلت له إذاً أنه مازال في سفرته !
هاشم شفيق شاعر مهم وله من المؤلفات الكثيرة في الشعر والرواية والسيرة والترجمة ، فهو أمكانية عالية ومعروف داخل الاوساط العربية بشكل كبير ، لكنه كان يحلم بالعودة الى العراق والاستقرار فيه بعد رحلة طويلة عريضة من العذاب والغربة والألم ، وما أن سقط النظام العراق حتى عاد هاشم الى بغداد التي يحب . لكنه صدم بالواقع المرير الذي تعيشه الثقافة العراقية ، ولعل الكثير من مثقفي بغداد الجدد الذين ينتمون الى الاحزاب الاسلامية بعد أن كانوا ينتمون الى حزب البعث ونظام صدام حسين ! حاولوا بكل الطرق أبعاد شفيق عن أي وظيفة داخل وزارة الثقافة ! الامر الذي عاد من جديد الى المنفى بعد أن فقد الامل بالاستقرار داخل وطنه ! ما حدث لهاشم حدث لشاكر لعيبي ولزاهر الجيزاني ولآخرين من شعراء العراق الذين يقيمون خارج الوطن منذ عقود طويلة ! في الوقت الذي يتبوء الوظائف داخل وزارة الثقافة جلهم من البعثيين الذي كانوا سبب تدمير الثقافة العراقية في زمن صدام حسين ! وسرعان ما بدلوا جلودهم لينتموا الى تلك الطائفة وذاك الحزب في واحدة من أقذر التصرفات التي تمارسها تلك النماذج الشاذة عن تاريخ ثقافة العراق !
لدينا الآن داخل بغداد مئات الصحف والمجلات والفضائيات والمؤوسسات الثقافية لكنها في الواقع تعمل بطريقة طائفية وبأستثناءات قليلة جداً !
وهناك البعض ممن يترددون على بغداد من الشعراء وهم  يقيمون في دول اوروبية ، تم تعيينهم كمستشاريين في وزارة الثقافة أو في رئاسة الجمهورية ويقبضون رواتبا عالية جداً ، لم يكن لهم تاريخا شعرياً ، لكنهم الاقرب الى بعض الاحزاب الدينية والاقرب الى الطائفية ، كما وأن الدعوات الثقافية للمهرجانات داخل العراق والتي توجهها وزارة الثقافة او اتحاد الادباء دائما نفس الوجوه تكون هي المدعوة ونفسهم الذين يقبضون رواتبهم بآلاف من الدولارات شهرياً ! أما بالنسبة لهاشم شفيق وشاكر لعيبي وآخرين فلا أحد يريدهم أن يأتوا لبغداد مخافة أن يحصلوا على وظائف تليق بمستوياتهم الثقافية وتاريخهم الكبير في الشعر وشهاداتهم العالية التي حصلوا عليها من افضل الجامعات في بريطانيا ودول اوروبا !
كان على الحكومة العراقية وبخاصة وزراة الثقافة أن تهتم بأدباء العراق الذين أجبروا على الهجرة بسبب نظام البعث ، ومثلوا العراق في دول العالم أفضل تمثيل ، وحصدوا الجوائز العالمية في الشعر والقصة والرواية والفن التشكيلي والمسرح وفنون اخرى ، لا ان تتم محاربتهم بهذه الطرق النابعة من عدم فهم حقيقي للثقافة العراقية ولا لمبدعيها الذين تحملوا آلام الغربة لعقود طويلة جداً .
فتحية لهاشم شفيق شاعر العراق الذي يغرد بقصائده دائماً في كل عواصم العالم التي ترحب به وتحتضن ابداعه ، بينما عاصمتنا بغداد لا تحب مبدعيها بسبب المتخلفين الذي يقفون على رأس السلطة الثقافية !!