23 ديسمبر، 2024 10:35 ص

رماد الأسئلة … بقايا الأجوبة

رماد الأسئلة … بقايا الأجوبة

ترفل مجموعة ( رماد الأسئلة )(1) للشاعر المبدع ( حبيب السامر ) بوتريات وجدانية مربوطة بــ ( كمنجة ) الشعر ؛ إذ يعمق في أحافير الذات المأزومة سمات قارة ، ضمن تعالقاته الذاتية على وفق منظومة جمالية يتعالق فيها المعنوي مع المادي ، بدءاً من العنوان الاستعاري في بنية علاقة المضايفة ( رماد الأسئلة ) فالرماد ما تبقى من النار أو طفلها الميت الذي لم يتغذَ ، فالأسئلة كانت ناراً لم يكتب لها ديمومة التوهج ؛ مما جعل النار حقيقة مستلبة من توهجها فاستحالت رماداً للأسئلة غير المجابة أو التي تلونت بالقتامة .. قتامة الرماد . ولعلنا نلمس حرص الشاعر على استبقاء ما تبقى من وطنه في قصيدة ( مطر يبلل قاماتنا ) إذ يقول : ( الوعول تحرث مدني ، سأدخر بعض تراب ) ص 7 فالشاعر يمد عروق انتمائه إلى أكثر من مدينة ؛ لذا فأي تراب منها يفي بهذا الإدخار بدلالة تنكير كلمة ( تراب ) ثم أن النص يفصح عن سرعة الإدخار بتوظيف ( سين ) الاستقبال ذات الزمن القصير ، قبل تغيير الوعول لوجه الأرض ، فلا يبقى منها قطعة أصل سوى عند الشاعر ، ويشتغل الشاعر ضمن رؤية سريالية خاصة كانت لوحتها راحة يده ( فوق راحتي انشطرت غيمة ) ص 8 فثمة علاقة جدلية بين راحة الشاعر ( السماء ) وبين الغيمة المنشطرة ( التجاعيد ) ولعل الشاعر يريد أن يعكس المعنى ؛ ليشير إلى أن راحته ( أمنه وسكونه ) لم يعد كما كان ، بل أصبح مضطرباً ملبداً بالغيوم المنشطرة ، كما يلجأ الشاعر إلى الانشطار الذاتي في نص صوفي ، يفصح عن ثنائية النفس الواحدة التي تدور في حيز الانتظار ( أنا أم أنا من ينتظر الآخر ) جاء الضمير الذاتي (أنا) مفصحاً عن ذات غير متضخمة ذات صوفية مفعمة بالانتظار للآخر وقد يكون الآخر ( هو ) لتتواشج الذوات وتنصهر في ذات واحدة ضمن بوتقة الوجود أو الظهور إذ غالبا ما يعيش الشاعر وفي كينونته ذلك القلق المستديم المتواصل الذي يخرج بالبوح الصوفي عن نفسه الهائمة ، التي هي بؤرة عينيه التي ترى ما لا يراه سواه ، ويستجلى ذلك من خلال أدلته البرهانية فــ ( السكين برهانه الجرح ) ص 11 فلا برهان في الحياة من دون ألم ، أما قصيدته ( حارس آخر الليل ) فإن التماس اليقظة للذات المتعبة الساهدة يجسدها الشاعر في لقطات نفسية مدهشة ( والحارس لا يزال يقرص نعاسه بالدخان والسعال ) ص 15 فالقرص فعل إنجازي للبقاء متنبهاً ؛ لكي لا يغفل عمن تسول له نفسه بالسرقة إلا أن هذا القرص للنعاس لا يتم بما هو معروف ( الأصابع ) بل بالدخان والسعال ، إذ إنهما يبقيانه متيقظاً فمساحة القرص تأخذ هنا امتداداً أعمق مما يأخذه القرص الحقيقي على مساحة ضيقة من الجلد ، فتتسع بذلك الصورة المعنوية لذلك

الحارس المفعم بالنعاس في آخر الليل ؛ لكي يحول بينه وبين النوم من خلال انهماكه بالتدخين والسعال الذي هو منبه صوتي للعيون ، وعلى وفق ذلك فإن الشاعر خلق دوراً مهماً بالمماحكة بين النوم وبين عدوه السعال ، بعدم استقبال أحدهما للآخر بتدفق السعال عليه . إن استعمال الفعل الانجازي ( أخلدوا ) في قصيدة ( المجنونة ثانية ) قد أوحى بنفي النهار ( أخلدوا للنوم المضجر / أيها المجانين / النهار لن يطلع غداً ) ص 21 فالنص يشي بالاحتجاج على طرفين لا يقبلان الحياد هما ( الليل / النهار ) ولتصعيد النهار على الليل جعل النهار منتظراً منفياً بأداة النفي التأبيدية ( لن ) لكن مفردة ( غداً ) تجعلنا نتأمل أن يطلع النهار بعد غد !! حتى لو كان الليل طويلاً .. وجاء الاحتفاء بالرأس ؛ ليمتاح من التناص القرآني (وَأَمَّا الْآَخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ) كما في قصيدة ( أيها الرأس حتماً سيهنئك الغراب ) إذ يخاطب الشاعر الرأس قائلاً ( أيها الرأس بك انبهرت الدنيا / وأنت القابع ، القانع فوق جسدي ) ص 31 فالرأس مركز الحواس والتفكير وبه يتواصل الإنسان مع الآخر ، فالرأس بنية لامة لمقومات الجسد وحواسه ومدركاته الحسية والمعنوية ، وتأتي قصيدة ( بلورات العمر ) ليحشد فيها الشاعر طاقة استعارية لافتة ( يدك تحاصرني / تغسل عيني بالظمأ / وبقايا خثرة القمر ) ص 42 وهذه الطاقة تتأتى من غرابتها يقول الجاحظ ( الشيء من غير معدنه أغرب ، وكلما كان أغرب كان أبعد في الوهم ، وكلما كان أبعد في الوهم كان أطرف ، وكلما كان أطرف كان أعجب ، وكلما كان أعجب كان أبدع ) إن الاستعارة قد جمعت بين الشيء ونقيضه ( غسل العين بالظمأ ) ضمن سياق لغوي أخاذ يتضمن مفارقة مدهشة فضلاً عن استعماله ( بقايا خثرة القمر ) ليوحي ـ ربما ـ ببياض أصابعها ، فهي إيحاءات قد أضاءت دواخل الشاعر التي خلقها بالتداخل والامتزاج .. إستطاع الشاعر أن يبني مجموعته بتقديم ظلال الكلمات على الكلمات فتولدت شعرية كهربت النصوص وأضاءتها.

(1) رماد الأسئلة / شعر / حبيب السامر / ط1 / 2013م من إصدارات مشروع بغداد عاصمة الثقافة العربية .